مصر .. لما تغني !
بقلم : علي عبد الرحمن
مصر المحروسة، بلد سيد درويش وسلامه حجازي وعلي إسماعيل وعبد الوهاب وبلد كوكب الشرق وبلد قيثارة الغناء وبلد العندليب، مهد الغناء والطرب والموسيقى والألحان التي قدمت لأهل الضاد كل جميل وممتع في عالم الغناء، كلمات وألحانا وأصواتا، والتي حولت ألسنة العرب إلى اللهجة المصرية والأداء المصري، ومصر التي علمت ودربت وقدمت كافة نجوم الكلمه واللحن والغناء لمنطقتنا العربية.
ومع ترهل كل شيئ وإنحسار كل جميل وتراجع كل جهة عن أداء دورها، ظهرت ميكروبات الغناء وبكتيريا اللحن وسرطان الأداء، وأصبح نجوم الغناء (شاكوش وحمو وسوستة) وغيرهم، وهذا ليس فنا شعبيا، فلقد كان لدينا في الأداء الشعبي (محمد رشدي والعزبي وقنديل) وغيرهم حتى أصبحنا نستحي من سماع هذه الكلمات والألحان والأصوات.
ولقد قدم النقيب هاني شاكر أجود أعماله عندما تصدي بفروسية لهذه الأصوات المزعجة النشاز، فبعد هذا السيل من الصراخ والعويل بكلمات وألفاظ يعف اللسان عن ذكرها، وبعد هذا الإسفاف والتسفيه لعقول جيل بأكمله، كان لابد من وقفة أو مراجعة مع النفس، وليس هذا من قبيل مصادرة الحق في التعبير والاستماع لأن القاعده تقول: (أنت حر ما لم تضر)، ولما كانت حرية الغناء قد أضرت كثيرا بصورة مصر وفي قاموس الشباب اللفظي وفي تقليد النشئ لهؤلاء من أهل الصياح والعويل والاستفزاز والخروج علي العادة والمألوف.
فبعد أن غنى المدعو شاكوش (هشرب خمور وحشيش) وغيرها في (موسم الرياض) إلي (هشرب لبن وتمور) لما سئل عن سبب التغيير أجاب أننا فوق أرض طاهرة وهى أرض المملكة، وكأن أرض مصر ليست بالطاهرة، وبعد ترند الوزه شيماء فلقد بلغ الزبد الربي، ولقد وصلنا إلى مانحن فيه الآن نتيجة لعدة أسباب متراكمة (منهاغياب حصص التربية الموسيقية في المدارس ومفهوم التذوق الموسيقي والغنائي)، وغاب معه دور الأندية في عقد ورش التذوق أيضا، واختفي دور الشركة الرائدة في إلتقاط وتبني وتقديم الأصوات وهى شركة (صوت القاهره للصوتيات والمرئيات)، وتضاءل دور التسابق في معهد الكونسر فتوار ومعهد الموسيقي العربية ومناهج التذوق الفني في أكاديمية الفنون، وغابت حفلات أضواء المدينه وحتي ليالي التليفزيون ومعها برامج الغناء والتسابق في ذلك المجال.
كما انقرضت وإلى الأبد لجان الاستماع بالإذاعة والتليفزيون المصري التي كانت تفلتر الأصوات قبل التصريح لها بالغناء تضاءل دور جهاز الرقابة علي المصنفات الفنية، وحتي الدور المجتمعي للكيانات الإقتصادية ورجال الأعمال في تبني وتقديم أصوات مصرية أصيلة، ولما كانت القاعدة أيضا تقول: (إذا أردت أن تتعرف علي شعب فأنظر إلي موسيقاه)، حيث أنها هويته، ومع تعطل كل الأدوار وتراجع كل الجهات عن مهامها، وكلها كانت تمثل مناعة ضد هذه الفيروسات.
فلما خارت أجهزة المناعه نشط الفيروس في الأصوات وظهرت البكتيريا علي السطح ونالت من مشهدنا الغنائي داخليا وأصبحت تسيئ إلى أسماعنا وأجيالنا، بل وطالت سمعة مصر خارجيا وأحرجت مايربو علي ثمانية ملايين مغترب مصري في الخارج، وحتي جمعيه حماية حقوق المستمعين والمشاهدين كمجهود لخبراء المجتمع المدني لم تقم أيضا بدورها، أما عن المجلس الاعلي لتنظيم الإعلام والوسائل التي ينظم عملها فحدث ولاحرج، فلا ضوابط ولا متابعه ولا توجيه ولا تبني لكل ماهو جاد!!! وحتي نقابة الاعلاميين لم تضع مع مجلسها أكوادا لبرامج الغناء والتسابق فيه.
وأصبحت الضوابط والأكواد أخبارا تنشر فقط واجتماعات تعقد فقط وضاع كل جميل في دنيا الطرب والألحان، مما أثر أيضا سلبا علي روافد الهويه ومكونات الشخصيه المصريه التي يفترض أن تتم مراجعة روافدها ويتم تنميتها وترسيخها للولوج بها في الجمهوريه الجديدة، فهل تقوم المجالس والهيئات والوسائل والنقابات والجمعيات ومحبي الفن ومتذوقيه بأدوارهم لتحقيق متطلبات الحفاظ علي الهوية، ومتطلبات الجمهوريه الجديدة في أم الدنيا مصر؟!.
وأخيرا همسه في أذن النقيب الفارس: أعتقد أن وقوفك علي نفس خشبة المسرح وضمن فعاليات نفس الموسم يضعك ومطربي المهرجانات في سلة واحدة، لأن الظرف لايتفق مع هذا التشابه سيدي النقيب!!! .. وتحيا دوما مصر واحة الغناء وقبلة الطرب الأصيل.