بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد
منذ فترة طويلة أصبحت لا أحب استعمال تعبير ( أزمة المسرح ) فلقد أدركت أنه ليس هناك أزمة فى المسرح لا سابقا و لا حاليا ، فالمسرح – فى يقينى – مرتبط بالمجتمع و يعبر عنه و يصاحب حركته صعوداً و هبوطاً ، مدّاً و انحساراً ، و نرى هذا جليا فى التأثير السيئ للظروف التى يمر بها العالم صحيا و اقتصاديا على المسرح، فمنذ الأزمة الاقتصادية العالمية فى 2008 و ظروف الاقتصاد المتراوح ارتفاعا و انخفاضا أجبرت الجماهير على عدم اقتطاع جزء من دخلها لتنفقه على فنون الترفيه بما فيها المسرح ، بالإضافة إلى انتشار منصات العرض سواء على اليوتيوب أو منصات الأفلام الطويلة و المسلسلات ، مما أدى إلى كسل المتفرج و تفضيله البقاء فى المنزل امام الشاشة بدلا من تكبد عناء الوصول للمسرح ، و بعدها أتت الجائحة لتنهى على البقية الباقية ، و تغلق دور المسرح أبوابها و تضطر بعض الفرق الشهيرة كـ (سيرك الشمس) إلى الاختفاء إلى الأبد ، و تضطر فرق أخرى إلى الانتقال إلى الفيديو لتقدم مسرحاً معلباً.
و بعد انفراج الظرف الصحى قليلا ، عادت المسارح إلى تقديم عروضها و لكن ظل شبح الانكماش الاقتصادى يسيطر على الوضع و لذا ظهرت الدعاوى الى تقديم مسرح مختلف يتعاطى مع الازمة الاقتصادية بمرونة أكبر . و من تلك الدعاوى كان (الميكروتياترو) الذى ظهر فى إسبانيا و بالتحديد فى مدريد منذ عام 2009 على يد المخرج (ميجيل الكينتود) بمصاحبة خمسين من الممثلين و المؤلفين و المخرجين ليقدموا عدة عروض قصيرة لا تزيد عن 10 دقائق فى مكان واحد و بسعر تذكرة رمزى ، و إذا بالنجاح يغمر التجربة و تقف طوابير المشاهدين أمام العروض . ثم انتشر هذا النوع فى كثير من دول العالم ، خاصة دول أمريكا اللاتينية ، و بعدها صار ( ماركة مسجلة ) لا تستطيع استعمالها إلا بإذن خاص من أصحابها .
يقوم (الميكروتياترو) على الرقم 15 – و هى حيلة تسويقية بارعة – فالمطلوب قاعة أبعادها 15 متر فى 15 لتقدم عرضا فى 15 دقيقة و لعدد 15 متفرج ، و يمكنك تكرار العرض عدة مرات فى اليوم الواحد ، على أن يكون فى نفس المكان عدة قاعات تقدم عروضا مختلفة و المتفرج يتنقل بينها ، فيشاهد العدد الذى يريد من العروض فى يوم واحد ، حسب مقدرته الذهنية و قدرته المادية ، و بين أماكن العروض تقع كافيتريا تستطيع انتظار العرض التالى بها و أيضا معرضا للفنون التشكيلية أو الحرف البيئية .
و يمكننا اعتبار أن (المايكروتياترو) يقوم على صيغة ( المسرح المتقشف )، الذى لا يعتمد على الديكورات الفارهة أو الملابس المبالغ فيها أو التقنيات المكلفة ، بل على ممثلين قادرين على إبهار المتفرج بقدراتهم التمثيلية من خلال موضوعات مرتبطة بمشاكل الجماهير تعرضها فى جرعة مكثفة تبدأ من ذروة الحدث لتنتهى بحالة من الدهشة العقلية.
أما فى مصر فقد ظهر (الميكروتياترو) لأول مرة فى 2018 بفضل جهود الدكتورة نبيلة حسن عميد المعهد العالى للفنون المسرحية بالاسكندرية ، التى قامت بالتعريف به من خلال ندوات إحداها كانت بالمهرجان القومى للمسرح ، و من خلال ترجمة نصوص مختلفة من نفس النوعية كما قامت بالتعاون مع المركز الثقافى الأسبانى فى القاهرة و الأسكندرية بقيادة (خافيير) بعقد أول ملتقى للمايكروتياترو بالقاهرة و الأسكندرية العام الماضى قدمت فيه 4 عروض تعتمد جميعها على نصوص أسبانية كتبت خصيصا لهذا النوع من المسرح و ترجمتهم هى جميعها .
و كما كل المؤمنين بفكرة جديدة كافحت طويلا من أجل عقد الملتقى الثانى فى القاهرة و الأسكندرية هذا العام فى أكتوبر 2021 ، و تطويره عن الملتقى الأول بزرع بذور (المايكروتياترو) فى تربة مصرية ، عن طريق إقناع العديد من الفنانين الشباب ليقدموا عروضهم بنفس الصيغة و ألا يقتصر الملتقى على النصوص الأسبانية ، فقدم الشباب 14 عرضا مسرحيا مصريا تأليفا و إخراجا كلها تنتمى للمايكروتياترو .
و شاركها الاهتمام بهذه الصيغة المسرحية الدكتور جمال ياقوت رئيس قسم التمثيل و الإخراج بمعهد فنون الطفل ، فقدما سويا عرضا نموذجيا لهذا الفن الجديد فى افتتاح الملتقى الثانى ، و لم يتوقف التعاون بينهما عند ذلك بل استطاعا استقدام المخرجة الأسبانية (إيدونيكا) المسئولة حاليا عن (المايكروتياترو) فى مهرجان القاهرة للمسرح التجريبى لتقدم ورشا و ندوات عن هذا الفن فى القاهرة و الأسكندرية و الأقصر .
و تقول الدكتورة نبيلة، عن سبب حماسها لهذه النوعية المسرحية أنها تضمن حلا لمشاكل البطالة بين الفنانين ، فالعروض تستوعب أعدادا من الممثلين و المخرجين و المؤلفين ، كما أنها لا تكاد تتكلف شيئا ، و لا تحتاج لرأس مال كبير لإنتاجها ، و لا تتطلب مسرحا مجهزا لتقديمها ، بل يكفى مكان يضم عدة قاعات ، مثل المدارس و المنازل الكبيرة و ما شابه . و يتم توزيع عائدها بنسب على المشاركين فيها و بالتالى ليس هناك شبهة استغلال من ( المنتج ) للطاقم الفنى . و تسعى الدكتورة نبيلة حاليا بصفتها ممثل (المايكروتياترو) فى مصر و الوطن العربى إلى إيجاد مساحات للعرض داخل أحد المولات ليتم تقديم 5 او 6 عروض متزامنة كل منها لا يزيد عن 15 دقيقة على أن تعرض عدة مرات – تصل إلى 6 – فى نفس اليوم .
فهل اكتفت أسبانيا بهذا الحل ؟
لقد انتجت أسبانيا شكلا آخر من أشكال التحايل على ضعف التمويل و قلة عدد المسارح و ارتفاع إيجاراتها ، و هى صيغة أيضا ليست مكلفة ، إنها القراءة المسرحية التى تعمد إلى تقديم قراءة لعمل مسرحى مع استخدام أقل الامكانات و أبسطها : فلا ديكورات واقعية و لا ملابس مكلفة ، بل مجموعة من الممثلين أمامهم حوامل يضعون عليها الأوراق ليقرأوا منها العمل المسرحى ، و بالتالى فالحركة المسرحية محدودة أو معدومة ، و من الممكن أن يقوم المؤدى بأكثر من دور و الشرط فى هذه الصيغة أن يتم قراءة تعليمات المؤلف كدخول و خروج الشخصيات و وصف الجو العام ، و تترك لخيال المشاهد استكمال الصور فى ذهنه .
و فى مبادرة أيضا من الدكتورة نبيلة حسن و بالتعاون مع المركز الثقافى
الأسبانى أقامت منذ أيام المهرجان الثانى للقراءة المسرحية على مسرح المعهد العالى للفنون المسرحية بالقاهرة ، و شاركت فيه أقسام المسرح بكليات آداب حلوان و بنى سويف إلى جانب معهدى الفنون المسرحية بالقاهرة و الأسكندرية .
فهل يلجأ مسرحيونا إلى أي من الصيغتين للخروج من عنق الزجاجة الخانق بالنسبة للإنتاج المسرحى فى مصر و قلة مصادر التمويل ؟.