بقلم الفنان التشكيلي الكبير : حسين نوح
بتكليف من الدكتور (مجدي صابر) رئيس الأوبرا وفي سياق توصيل الرسالة التنويريه والثقافية إلى كل محافظات مصر المحروسه طلب مني أن أتوجه إلى أوبرا (دمنهور) لعمل ندوة عن الإبداع والجمال والتنوير، وقد تحدد الموعد في السابع والعشرين من شهر ديسمبر آخر أيام نهاية 2021.
وجاء اليوم الموعود ورافقني الفنان (أمين الصيرفي) مدير النشاط الثقافي وصديقي الإعلامي (أسامه كامل)، وانطلقنا إلى الأسكندرية حيث (الأوتيل) ثم إلى دمنهور حوالي خمسة وستون كيلو على الطريق الزراعي.
في الطريق كانت السماء ملبدة بالغيوم، وأخذت أحدث نفسي، غيوم وكورونا وأنا متجه للأوبرا مسرح كبير ولا أقدم إلا ندوة والحديث عن الفنون والإبداع فقط، وتزاحمت الأفكار في رأسي والعربة منطلقه تقترب من مدينة طفولتي ومراهقتي، وبدايات تكويني من خلال مكتبة البلدية التي أنشأها الخديوي توفيق بجوار دار الأوبرا العظيمة سنه 1931.
وفجأة وأنا أفكر وصلت العربة إلي أمام الأوبرا، وهالني مشهد جموع من نساء وشباب وتقدم مني الأصدقاء القدامي من المرحلة الإعدادية والثانوية مرحبين ثم العزيزة (إيمان مكاوي) مدير دار الأوبر بحفاوة، هدأت من قلقي، لم يمضي وقت وصعدت إلى المسرح مع المحاور الأستاذ الفنان (أمين الصيرفي)، ونظرت إلى صالة المسرح الكبير فالإشغال يقترب من الكمال رجال ونساء، ورجال أعمال، وأساتذة من جامعة دمنهور وشباب من كل الأعمار، وبما أني موسيقي وعملت كثير مع أخي وأبي (محمد نوح) وكان يحفزه ويشعل حماسه تواجد الجمهور، فحدث لي نفس الإحساس.
وانطلقت أتحدث عن مشواري الموسيقي مع (نوح) ومع الأوركسترا ثم الفن التشكيلي ودوره في التصالح مع الجمال، ومقولة المفكر ذكي نجيب محمود (من يستطع أن يفرق بين القبح والجمال يستطيع أن يفرق بين الخير والشر)، وتحدثت عن قيمة الكلمة مستشهداً بالعظيم (عبد الرحمن الشرقاوي) حين قال: (الكلمة نور وبعض الكلمات قبور).
وانتقلت أتحدث عن الدراما التي أعتز بها وشكلت وجداني، خاصة المأخوذة عن روايات لكبار الكتاب علي سبيل المثال (ثرثرة فوق النيل) للعظيم نجيب محفوظ، وكيف فعل الكيف والمخدرات وليالي الأنس في مصر والمصريين والنتيجة هزيمة 1967، ثم (قنديل أم هاشم) ليحيي حقي، واستعراض لفكرة الأصالة والمعاصرة، و(في بيتنا رجل) لإحسان عبد القدوس، وانتقلت إلى (الزوجة الثانيه) للمخرج المبدع صلاح أبو سيف.
ثم انتقلت للحديث عن الموسيقي وكيف نفرق بين تنغيم الكلام، ومحض الموسيقي، وهو العلم الرياضي الدقيق المبني علي الكونتربويت والهارموني، ويأتي بالسينفونيه والكونشرتو، والأوبرا والسوناتا.
وأكملت أتحدث عن دور مكتبة البلدية العريقة في دمنهور ومكتبات المدارس والنشاط المسرحي في دمنهور في الستينات، وكيف كان يأتي كبار المخرجين أمثال (فتوح نشاطي) ويخرج الزوجه العاشقه، و(كمال يس) ويخرج المشاغب، و(محمد توفيق)، وَ(عَبَد الرحيم الزرقاني)، ويمثل (محمد نوح، وجميل برسوم، ومحمود الحديني، وسناء يونس)، كانت صغيرة وتأتي إلى دمنهور لتمثل و(هانم محمد) هى الأخرى تأتي من الأسكندرية وكانت العروض تتوالي.
ويعرف الجميع ويتذكر وقت الستينات كانت فرقة البحيرة للفنون الشعبية في زمن المحافظ معشوق دمنهور (وجيه أباظة)، وكيف كانت تلك الفرقة ومديرها (أحمد عسر) تنافس فرقة رضا، والفرقة القومية، وتحصل على جوائز في معظم الدول الغربية والعربية.
ثم انتقلت للحديث عن قهوة (المسيري) مركز تجمع المثقفين، (توفيق الحكيم، ود. مصطفي الفقي، وأمين يوسف غراب، ومحمد غنيم سالم وكيل أول وزارة الثقافة،وَعَبَد الوهاب المسيري، وإسماعيل الحبروك، ومحمد عبد الحليم عبدالله، والناقد علي شلش، وصبري العسكري، وعبد الوهاب قتايه، والإذاعي القدير عمر بطيشة، وفتحي أبو النصر، وخيري شلبي، ومنير الوسيمي).
ثم تحدثت عن كيف كانت طفولتي بين المكتبة والموسيقي وملاصقاً منذ نعومة أظافري لأخي (محمد نوح) فبعد وفاة والدي وأنا في سن التاسعة اصطحبني معه دائماً في إذاعة الأسكندرية، ومسرح دمنهور حتي أني حضرت تصوير فيلم (الزوجة الثانية) معه، وكنت أشاهد النجوم (سعاد حسني وصلاح منصور، وسهير المرشدي، والقديرة سناء جميل)، ومن هنا زاد تعلقي بالسينما وعشقتها إلى أن اتنقلت إلى القاهرة، وكان شقيقي دائم الجلوس على كافتيريا (سوق الحميدية) بباب اللوق مركز تجمع المثقفين والمبدعين وأحياناً علي كافيتريا (ريش).
هكذا كانت بداياتي وساعدتني أمي التي كانت قليلة التعليم غزيرة المعرفة، وأخذت تشجعني دائماً على القراءة وحب المعرفة ودائما وببساطة تتحدث عن الرجل بعقلة وقدرته على الاختيار.
إنها هنا دعوة للاهتمام بالمحافظات فهى ثرية برجالها وبها مثقفيها، فـ (دمنهور) بها (كامل رحومة) المؤرخ والكاتب والباحث، وكذلك (خالد معروف) الذي يطلق عليه الدماهرة لقب (جبرتي دمنهور) فهو العارف للتاريخ لمدينه دمنهور العريقة، وكثير من موهوبين وعباقرة.
يا ساده يا إعلام رجاء لا تهتموا بالفنون في القاهرة فقط ارسلوا الفنانين الحقيقيين وفرق الموسيقي والمطربين إلى المحافظات والجامعات حتي يزداد الوعي الفني بالفنون الحقيقيه والرفيعة، حتى نستطيع أن نجفف الأرض لكائنات (الحمو والشواكيش ومطرب شيماء!)، حق علينا أن ننقذ الفن المصري العريق من فنون السذاجة الجوفاء التي تشارك المخدرات في تغييب العقل، انقذو الشباب في مصر والأقاليم، مصر تنطلق والمستقبل واعد والدولة تعمل بكامل طاقتها، وتنطلق ووزارة الثقافة تبذل الجهود وتحاول في وجود الدكتورة إيناس عبد الدايم (وزيرة فنانة) ومجهود كبير من الدكتور (مجدي صابر)، وعلينا أن نكون جميعاً بجوارهم مساندين لخلق جيل واع مدرك لقيمة الإبداع والثقافة والفنون الحقيقية، فموقعهم الحقيقي أمام الدولة للتنوير وليس خلف الدولة يحاول أن يلحق بها .
علي الإعلام المصري أن يتحرك إلى الأقاليم ويتابع ما تقدمة وزارة الثقافة ويعرضه بديلاً عن استضافة نجوم جمهور (التيك توك) من أجل زيادة الإعلانات.
الأقاليم تستحق الاهتمام فهى تمتلك طاقات إبداعية فقط تريد من يقدمها إلى وسائل الإعلام المصري لتكون تحت الأضواء ويكون الحكم للجمهور، كفانا برامج تساعد علي تسطيح العقل وتنتج مطربين هم إساءة للحالة الفنية، كفانا نجوم ليس لها بريق فالكل يسبق اسمه كلمة نجم، وتلك إساءة للنجوم الحقيقيون القابعون في منازلهم، كفانا أعمال السوتيه المسلوقة لمجرد ملئ الهواء بلا أي هدف ولا قيم بعد أن كانت أعمالنا تشرفنا في كل مهرجانات العالم للمبدعين الحقيقيين أمثال (صلاح أبو سيف ويوسف شاهين).
هل أذكركم بأن مصر كانت (هوليود الشرق) ومعقل الفكر والتنوير، والسينما التي كانت تشارك القطن في الدخل القومي، فنحن ثاني سينما في العالم وثاني سكة حديد.
اتقوا الله في مصر، فما حدث معي في أوبرا (دمنهور) هو خير دليل على سقوط مقولة الجمهور يطلب التسلية فقط، لقد أثبت جمهور دمنهور أنه مازال يبحث عن الكلمه الحقيقية والصريحة، وان كانت ندوة تدعوا لإعمال العقل وشرح للفنون الحقيقية والإبداع، لقد تحول المشهد الفني في مصر إلى وضع معظمه مقلق بعد أن سيطر على شاشات التليفزيون نجوم لا يتغيرون كل عام وأعمال فقط للتسليه وإضاعة الوقت بلا أي قيمة!.
كفانا فنون كالجرائد الصفراء المبنية على الإثارة والأحداث والصدف الساذجة التي تنتهي بنهاية يوم العرض على الشاشات، وهنا أذكركم أن المبدع (داود عبد السيد) أعلن اعتزاله، نعم صاحب (الكيت كات) أو (مالك الحزين) للمبدع (إبراهيم أصلان)، فقد تذكرت حين تعاقدت على شراء السيناريوا العظيم للرجل واختلفت مع القدير (محمود عبد العزيز)، وتم تأجيل تنفيذ الفيلم إلى أن طلب مني الأستاذ (حسين القلا) المنتج الكبير السيناريو وأعطيته له بنفس المبلغ المدفوع فيه 2800 جنيه فقط ، إنه فيلم من أعظم ما قدمت السينما .. كيف بالله عليكم أن يعتزل (داود عبد السيد) وما دلالة هذا الاعتزال !
الريادة، وكلمة هوليود الشرق، ومركزالتنوير والإبداع في احتياج لمخلصين وحقائق واضحة كي لا تجد من يحاول خطفها ونندم وقت لا ينفع الندم .
مصر تنطلق، مصر تستحق، مصر بها محاولات حقيقية وفنون راقية، ولكنها تائهة بلا فرز كمعلقة سكر عليها تحلية حمام سباحه .. مصر تستحق.