بقلم : باسم صادق
فى الدورة السادسة والعشرين من عمر مهرجان القاهرة الدولى للمسرح التجريبى سنة 2019.. وقعت إدارة المهرجان برئاسة د. سامح مهران آنذاك بروتو كولا مع الهيئة العربية للمسرح – ومقرها الشارقة – بعنوان (خزانة الذاكرة المسرحية)، ويقضى بتولى الهيئة توثيق مشوار المهرجان كاملا ضمن مشروع كبير يشمل توثيق تاريخ المهرجانات المسرحية فى كافة الدول المسرحية.. كان المخرج المسرحى الكبير عصام السيد يشغل وقتها منصب المنسق العام للمهرجان، ولمدة أربع سنوات عاش المهرجان خلالها مخاضا صعبا تمثل فى عودته من جديد بعد فترة توقف طويلة بسبب أحداث ثورة 25 يناير.. وتحملت إدارته عبء بداية التأسيس من جديد بعد تغير الخريطة المجتمعية والاقتصادية فى مصر.. وهى مهمة ليست سهلة بالمرة، ولكن إدارة المهرجان وقتها اجتازت المهمة بنجاح كبير واستطاعت أن تعيد المهرجان مرة أخرى على خريطة المهرجانات المسرحية العالمية بكثير من الفعاليات المؤثرة والفعالة والجاذبة التى خلقت حالة من الانتعاشة المسرحية لأذهان المسرحيين حول العالم عن تاريخ المهرجان واحتضانه لأهم التجارب المسرحية منذ بداياته.
والحقيقة أن منصب المنسق العام والمسئول التنفيذي لأى مهرجان هو منصب قد يكون ملغزا وكاشفا لقدرات الكثيرين ممن تولوا مسئولية ذلك المقعد.. والدليل على ذلك أن المخرج الكبير عصام السيد استطاع بحرفية وانسيابية شديدة أن يرسم الأطر العامة لتلك المسئولية وساعده فى ذلك بالطبع خبرته الطويلة فى قيادة كثير من مؤسسات مسرح الدولة مثل المسرح الكوميدى.. إدارة المسرح فى الثقافة الجماهيرية.. وقطاع الفنون الشعبية والاستعراضية وغيرها.. فمن خلال متابعتى لدورات المهرجان عن قرب كعضو فى لجان مشاهدة واختيار العروض المصرية والعربية واحتكاكى المباشر به فى كواليس إدارة العمل، أدركت أنه كان بمثابة عقل المهرجان المفكر والمخطط لكل تفاصيله وحلقة الوصل الحقيقية بين كافة المدارس المسرحية حول العالم العربى والغربى أيضا.
وبالطبع كان للمهرجان مجلس إدارة مكون من قامات مسرحية لها تاريخها واسمها فى الوسط المسرحى وكان التخطيط العام لا يتم بمعزل عنهم، وعلى رأسهم المفكر العلامة د. سامح مهران بكل تاريخه وعلاقاته الدولية المؤثرة وأفكاره الموسوعية التى أفادت المهرجان كثيرا، إلا أن وجود المخرج عصام السيد كمنسق ومسئول تنفيذى للمهرجان آنذاك كان بمثابة الذراع الفنية الضامنة لأبعاد وتأثير الأفكار المطروحة ودقة تنفيذها بالشكل الذى يحقق فعاليتها للمهرجان وللحركة المسرحية المحلية من جهة ولوضع المهرجان على الخريطة الدولية من جهة أشمل وأعم.
ولعل ما حققه المهرجان فى فترة السنوات الأربع التى تولى فيها المخرج عصام السيد ذلك المنصب بدءا من الدورة الثالثة والعشرين عام 2016 وحتى الدورة السادسة والعشرين لعام 2019، خير شاهد على ما سبق، وسواء اتفقنا أو اختلفنا على رؤى إدارة المهرجان وقتها إلا أنه لا يستطيع أحد إنكار أن المهرجان كان يتطور وفق وجهات نظر علمية وفنية لها وجاهتها وتأثيرها الفنى.. فقد خطا المهرجان خلال تلك الفترة خطوات لافتة منها عودة المهرجان بمسمى (المعاصر والتجريبى) كنوع من فتح آفاق أوسع وأرحب لتجارب مسرحية مبتكرة ظهرت على خريطة المسرح العالمى بفعل تطور الزمن.. ومنها أيضا إلغاء التسابق بين العروض المشاركة فى المهرجان بعد أن تفشت حالة التنابذ والتناحر بين المسرحيين هنا وهناك بسبب الصراع على أحقية مشاركاتهم بدلا من خلق حالة من التأمل والتدارس فى عناصر العمل المسرحى بشكل أكثر جمالية.
وحين واجه المهرجان أزمته المالية بسبب تفرق ميزانية خلال فترة توقفه على قطاعات وزارة الثقافة، قرر أن يعوض قلة العروض المشاركة بكثير من الورش المسرحية لمتخصصين أجانب وبالمجان لنشر رقعة استفادة شباب المخرجين المسرحيين فى شتى عناصر العمل المسرحى .. وهى أحد هموم المخرج عصام السيد المولع بخلق أجيال جديدة واعية من المخرجين تستطيع أن تنشر حالة من الوعى المجتمعى المستنير لخلق ظهير شعبى أكثر استنارة بين ربوع الوطن.
كما لجأ المهرجان فى البداية إلى استقدام عروض المسرح الموسيقى والتى طفت على سطح الحركة المسرحية العالمية وحققت نجاحا غير مسبوق، فكان منها مثلا عرض الشقيقات الثلاث الصينى والعرض السويسرى تحيا الحياة وغيرها.
والمتتبع لمشوار المخرج عصام السيد يستطيع أن يجزم بسهولة أن شعوره بحجم المسئولية الملقاة على عاتقه نحو الحركة المسرحية الوطنية جعلته مهموما بالتحرك دائما نحو توثيق وتعميق جذور الرؤى المسرحية المختلفة والمتنوعة فى فضاء الحركة المسرحية المصرية، فتحرك على عدة مستويات بخطوات شديدة الوعى.. منها ما هو فردى نابع من إحساسه بمسئوليته تجاه المجتمع، ومنها ما هو جماعى سهلتها له مسئوليته فى بعض المناصب.
فخلال توليه منصب المنسق العام للمهرجان التجريبى مثلا كانت (خزانة الذاكرة) – كما ذكرنا – توثيقا مُلحا فى تلك الفترة تحديدا لكافة دورات المهرجان – ولا أعرف إلى أن وصل هذا المشروع الآن – وخاصة الدورة الفضية بمناسبة مرور 25 عاما من عمره، والتى شهدت إعادة تقديم أهم العروض المصرية التى نالت جوائز أفضل إخراج وأفضل عرض وهى عروض (قهوة سادة) لخالد جلال، (الطوق والإسورة) لناصر عبد المنعم، (مخدة الكحل) لانتصار عبد الفتاح، (خالتى صفية والدير) لمحمد مرسى، (كلام فى سري) لريهام عبد الرازق، و(حيث تحدث الأشياء) لمحمد شفيق.
والحقيقة أن ما حققه عرض (قهوة سادة) وقتها من نجاح فاق كل التوقعات رغم تقديمه على المسرح القومى.. فقد فوجئ الجميع بحالة حصار حقيقية من الجمهور قبل بدء العرض بساعات طويلة لمحاولة حجز مقعد لمشاهدة العرض الذى سبب تحولا حقيقيا فى مسيرة المسرح المصرى لدى عرضه سنة 2009.. بينما كان إعادة إنتاج وعرض (الطوق والإسورة) بمثابة فاتحة خير علي كل صناعه، فقد نال بعدها جوائز عربية متعددة منها جائزة الشيخ د. سلطان القاسمى حاكم الشارقة لأفضل عمل عربى.. وجائزة قرطاج المسرحية فى تونس لأفضل عمل متكامل.. وهى أحداث تؤكد أن ذاكرة الجمهور كانت بحاجة شديدة لإنعاشها مسرحيا من جهة ولتعريف الأجيال الجديدة على فترات مهمة من تاريخ بلادهم من خلال تلك الأعمال المهمة من جهة أخرى.
كذلك كان محور (المسرح تحت دوى القنابل) أحد أهم أسباب نجاح الدورة، والتى تؤكد على فكرة توثيق دور المسرح العربى فى التمرد على كل أشكال القيود التى تحاصره، حتى ولو كانت القنابل والصواريخ ودانات المدافع، فتألقت فى ذلك المحور آنذاك عروض مثل (مروح ع فلسطين، وحجارة وبرتقال).
وعلى نفس الطريق كان التفكير فى إنشاء مركز تدريب دولى دائم يخدم المنطقة العربية بالكامل ويسمح لكافة المسرحيين المصريين والعرب بالاستفادة بما ستقيمه إدارة المهرجان من ورش تدريبية على أرض مصر وبتمويل خاص لا يثقل كاهل وزارة الثقافة على أمل أن يكون نتاج تلك الورش إنتاج عروض مسرحية مشتركة.. وهى خطوة مهمة لأول مرة ينفذها مهرجان مسرحى دولى فى مصر تسمح باستمرار عمله طوال العام.. وإن كانت هذه الخطوة قد تعثرت ولم يكتب لها الظهور حتى الآن بلا أسباب واضحة.
أيضا الإعلان عن استفتاءات متنوعة حول أفضل العروض العربية والأجنبية بهدف معرفة الذوق العام المتلقى للعروض ومراجعة الذات خلال عمل لجان المشاهدة فى الدورات التالية وكذلك استمرار توطيد العلاقات المسرحية بين مختلف الجنسيات وربطهم بفعاليات المهرجان، وهو ما سيزيد من رغبة الفرق المسرحية العالمية المختلفة ورفيعة المستوى فى المشاركة بدوراته القادمة.. ثم استدعاء عدد من العروض المسرحية العالمية التى سبق عرضها فى المهرجان وتقديمها على شاشة سينما مع تقديم تحليل درامى لمشاهدى تلك العروض التى كانت بعنوان (ذاكرة المهرجان) على أيدى أساتذة متخصصين فى علوم المسرح والإخراج والنقد.. وهى كلها أفكار لم تأت من فراغ بالطبع ولكنها جاءت نتاج وعى وتفكير مدروس لترسيخ أقدام المهرجان محليا ودوليا.
أما على المستوى الفردي فإن عصام السيد هو المخرج المسرحى الوحيد الذى خصص جائزة مالية – من ماله الخاص – فى الإخراج المسرحى تحمل اسمه، ويحصل عليها شباب المخرجين ضمن فعاليات مهرجان شرم الشيخ المسرحى، وهى خطوة مهمة بدأت بجائزة واحدة وتطورت حتى وصلت لثلاث جوائز متدرجة فى قيمتها المالية.. كما أنه أطلق موقعا إلكترونيا يحمل اسمه ليوثق عليه كافة اعماله الفنية سواء مسرحية أو تليفزيونية أو حتى فى مجال الدوبلاج والحفلات الوطنية، بالإضافة إلى كافة المقالات النقدية حول أعماله والحوارات الصحفية التى أجريت معه.. وهى خطوة أيضا فى غاية لأهمية لأنها ترصد تاريخ الوطن والحركة الشعبية فى مختلف حالات السكون والتمرد من أعماله السياسية المحفورة فى ذاكرة المسرح، خاصة مع تعثر التوثيق الرسمى لبعضها.
بينما تجسد ورشه التدريبية فى الإخراج المسرحى حالة من حالات الإيمان الشديد بنفس الدور التوعوى تجاه وطنه، فلم تكن دوراته مجرد تدريبات وتمارين نظرية فى أسس أو مناهج الإخراج وكفى، ولكنه بشهادة الكثيرين من تلامذته يحرص على تقديم نتاج تلك الورش فى عروض مسرحية لافتة وناجحة، ويحرص من خلالها على تطوير وجهات نظر ورؤى كل مخرج صاعد لتنفيذها على أرض الواقع دون أن يفرض وجهة نظره الفنية أو الفكرية على رؤاهم، وهو ما شاهدناه بالفعل على مسرح مركز الإبداع الفنى خلال السنوات الماضية.
وإذا كان قدر المخرج الكبير عصام السيد قد فرض عليه الحضور فى أوقات مفصلية من عمر كيانات بعينها أو حتى فترات تاريخية من عمر الوطن، فإنه دوما كان صاحب حضور طاغ ومؤثر وفعال ولو بصمته وخصوصيته وتفرده النابع من إدراكه ووعيه باللحظة الراهنة التى يتواجد فيها، لذلك كان – وسيظل – بمثابة خزانة ذاكرة متحركة لجزء كبير من تاريخ الحركة المسرحية سواء على مستوى ما قدمه للتجريب فى مصر أو ما قدمه على المستوى الشخصي من أعمال تعاطت مع تطورات وتغيرات المجتمع تعاطيا له كلمته.