كتب : محمد حبوشة
لاشك أن القضية السكانية من القضايا المهمة لكونها تمس الأمن الفكري والأمن القومي وتتطلب علاجا حاسما لتفادي الأزمات الاقتصادية المترتبة عليها، ولارتباطها ببعض الأفكار المغلوطة التي ترى أن تقنينها وحلها يتعارض مع المشيئة الإلهية، علما بأن الإيمان بالقضاء والقدر لا يتعارض مطلقا مع مسألة تنظيم النسل، وهى المباعدة بين الولادات المختلفة وتنظيمها وليس المنع أو القطع المطلق للنسل والذي يرفضه الشرع الشريف ولا يجيزه إلا لضرورة قصوى تتعلق بحياة الأم، وهنا تبرز قضية أن (تنظيم النسل يعني المباعدة بين الولادات المختلفة لأسباب تدعو إلى ذلك، وقد تكون من هذه الأسباب أسباب تحسينية).
ولقد أجابت وقائع دراما حكاية (أم العيال) في المشهد الأخير عن احتجاج بعض المعترضين على تنظيم النسل بظاهر النصوص الواردة في الحث على كثرة التناسل والأولاد، ويأتي ذلك متسقا مع ما أكد مفتي الجمهورية، أنه لا يصح أن تؤخذ ألفاظ بعض النصوص الصحيحة على ظواهرها وبطريقة فردية دون مراعاة الأدلة الشرعية الأخرى، التي لم يرد من بينها نص واحد يحدد – ولو تلميحا – عدد الأولاد المطلوب إنجابهم لكل أسرة، وعلى العكس أيضا لم نجد نصا يحرم تنظيم النسل أو الإقلال منه.
ولعل التراجيدا السوداء التي جاءت في حكاية (أم العيال) ضمن حكايات (زي القمر)، حيث الفقر والعوز الذي جاء ضمن سياق الأحداث التي اتسمت بالواقعية، يثبت أن هناك اتساقا بين جميع النصوص الشرعية التي تدعو لرخاء الإنسان وتحقيق استقراره، ولا تتعارض مع التوازن بين عدد السكان وتحقيق التنمية، حتى لا تؤدي كثرة السكان إلى الفقر، وفي تلك الحكاية التي برعت في تجسيدها النجمة (رانيا فريد شوقي) بملابساتها المأساوية تؤكد أن أن الإسلام لم يفرض عددا معينا من الأطفال ننجبهم .. ولم يدع إلى كثرة النسل دون ضوابط، بل إن الإسلام أوجب إحسان تربية الأبناء على كافة المستويات، واعتبر الأولاد أمانة حذر من التفريط فيها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَعُولُ)، ومن ثم يصبح تنظيم النسل سلوك يهدف إلى حماية الأسرة وخلق جيل قوي يتمتع بصحة ورعاية جيدة، يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الْمُؤْمِنُ الْقَوِىُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِى كُلٍّ خَيْرٌ)، وأن أي مجتمع بقوة سواعد أبنائه، ولا يتأتى ذلك بكثرة الإنجاب بأعداد كبيرة لا تقوى الأسر ولا المؤسسات على تلبية احتياجاتها، فينشأ عن ذلك كوارث اجتماعية واقتصادية تهدد المجتمعات وتعوق تنميتها وتقدمها.
وهو ما أوضحته أحداث حكاية (أم العيال) التي خيم عليها طابع الحزن والألم الناجم عن كثرة الإنجاب، وربما لم تتعرض الحكاية إلى أنه عندما نتأمل في مناطق مختلفة من شوراع العالم، نجد المشردين بلا مأوى، وأطفال الشوارع الفارين من بيوتهم لعدم وجود أب يعولهم أو خالا يحنو عليهم أوعما يوفر لهم المأكل والمشرب والتعليم، قد نجد ملايين النساء الأرامل والمطلقات اللواتي تخلى عنهن الازواج اما بالطلاق او الموت بالحرب أو المرض، وهن يتحملن مسئولية إطعام وتعليم وتربية أطفالا كثيرة قد تزيد في بعض الاحيان عن خمسة أطفال دون أن يكون لها موردا للرزق، فتلقي ببعضهم في سوق العمل دون تأهيل، ويبقى الأخطر في أن بعضهم يتشرب أخلاق الشارع والآخر قد يضيع مع تعاطي المخدرات، وبعضا منهم قد تتلقطه الجماعات التكفيرية لتضمه إليها فيتشرب الإرهاب ويصبح خنجرا في ظهر الأوطان، لكنها ركزت على كل الجوانب السلبية الناجمة عن زيادة أفراد الأسرة إلى سبعة أولاد.
ولأن العقل هو مناط التكليف، فلا يمكن أن يتعارض الشرع مع معطيات العقل، وكلاهما يقر الأخذ بالأسباب، وهنا يجب على الإنسان أن يراعي إمكاناته المادية أولا قبل أن يأخذ قرارا بكثرة الإنجاب، فاذا كان الأب (عبده) عاطلا عن العمل أو دخله محدودا وغير مستقر وأنجب العديد من الأبناء، فانه قد يعجز والوفاء باحتياجاتهم فيظلمهم ويظلم نفسه ومجتمعه، تماما كما عبرت أحداث حكاية (أم العيال) عن ذلك، والواقع في الحكاية يكشف كيف هرب الأب من المسئولية عندما ثقلت أعباء وتكاليف إطعام وتعليم أبنائه بالهروب إلى دائرة تعاطي المخدرات، وفي النهاية فإن كثرة الإنجاب تزيد من أعباء الأسرة بما يختل بتوازنها الاقتصادي وأمنها الاجتماعي الذي يلقي لاحقا على عاتق المجتمع والدولة، ومن هنا فان تنظيم النسل يعد ضرورة تحمي الأفراد والأسرة والمجتمع ويتيح للدول أن توفر لمواطنيها حياة كريمة.
تعرض مؤلف حكاية (أم العيال) عمرو الدالى بمبضع جراح ماهر إلى تناول العديد من القضايا المهمة والشائكة فى المجتمع المصرى منها (كثرة الإنجاب) كقضية رئيسية، وكذلك الهجرة غير الشرعية التى يلجأ لها العديد من الشباب، كما تعرض لأزمة جهاز العروسة المبالغ بحيث يحمل العمل في طياته هذا النوع من القضايا النابعة من الجهل، لافتا إلى أنه لا يقصد جهل القراءة أو الكتابة بل جهل العقل والفكر، موضحا أن هناك الكثير من المتعلمين ولكنهم جهلة بفعل ما تعكسه الظروف الحياتية التي يعيشونها، واستطاعت المخرجة شيرين عادل توصيل الرسالة في 5 حلقات من خلال تناول مشاكل مهمة نقابلها فى حياتنا العادية، من خلال زوايا تصوير بظلال كثيفة لعبت الإضاءة فيها دورا مهما، كي تكشف عمق المأساة الناجمة عن كثرة الإنجاب ومشكلة المبالغة فى جهاز العروسة والمنافسة فى الجهاز والقوائم وهى مشكلة موجودة بالفعل، وتظهر رانيا فريد شوقى متزوجة ولديها 7 أبناء، وتتعرض للضرب والإهانة بشكل دائم من زوجها، حيث يستولى على أموالها وهو وعالة عليها وعلى الأبناء.
برع أحمد وفيق كالعادة بحسه الاجتماعي في تجسيد دور (عبده) الأب اللاهي غير المبالي بزوجته وأبنائه، واستطاع أن يضيف من رؤيته ومشاعره للشخصية التي يتلبسها، شريطة ألا يخرج عن السياق أو البناء الدرامي الذي يحكمها أو (العضم) كما يطلق عليه اصطلاحا، فقد تقمص شخصية عبده على نحو احترافي بتكنيك خاص في الأداء يثبت تفوقه – وهنا يظهر دور المخرج – لتكون تلك الرتوش بمثابة (الصواميل) التي تربط (مفاصل) الشخصية، وتجعلها أكثر واقعية وإقناعا للمشاهدين، وقد تجلى ذلك في علاقته بابنه (سلام/ محمود يس جونير) الذي أبلى بالاء حسنا بعفوية الأداء دون مبالغة، وكذلك الفنان القدير يوسف إسماعيل بأداء خرافي يضعه في مصاف النجوم الكبار، وقد عزفت (رانيا فريد شوقي على أوتار الشخصية بطريقة أداء مغايرة تثبت تفوقها على العكس تماما من فورة بدايها التمثيلية التي تسببت في وقوع نوع من الظلم الشديد عليها بسبب ملامحها، التي حصرتها في قالب لم تستطع تخطيه، فهي إما فتاة (أرستقراطية)، أو (جميلة) يسعى الجميع للفوز بقلبها، أو هى تلك الشريرة التي تخفي خلف مظهرها البريء قلب شيطان مارد، ما حرمها لذة التعبير عن قدراتها الفنية التي لم تزل كامنة.
وأكدت (رانيا) في حكاية (أم العيال) على أن الفنان غير منفصل عن واقع مجتمعه الذي يعيش فيه، وبطبيعة الحال فهو يحتك بمئات النماذج، لكل منها قصته ودائرة همومه المتفردة، وبالنسبة لها تعتبر من الشخصيات (الاجتماعية) التي يمكنها الإنصات والغوص في مشاكل الآخرين، سواء أكان ذلك عبر علاقاتها المباشرة، أو المواقف والقصص التي يتعرض لها الآخرون من حولها، والتي فتحت المجال أمامها لاستكشاف المزيد من التفاصيل، وساعدتها على استلهام واستحضار أي شخصية ومنها (صباح) أم العيال التي حاولت بشق الأنفس الحفاظ على أسرتها في ظل انعدام دور الأب، ما أتاح لها فرصة الاقتراب إلى حد كبير من الواقع، وفتح الباب أمامها لتجسيد نوعية جديدة من الأدوار، كشخصية المرأة الشعبية، بعيدا عن (القالب) الذي حصرتها فيه جهات الإنتاج لسنوات، استغلالا لنجاحاتها السابقة في أداء بعض الشخصيات.
الثابت في حكاية (أم العيال) أن بدايةً نجاح أي عمل يعتمد بدرجة كبيرة على مدى جودة (النص)، ولكن هل هذا العنصر وحده كاف للنجاح، بالطبع لا.. فالأهم هو مدى براعة الممثل في تقديمه وتوصيل رسالته للجمهور، وبعيدا عن جودة النص وخبرات الممثلين، لا يمكننا تجاهل الدور الذي يلعبه المخرج، والذي يتجلى في مدى (حرفيته) بتوظيف قدرات ممثليه، وتسكين كل واحد منهم في المكان المناسب له، لتحقيق الهدف الأسمى وهو إيصال قضيته ورسالته، وهو ما نجحت فيه المخرجة شيرين عادل بامتياز، لتجبر المشاهدين على الدخول في أجواء القصة، والتعايش مع مشاكل شخوصها.
احتوت الحلقات الخمس من حكاية (أم العيال) على أكثر من ماستر سين، لكني توقفت بتأن شديد أمام المشهد الأخير، حيث استطاعت (رانيا فريد شوقي وأحمد وفيق) ببراعة الأداء أن يقدما رسالة العمل في قالب مصحوب بالشجن كما جاء على النحو التالي:
يدخل عبده على زوجته صباح وهى تبكي جراء فقد ابنها سلام على أثر غرقه في عبارة الموت المتجهة إلى إيطاليا وفي الخلفية أغنية حزينة رائعة ومعبرة لإسماعيل الليثي عن الحالة الدرامية تقول :
يا بحر الغدر وصيتك على ابني اللي فيك غارق
تخونوه يابحر ولقيتك على فراق الضنا قادر
ياوجع القلب والنني على ضنايا اللي راح مني
ياجمر النار على خدي فاكر وصيته ما يسافر
دا لسه الفرشة دفيانة أروح وافتحله جبانة
دا كان فرحان وكان طاير وقال ياما دا بكره فلوس
ياحزن الحزن على حزني ياريت الموت يجيي يعوزني
وترجع بينا للدنيا وأنا قلبي يعيش محروم
أنا الغلطانة يا ضنايا عشان سيبتك لبكرة اتباع
واعيش ازاي في دنيايا ومين حيكمل المشوار
يا بحر الغدر وصيتك على ابني اللي فيك غارق
عبده يجلس بجانب صباح قائلا في حزن وأسى: احنا مالناش غير بعض ياصباح .. وغلاوة سلام ياشيخة .. وغلاوة سلام تسامحيني .. وأني وعهد الله ما حارجع للهباب ده تاني .. هو السبب في كل احنا فيه ده .. بس اعمل ايه كتر العيال والهم والمسئولية هم اللي خلوني أرمي نفسي في الزفت ده .. عمري ما فكرت العيال دي حاربيها ازاي .. ولا حاكبرهم ازاي .. كان كل همي كيفي وبس .. بس وعهد الله من دلوقتي أنا مش حافكر في حاجة غير فيك انتي والولاد وبس .. وغلاوة سلام يا شيخة .. والنبي تسامحيني يا صباح وتخلي العيال يسامحوني .. والنبي!!!.
صباح : بعد ايه .. ما عتش ينفع .. امشي ياعبده.
عبده : مش قادر ابعد عنكم انتي والعيال يا صباح.. سامحيني.
صباح : حتعرف يا عبده .. حتعرف .. امشي يا عبده .. امشي وسيبني ألم اللي فاضل من ولادي حواليا .. ححابي عليهم .. حاشتغل ليل نهار .. ليل نهار علشان اسدد الفلوس اللي علينا .. واوصل بيهم لبر الأمان .. ولو سألوني عليك .. هقولهم بيجري ورا أكل عيشه .. لما يبقى كويس هيرجع .. امشي يا عبده .. امشي.
ثم تضع وجهها بين يديها منكسة رأسها لأسفل وهى تجتر ذكريات الألم والعذاب التي عاشتها من قبل .. ثم يهم عبده للرحيل وترتمي صباح في أحضان أولاها .. لينتهي المشهد الذي يلخص مأساة (أم العيال) بأحداثها التراجيدية الغارقة في المأساة !!!.
