كتب : محمد حبوشة
لاشك أن تقدم الشعوب وتحضرها يقاس بثقافتها وفنها الذى يعكس هويتها وقيمها وإنسانيتها ووعيها، ويقاس نجاح الفن فى تحقيق المعادلة الصعبة فى الإبداع الذى يترك العنان لخيال المتلقي مع قدرته على طرح قضايا مجتمعه ووضع حلول واقعية له، بل إنارة الطريق بإشارة الأمل التي تفتح له أبواب جديدة فى الحياة، وفى الحقيقة فإن الأعمال الدرامية التي عرضت فى الفترة الأخيرة ولاسيما المسلسلات ذات الحلقات القصيرة نجحت بشكل كبير فى تحقيق هذه المعادلة، فقد دخلت فى منافسة ساخنة لجذب المشاهد مع بداية الموسم الدرامى الشتوى أشعلت الأجواء بموضوعاتها الإنسانية التى تعبر عن الأسر المصرية، ومن أهمها سلسلة (نصيبي وقسمتك) التي بدأها المنتج الجسور (أحمد عبد العاطي) قبل 6 سنوات، أي أنه تحسب له الريادة في ذلك قبل أن يقوم (حرامي الأفكار) بالشركة (المتحدة للخدمات الإعلامية) بالسطو عليها وإعادة تدويرها عبر سلاسل (إلا أنا، زي القمر، وراء كل باب).
ومن ضمن حكايات هذه السلسلة (نصيبي وقسمتك 4) حكاية (أوضة وصالة) التي جاءت في ثوب اجتماعي نجح العمل من خلاله في إحداث نوع من التفاف الأسرة المصرية بكل فئاتها وشرائحها من جديد حول قضية (أوضة وصالة)، بل عاد بنا لزمن الالتفاف حول الشاشة الصغيرة الكبيرة بأعمالها بعمل درامي اجتماعي راق، على مستوى القصة لمؤلفها (عمرو محمود ياسين)، وأبطالها (أحمد عبد العزيز، رشوان توفيق، إنعام سالوسة) وباقي فريق العمل من الشباب الصاعد الواعد، بحيث يمكن استرداد الأمل فى الشاشة لقوتها كنافذة حقيقة للمواهب الإبداعية الحقيقة، وللأعمال المتميزة الدرامية وعودة الريادة في مسلسلات الحلقات القصيرة وبقوة للشاشة المصرية كما حققتها سلسلة (نصيبي وقسمتك) قبل 6 سنوات.
حكاية (أوضة وصالة) ظلت تتصدر الترند طوال فترة عرضها (5 حلقات) لأنها تعيد أمجاد أحمد عبد العزيز في الدراما الاجتماعية (المال والبنون، الوسية، من الذي لايحب فاطمة)، ومثل تلك الأعمال الصادقة من شأنها أن تنقل صورة واقعية وصادقة، في ظل الدرامات الاجتماعية التي أصبحت معاول هدم للقيم والأخلاقيات؛ فالدراما الاجتماعية سلاح ذو حدين، إما أن توظف لخدمة قضايا المجتمع الحقيقية أو دراما تدمر المجتمع، وهذا أخطر ما يمكن، فلايصح تحت حرية التعبير أن نكسر قيم وأخلاقيات المجتمع، في وقت أن المجتمع في أشد الاحتياج للدراما الاجتماعية، التي تعيد بناء الإنسان المصري.
حكاية (أوضة وصالة) تنتمي لنوعية الدراما الاجتماعية التي تستدعي على الدوام أسئلة مقاربة، ليس لجهة نسبة مشاهدتها، كما الحاجة لامتدادها على الخارطة الدرامية، بل لما ينطوي عليه خطابها الدرامي من موضوعات جاذبة، أو طاردة لما يمكن أن نسميه هنا بثقافة المشاهدة، لعلها تشكل بعيدا عن نزعات الترف والاستهلاك، الحاجة لثقافة جمالية، لا تعوض بؤسا بعينه، بقدر ما ترتقي بالواقع وأسئلته، لتصوغ وعيا جماليا ورؤيويا، ومن ثم جاءت حكاية (أوضة وصالة) معادلة صورة تعكس الواقع وتفارقه بآن واحد، دون أن تجعل من شخصياته أنماطا جامدة لا سيما في الأعمال التي تمثل ألفة مع المتلقي ويلتقي معها مزاجه النفسي وأفقه الفكري.
وكثيرا ما يتساءل الجمهور عن نسبة الخيال في عمل درامي في مقابل ما يرجحونه من أن الواقع الدرامي لم يتطابق مع ما يعرفه، وبمعنى آخر لا يذهب الرأي هنا إلى ضرورة مطابقة الأعمال الدرامية الاجتماعية لما هو مألوف وسائد، بل بتوظيف معرفة تضيف لأسئلة المتلقي على اختلاف مستويات التلقي، فالواقع الاجتماعي في الحيز الدرامي، هو واقع افتراضي، لكنه يشي وربما يحاكي ليبني منظورا مختلفا لإشكاليات وتناقضات، بما يعنيه من انتباه لشرط إنساني في واقع متغير، وقوفا على ما يعنيه تأسيس (اللحظة الدرامية) التي تنفتح على إبداع الثقافة الدرامية وإبداع خصوصيتها، على مستوى الفكرة والأداء التمثيلي.
ولطالما أصبحت الحاجة ملحة لئن تكون مساحة الأعمال الاجتماعية مثل (أوضة وصالة) هى الأعلى نسبة في المشاهدة، بصرف النظر عن مفهوم الكم الإنتاجي، أو انحساره، فثمة ما يذهب بنا – كما هو مفترض – لحساسية ما يختاره (عمرو محمود ياسين) من موضوعات، كما حساسية المقاربات أو المعالجات في ضوء الاستفادة الممكنة من التقنيات (السمعية – البصرية) على سبيل المثال، ومعه ينتقل متلق تفاعلي من مستوى التأثير والانفعال – على أهمية ذلك، لمستوى وعي يجترح أسئلة إضافية من مثل انحسار البطولة بالمعنى الفردي، لتصبح في تعدديتها مفارقة لمستقر من مفاهيم معينة، فالنص الدرامي لم يعد لذاته، بقدر ما يذهب ليؤلف مع مشتركات أخرى حساسية تعبيرية تتكئ على الواقع، لكنها تفارقه لتقدم برهات ارتطاماته، كما تتبدى في المخيلة الدرامية، بالانطلاق من ما تمثله أعمال درامية هى قيد انتظار المتلقي، من استعادة معنى المغامرة الفنية، لا سيما ما انطوى منها على (تجريبية) واعية لأدواتها، وعلى الأخص الجانب التقني – السينمائي – استجابة لحداثة الشرط الفني المتغير.
فإذا كان العمل الدرامي الاجتماعي على سبيل المثال لا الحصر (أوضة وصالة) عن نص لعمرو محمود ياسين، وبتوقيع عصام نصار، وبمشاركة نخبة من نجومنا المصريين من الكبار والشباب، وبدعم قوي من جانب المنتج أحمد عبد العاطي سيستعيد جدلية ومفهوم (الدراما الاجتماعية) في فضاءات مختلفة، بما سيشيره من أسئلة تمثل لدى المتلقي طريقة جديدة لتأويل قضاياه ومساحاته الحميمة، ولحظاته الإنسانية، مع التوغل في مقاربة المساحات (التراجيدية الإنسانية)، وليس الأمر هنا محض معالجة لدواخل لشخصيات، يمتحنها (الشك) والارتياب، بقدر ما يستبطن – النص – حساسية الرؤية، لاسيما في الفضاءات الإنسانية المتعددة، التي يفضي تأويلها انتباها لتوتر النص الدرامي كما معالجته، بين لحظتين فارقتين: الدهشة والمعرفة.
رهانات (عمرو محمود ياسين) في (نصيبي وقسمتك) في جزئها الرابع يحمل قدرا هائلا من الخيال الإنساني الذي يصعد جماليات لغة بصرية، لعلها كثافة الواقع أو المتخيل في حكاية (أوضة وصالة) أو كثافة المضامين الإنسانية، حيث الامتلاء الذي يأخذ من الحياة مؤثراتها الحكائية الإيحائية والدلالية، إذ إن ما تذهب إليه الدراما الاجتماعية – كما ينتظر – من الأعمال التي تتوالى عناوينها على الأقل، هو تقويض نمطية الحكايات واستعادة مقولة (الاجتماعي) في الفضاء الدرامي بالمعنى الحداثي والمعاصر أي غنى الصورة وعمق الطرح، وصولا لحساسية لغة درامية تبث في مستوياتها لحظة معرفية أكثر انفتاحا وتعددية في تأويلها الإنساني الثري الذي يفيض عذوبة ورقة.
صحيح أنه على حد قول بطل الحكاية أحمد عبد العزيز، أن كتابات عمرو محمود ياسين، تذكرنا بدراما الثمانينات والتسعينيات، لأنه يكتب على نفس المنهج، فقد انشق عن السياق السائد هذه الفترة، فأعادنا لشعور الدرامة الدافئة، وقربنا خطوة لزمن دراما (المال والبنون)، وأضاف: لو كنا بالفعل نود العودة لمستوى الدراما التي نتحدث عنها فعلينا توفير باقي العوامل التي تنقصنا ومنها كثرة الكتاب، فقديما كان هناك جيلا كاملا من الكتاب الأستاذة، كل منهم نجم بالعمل، وأيضا جيل من كبار المخرجين أو أكثر من جيل جميعهم تشبعوا فن، كما ينقصنا أيضا أن ننظر للعمل نظرة فنية وليست مادية كما كان الأمر قديما، فهي عدة عوامل إذا اجتمعت نعود لمجد الدراما التليفزيونية، ولكن لا ننكر أننا قطعنا خطوة في طريق العودة بمؤلف شاطر وتسكين أدوار محترفة كل في مكانه.
لكني أستطيع القول من خلال مشاهدة متأنية للحلقات الخمسة أن أحمد عبد العزيز نجح في شد أوتار الدراما بأداء هادئ لكنه ممزوج بمداد ترجيدي ناعم في انسجام وحنو بالغ الدقة مع كل من القديريين (رشوان توفيق، وإنعام سالوسة)، وباقي فريق العمل (فريد النقراشي، الذي يذكرنا بأداء النجوم القدامى في الشر بتونات صوتية مميزة تخربش الذاكرة، والشباب الواعد (أحمد عنان بحيويته وتمرده المحبب، عمر محمد رياض في هدوئه اللافت للانتباه دون تشنج، شاهيستا سعد في براءة وجه نادرة، محمد عزمي في أداء فارق لذوي الاحتياجات الخاصة، عمرو جمال في إنسانية رائعة، محمد فتحي في بلاهة وعنف محسوب)، فضلا عن كاميرا ذكية في اختيار زوايا التصوير من جانب المخرج الموهوب (عصام نصار)، ما أفضى بالضروة إلى عمل إنساني بديع على قلة عد الحلقات.
لم تفلت حلقة واحدة وجود أكثر من ماستر سين، لكني أتوقف أمام لحظات وداع (هادي/ أحمد عبد العزيز) لزوجته الراحلة في نهاية الحلقة الأخيرة في لحظة فارقة بعد أن أبلغة عباس بإخلاء شقته المهددة بالسقوط، وجاء أداءه على نحو منودارمي كالتالي:
يدخل هادي سطوح البيت ويقف أمام زرعة الورد التي زرعتها له زوجته قبل رحيلها في حزن وأسى ليقول مخاطبة روح نوال زوجته في مرثية لبيته الذي عاشا فيه : أنا ماشي يا نوال .. كلنا ماشين .. بس طبعا حاخد الزرعة دي معايا .. أصل الزرعة دي انتي اللي زرعتهالي .. حاخدها معايا .. وفي أي حته حاروحها حارعيها واكبرها زي ما كبرت هنا بالضبط.
ثم يخاطب روح نوال قائلا : تخيلي يا نوال .. تخيلي أنا مش عارف حاروح فين أنا والولاد .. لا إله إلا الله .. بافكر أروح عند ولاد عمي في بني سويف .. ولو ان يعني هم أحوالهم مش قد كده .. وأنا كمان بقالي زمان ماروحتش البلد .. انما معرفش .. حاسس اني ممكن الاقي هناك بيت صغير كده يلمني أنا والعيال .. مش عارف يا نوال .. من ساعة اللي حصل ده .. أنا حاسس اني بقيت ضعيف ومهزوز قدام العيال.
ثم يتدراك الموقف الصعب قائلا : بس طبعا مش مبين .. بصي أنا متوكل على الله .. حاسس ان ربنا لايمكن يخذلني أبدا .. دا انا بادعي بالستر علطول .. وعرف كمان ان دايما الخيرة فيما اختاره الله .. الحمد لله .. الحمد لله .. وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم .. مش كده ؟.
ثم يردف قائلا في نهاية المشهد المرثية الرائعة : لو انت سمعاني أو حاسة بيا ادعيلي يانوال.