بقلم الدكتور : ثروت الخرباوي
أتمنى أن تكونوا قد قرأتم المقالين السابقين عن رأيي بصفتي رجل قانون بخصوص فيلم (ضد الحكومة)، سيناريو وحوار الكاتب الكبير (بشير الديك)، وبطولة الراحل أحمد ذكي .. في المقالين السابقين انتقدت الفيلم وصوبت انتقادي نحو صديقي العزيز الأستاذ بشير الديك، وقلت فيما قلت: إن القضية التي عرضها فيلم (ضد الحكومة) هى مجرد قضية مدنية، قضية تعويض، ليست قضية جنائية، لا هى جنحة ولا جناية، وكل الذي يحدث في هذه القضية هو اختصام الوزير المسئول عن الحقوق المدنية ليقوم سيادته بصفته الوزارية بسداد مبلغ التعويض للمضرورين.
وكان مما كتبته أن: الأستاذ (الديك) يؤذن في غير مجاله لذلك لم يدخل بنا إلى المحكمة، ولكن دخل إلى محطة مصر، وتخيل أن القضاء هو (الكل في واحد)، قضية مدنية يجوز أن تتحول في لمح البصر إلى قضية جنائية، ومحكمة مدنية تتحول فورا إلى محكمة جنائية، ومحام يمثل مدعين يطلق عليه الأستاذ الديك لقب (المدعي) مع أنه وكيل للمدعي، وتعبيرات ظن الأستاذ الديك أنها قانونية وهى لا علاقة لها بالقانون.
ثم يظهر أمامنا محام اسمه الدكتور (عبد النور) قام بدوره الفنان الراحل أبو بكر عزت لا يعرف أحد صفته، يستدعي أحمد ذكي ويهدده لعدم اختصام الوزراء في قضية التعويض وإلا سيلقى الويل والثبور وعظائم الأمور، ويظل المحامي على موقفه، لازم ولا بد أن يقوم بإدخال الوزراء في قضية التعويض، هنا لا ينبغي أن يسكت الدكتور عبد النور، بل يقوم بتحريض الشرطة على اعتقال المحامي، لماذا ؟ لأنه قرر اختصام وزير التعليم ووزير النقل في قضية التعويض، وقام البوليس بإعطاء هذا المحامي درسا بليغا من اللكاكيم والشلاليط، ولكن المحامي يتمسك بضرورة إدخال الوزراء في قضية التعويض، ولأنه لا فائدة من هذا المحامي العنيد لذلك يحضر الدكتور عبد النور عين أعيان المحاماة في بر مصر في القضية ويترافع، ولا نعرف ما هى صفته؟!، ومن هو الذي يمثله في مرافعته؟، وكيف تقبل المحكمة حضوره؟!، هل كان يمثل شبحا مجهولا؟! ثم لا تكون مرافعته عن جدوى اختصام الوزراء في قضية التعويض، فنسمع مثلا مبارزة قانونية رفيعة موضوعة في قالب درامي شيق، ولكن القضية تحولت إلى الحديث عن هذا المحامي الفاسد (أحمد ذكي) ، وينفخ أبو بكر عزت أوداجه وهو يقول: هذا المحامي يحضر في قضايا المخدرات ويدافع عن العاهرات!!، أي يدافع عن المتهمين في هذه القضايا!! ليس لك حق في هذا يا أستاذ، بذلك انهارت قضيتك، ولكن حتى لو كان المحامي فاسدا، ولكن المدعي صاحب حق، فهل معنى هذا أن يحجب القاضي الحق عن صاحبه لأنه اتضح للقاضي ، يا للويل ، أن المحامي (محامي مخدرات ودعارة)!!
ولكن ما علاقة فساد المحامي بموضوع الدعوى؟، هل هو الموضوع؟، هل هو السبب في حادث القطار، هل لو كان هذا المحامي شريفا لما وقع الحادث؟، ثم إذا بنا نستمع من أحمد ذكي مرافعة بليغة تمس شغاف القلوب، وسالت دموعنا ونحن نرى المحامي الفاسد وهو يعترف بفساده، وأنه كان مجرما، وأنه آن الأوان أن يتطهر من خطاياه. هنا يصفق الجمهور، ويرفع القاضي الجلسة، ثم يعود للانعقاد ليقول: قررت المحكمة التأجيل لجلسة كذا لحضور السادة وزراء كذا وكذا، كل واحد منهم عن نفسه وبصفته لسماع أقوالهم، وهنا يصفق الجمهور مرة أخرى!!.
ما سبق أيها السادة هو ملخص ما كتبه ثروت الخرباوي رجل القانون، ولكن ما الذي يقوله ثروت الخرباوي المحب للفنون والقارىء في السياسة؟، أقول إن الذي كتبته هو مجرد رأي قانوني في فيلم لا يجوز تقييمه من الناحية القانونية، ولكن يجب أن يكون التقييم من الناحية الفنية، ففي كثير من الأحايين عندما يضيق الواقع السياسي، وينتشر الفساد، ويتجبر الظالم، تصبح مواجهته واجبة، وأول من يقف في صفوف المواجهة الأولى هم الفنانون أصحاب الرسالات، وعبر عقود مرت من حياتنا وقف بعض رموز الفن السينمائي، من مؤلفين ومخرجين وممثلين بكل قوة وهم يقدمون لنا منظومة فنية تواجه الاستبداد والديكتاتورية وتفضح طرقه وأدواته، وأخرجوا لنا أفلاما تواجه الفساد السياسي، وكانت رسائلهم عبر أفلامهم تصل بوضوح للمشاهد المتلقي، وتؤثر فيهم، وتتفاعل مع مشاعرهم، وقد كان فيلم (ضد الحكومة) من تلك النوعية من الأفلام، وكان إسم الفيلم هو الأكثر جرأة، فهذا كاتب سيناريو وحوار يريد أن يقول لكل الناس إن الحكومة فاسدة، وأنه ضد الحكومة، ليس وحده ولكن سيقف معه ضد الحكومة مشاعريا كل من سيشاهد الفيلم ويتأثر به.
ولكن كيف سيخرج الفيلم إلى النور؟ وكيف سيشاهده الناس إذا ما تم توجيه الاتهامات بالفساد بشكل مباشر، كأن يكون وزير النقل وقتها عام 1992 غارقا بشكل شخصي ومباشر في الفساد، منصرفا عن دوره في تطوير السكك الحديدية، مرتكبا جريمة الإضرار العمدي بالمال العام، أو أن وزير التعليم حينئذ يهدر أموال وزارته ويتربح منها بما يشكل في حقه جريمة التربح، اختار بشير الديك وزيرين من الممكن أن يتم مواجهتهما فنيا، وابتعد عن رئيس الجمهورية وعن وزير الداخلية، وعن الوزراء أصحاب السيادة، ووضع وزير النقل كرمز يُعبِّر عن جزء من حكومة دولتنا على مدار سنين مبارك وأيامه، واختار وزير التعليم كرمز للجزء الآخر من الحكومة، ولذلك كان موضوع الفيلم متعلق بحادث قطار اصطدم بأتوبيس مدارس، وفي تلك النوعية من الأفلام يتجه الكاتب إلى استخدام الرموز، وعمل مقاربات مع الواقع، أي أنه لا يهتم بنقل الواقع كما هو، ولكنه يدير واقع الفيلم بشكل مختلف يتوافق مع الموضوع ومع الرسالة التي يريدها أن تصل للمشاهدين، لذلك لم يعالج الموضوع بشكل قانوني يتماثل مع الواقع، ولكن أجرى مقاربة بينه وبين الواقع بحيث لا يستغرب المشاهد قانون الفيلم، إذ هو قريب من الحقيقة وليس بعيدا عنه كل البعد، وفي السينما المصرية حدث هذا كثيرا، ففي فيلم (الشموع السوداء) لنجاة الصغيرة وصالح سليم، كانت المحاكمة التي انعقدت لنجاة الصغيرة في اتهامها بالقتل هى محاكمة سينمائية رمزية اهتم المخرج والسيناريست فيها (عز الدين ذو الفقار) أن يصورها بشكل تغلب عليه (الفانتازيا) وكان الخيال فيه غالبا، ليس فيها محام يدافع عنها، فقط نيابة توجه إليها الاتهام، والقضاة أثناء مرافعة النيابة كانت ظلالهم الكبيرة هى الخلفية لهم، وكذلك ظل وكيل النيابة، وظل العسكري الذي يقف على قفص الاتهام، أما نجاة الصغيرة وهى في القفص فلم يكن لها ظل، وكذلك صالح سليم، وأظن أن ذلك كان للدلالة على الازدواجية في مفاهيم العدالة البشرية، فهي متعددة الأوجه، وقد يكون للحقيقة ظلٌ آخر لا تراه العيون، يقف هذا الظل وراء من يحاكمون الناس، ولو نظروا خلفهم قليلا لأدركوا الحقيقة، ولكن عيوننا لا تبصر إلا ما تراه أمامها.
نترك فيلم (الشموع السوداء) في حاله ونعود إلى بشير الديك وفيلمه ضد الحكومة، كانت مقاربة قانونية منه إذن، ومقاربة قضائية، ليس الغرض منها تعليم الناس الثقافة القانونية، ولكن كان الغرض توجيه إنذار للحكومة ورئيس الدولة (حسني مبارك)، بأنه إذا استمر الفساد تحت رعاية الحاكم فلن يستمر الحاكم، وإذا تم التضييق على الناس فلن يستمر الرئيس، وإذا تم حجب حرية الرأي وتداول السلطة فالنهاية ستكون وشيكة، كانت هذه هي رسالة بشير الديك في فيلمه، لم يكن يستطيع تقديمها لنا بشكل أكثر جرأة حتى لا يتم منع الفيلم، فقدمها بشكل أكثر ذكاءً، لذلك فإن الرأي القانوني الذي أبديته في المقالين السابقين عن (قانون الفيلم) كان مجرد غثاءً لا قيمة له من الناحية الفنية.