
كتب : محمد حبوشة
أم العواجز، أم الضعفاء والمساكين، رئيسة الديوان والمشيرة، كل هذه الأسماء أطلقت على السيدة زينب أقرب نسل النبي (صلى الله عليه وسلم) لقلوب المصريين على اختلاف ثقافاتهم وطبقاتهم الاجتماعية، فالسيدة زينب هى بنت علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) وبنت السيدة فاطمة الزهراء، وجدها لأمها النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وجدتها لأمها السيدة خديجة بنت خويلد، وزوجها عبدالله بن جعفر، ونشأت السيدة زينب في بيت النبوة، وتحكي الكتب والسيرة أن السيدة زينب كانت صاحبة شخصية قوية وشجاعة، والدليل على ذلك حضورها كل المواقع الحاسمة، كما أنها كانت صاحبة مجلس علم، وكانت تتمتع بالمشورة وعندها كان يجتمع أهل الرأي والمشورة، فكان دارها مأوى لكل محتاج يقدم إليها وكان الفقراء يجتمعون في بيتها، فأطلق عليها المصريون اسم (أم العواجز)، قالت لأهل مصر: (يا أهل مصر نصرتمونا نصركم الله، وآويتمونا أواكم الله، جعل الله لكم من كل ضيق مخرج، ومن كل مصيبة فرج)، لتظل مصر بدعواتها وبآل بيت رسول الله محفوظة وفي آمن وأمان.
لكن يبدو أن الدراما لاتدرك حقيقة وقيمة (أم العواجز) الراقدة في (حي السيدة زينب) بمقمها الرفيع، فقام صناعها بإنتاج مسلسل رديئ المستوى من حيث الشكل والمضمون، بداية من المؤلف الذي لم يقوى خياله على إدراك أهمية المكان والزمان في أعرق أحياء القاهرة القديمة، حيث لجأ إلى حبكة درامية تسيئ لصاحبة المقام الرفيع عبر اختياره لشخصيات وأماكن تبعد تماما عن الروحانية التي يتمتع بها هذا الحي الشعبي العريق، الذي يعكس عبقرية المكان المحاط بالأسرار والعبر والحكايات المشوقة، بعيد عن أعمال السحر الأسود الذي تقوم به (سلسلة/ سوسن بدر) في دور هو الأسوأ فيما قدمته على مدار رحلتها الطويلة في الأداء الدرامي، فلم تخرج طوال الحلقات عن سياسة الدسائس والمؤامرات وهدم (بيت الشربيني) القطب الصوفي الذي يفيض بالمحبة والطيبة والنقاء كما ظهر من خلال أداء نقي عذب من جانب الفنان القدير (عثمان محمد علي).

جاءت أحداث المسلسل مملة وغير منطقية تحمل كل دوافع الشر أكثر مما تحمل في طياتها جوانب الخير الذي يعكس معجزات (السيدة زينب) التي تهفو لها قلوب العاشقين لأهل البيت في رحلاتهم الروحية للمكان الذي يتمتع بالطمأنينة على عكس غالبية الشخصيات التي تلعب أدوارا مريبة تتمتع بالعنف تارة والنصب والاحتيال والقتل المعنوي تارات أخرى في سبيل انتصار الشر على الخير، كما تجسد ذلك في شخصية (شاكر/ محمود عبد المغني) أسوأ أحفاد الشربيني الذي حظي بالتكليف في لعبة مشوبة بالحقد ألاعيب (سليلة) التي لم تجد رادعا لها طوال 37 حلقة من حلقات تغط في براثن العشوائية والأعمال الشيطانية التي غرقت في الرزيلة بأداء افتعالي في تكرار ممل.
عندما قرأت أخبارا وسمعت وشاهدت قصصا وحكايات حول مسلسل (حي السيدة زينب)، توقعت أنني سأحظى بجرعة روحانية تبعدني بعض الشيئ عن أجواء العنف والقتل والعشوائية الذي أصبح ظاهرة تجتاح شاشتنا العربية الغارقة في الرعب والدماء، لكن خاب ظني، واكتشفت أن خيال كتابنا وأداء ممثيلينا قد أصابه العطب على جناح الاستسهال فوقع المسلسل في شرك الجهل والتخلف وعدم إدراك القيمة، فما كان ينبغي على الإطلاق أن يسمى (حي السيدة زينب)، بل كان يمكن أن يحمل أي عنوان آخر، لأن الأحداث المفتعلة تخاصم تماما طبيعة الحي على مستوى الجغرافيا والتاريخ، فمن حيث الجغرافيا لا تعدو المشاهد أن تلامس مسجد السيدة بين الحين والآخر من خلال بلاتوه أعد خصيصا لذلك، ومن ثم لا تعبر الأحداث عن طبيعة حي السيدة المكدس بالأماكن والمطاعم والمقاهي الشهيرة التي عرفت به.



كنت أتوقع أن تجري الأحداث في سياقها الطبيعي من وجود (مشكلة أوعقدة) تعكس الجوانب الاجتماعية بحيث تعكس المتغيرات التي طرأت على الحي بروحانيته المعهودة على جناح الحداثة (على غرار أداء محمد يونس وحسام داغر) اللذين أجادا إلى حد كبيرا في المسلسل، لا عن طريق الغوص في المؤامرات والدسائس التي أصبحت جزء من الماضي السحيق، أو أنها ركزت على أحداث تؤكد على القيم المستمدة من صاحبة المقام ومازال لها روادها ومحبيها الذي ينتظرون ليلتهم الموعودة في مولدها الكبير، حيث تهفوا النفوس المتعبة والأرواح المحلقة لملامسة شباك المقام، علها تصبح لحظة روحانية تغسل همومنا ومتاعبنا في ظل حياة عصرية محفوفة بالمخاطر التي تحيطنا من كل صوب وحدب، لحظة صفاء تريحنا من الضغوط العصبية والأزمات الصحية والإقتصادية التي تعصف بنا .. هكذا ينبغي أن تكون الدراما محفزة على الغيش بهدوء وسلام، لا تحرض على السحر والدسائس والمؤامرات.
كنت أتمنى أن يكون المسلسل بحلقاته الستين واحة أمن وآمان تطل منه شخصيات نسائية مكلومة من لحم ودم لسان حالها يقول: (جئت لك يا أم العواجز من بلاد بعيدة.. وحياة حبيبك النبي أوعى ترديني مكسورة الخاطر) .. جملة كثيرا ما سمعتها على لسان سيدة مصرية بسيطة بصوت عال وهى تقف بخشوع عند بوابة مسجد السيدة زينب في القاهرة وأم العواجز، وهى تعبر البوابة المؤدية إلى قسم النساء داخل المسجد، لتختفي بين مئات المصريات اللواتي وقعن في حب رئيسة الديوان وبتن يعتبرنها معشوقتهن، ولا يختلف الأمر كثيرا في قسم الرجال في المسجد، فهناك أعداد كبيرة انتهت لتوها من صلاة العشاء وقررت أن تجلس على أرض المسجد لفترة أطول، بينما تحلق كثيرون حول مقام الطاهرة يطلبون منها طلبات بأصوات خافتة.
هذا ما توقعت تجسيده في ثنايا حلقات كانت ستكون وجبة روحية تعلوها حالات صوفية تسبح في ملكوت الله، لا أن تحتوي على شخصيات أما شريرة (سوسن بدر، محمود عبد المغني، غنوة محمود، ريهام سعيد، رانيا منصور، يحيى أحمد) أو مغلوبة على أمرها بتخاذل غير مبرر (سامي مغاوري، أحمد وفيق، فراس سعيد، محمد يونس، حسام داغر) وغيرهم من شخصيات لا جدوى من وجودوها، حيث اتسم أداؤها بالرادة والسوء مثل (دينا ومحمد النقلي وعبير منير، وريهام سعيد) الذين يفتقدون لابسط قواعد التمثيل، فلاصوت ولا حركة ولا إحساس، بل كان اختفائهم أفضل كثيرا من وجودهم في سياق أحداث جاءت ضعيفة للغاية.



حي السيدة زينب يا سادة كان يستحق عمل درامي يعكس جوهره الحقيقي، فحي مؤثر في ثقافة المكان كحي السيدة زينب لابد وأن يكون ملهما لابداعات مثقفين مصريين كبار كيحيي حقي أحد رواد القصة العربية الذي ولد في السابع من يناير عام 1905 في بيت يقع (الميضة) وراء (المقام الزينبي) ليقدم هذا الأب الثقافي المصري الذي قضى في التاسع من ديسمبر عام 1992 روائع مثل (قنديل أم هاشم، وام العواجز)، وإذا كان يحيي حقي ابن حي السيدة زينب وتلقى تعليمه الأولي في (كتاب من كتاتيب هذا الحي القاهري العريق)، فان المبدع الراحل صالح مرسي قد تناول ضمن روائعه في القصة والرواية طرفا من المعاني والرسائل التي يبثها حي السيدة زينب لكل البشر وتضمد جراح المكلومين والمتألمين مثل (زغدانة) بطلة قصته (البحار مندي).
فزغدانة الشابة السكندرية الجميلة التي فقدت الأب والأم والزوج في زمن الحرب العالمية الثانية تجد نفسها وسط أحزانها في حي السيدة زينب وهى التي كانت تسمع أمها الراحلة تدعو: (بأم العواجز)، ولطالما شعرت شعورا عميقا ودفينا بشيء يربطها بالسيدة زينب وهاهى الآن في طريقها (لأم العواجز)، ورغم كل الآلام فقلبها ينبض بالحنين والحنان والأمل في أن تساعدها (أم هاشم) بينما تسمع صيحات المكلومين: (مدد ياست) ويفيض الدمع من عينيها لكنها تشعر براحة غامرة في ظلال المكان الحبيب ويسري بداخلها إحساس طاغ بأن يدا تمتد لتمسح على رأسها وتكفكف دموعها الساخنة في غمار أحزان الفقد.
هذا ما كان ينبغي أن تكون عليه أحداث مسلسل (حي السيدة زينب)، فما مررت مرة أمام مسجدها الرائع فى ذلك الحى الشعبى الذى تفوح منه رائحة التاريخ ويظهر فيه ألق الماضى إلا وشعرت أننا فى رحاب بنت بنت رسول الله كما يقولون، وعندما يدور الإنسان حول المسجد يكتشف عراقة المبانى القديمة والمنازل الأثرية التى يصل عمر بعضها إلى أكثر من أربعمائة عام، وأشعر أن ذلك الحى القاهرى العريق يرتبط فى أذهان الكثيرين بالروحانية وجلال التاريخ وروعة الماضى، ويتقاطر المصريون – خصوصاً من أنحاء الريف – لزيارتها هى وشقيقها (الحسين)، رضى الله عنهما، وعندما غنى (محمد عبدالمطلب) أغنيته الشهيرة: (من حي السيدة لسيدنا الحسين) كان يداعب مشاعر الناس الذين يدركون أن تلك الرحلة القصيرة هى جولة فى أعماق (القاهرة الإسلامية) من شارع (المعز) إلى (السيدة زينب).
لقد دخل الشهر الكريم شهر رمضان المبارك في الحلقة (36) ولم يشعر الكثيرون مثلي بنفحات السيدة زينب، حيث عادة ما تغرق ساحة ميدان السيدة زينب فى روحانيات لا تجدها فى مكان آخر، فأم العواجز الزحام يملأ ميدانها وكل ركن من الحى الشعبى العريق، خاصة بعد الإفطار لتجد المقاهى مكدسة بالمواطنين الساهرون فى ليلة رمضانية روحانية مميزة ينتظرون منتصف الليل لتناول وجبة السحور فى رحاب حفيدة النبى، فعربات الفول ما أكثرها فى هذا الحى الشعبى ويتنافس كل منها على جودة الوجبة الشعبية الأصيلة بطلة موائد السحور طوال الشهر الفضيل.



لم أجد مشهد واحدا ينتمي لحي السيدة عبر مطاعمها الشهيرة الذي لخصه المسلسل في بائعة السمين، كـ (الدهان)، الذي يعد من أقدم المحلات بالمنطقة، منذ عام 1890، وكان قديما يعرف باسم (العقر) قبل أن يكتسب اسم (الدهان)، ولاحتى (العهد الجديد)، والمغروف بأنه يجمع في قائمة طعامه بين الكوارع والكرشة واللسان والعكاوي والفتة ولحمة الرأس، وبين مستحدثات مثل الشاورما والشيش طاووق والمكرونة، ليرضي جميع الأذواق، ومطعم (حبايب السيدة) في مواجهة محطة مترو السيدة زينب، ويدلك الزحام على مطعم حبايب السيدة، وبأسعار في المتناول يقدم المطعم الكباب والكفتة والنيفا والكبدة وفواكه اللحوم، وكذلك (بحة)، فيعد (بحة بتاع الناصرية) الواقع في نهاية شارع محمد فريد في السيدة زينب، أخصائي فواكه اللحوم من فشة وقراقيش وطحال ولسان ولحمة رأس وكبدة وفتة لحمة، فضلا عن الشوربة وفتة الكوارع، وأين (الرفاعي) الشهير بالكباب والكفتة والطرب والممبار والنيفة، وكذا مطعم (الركيب) الشهير بأصناف عدة تتنوع بين الكباب والكفتة والموزة والفتة والكوارع وكباب الحلة، وحاتي (أبو باسم) الذي يقدم الكباب والكفتة والريش والنيفة والموزة البتلو والضاني، وحمام محشي وفراخ وفتة كوارع وطواجن لحم وشوربات مختلفة.
كل تلك الأماكن وغيرها تعد من علامات (حي السيدة زينب) التي كان ينبغي أن يبرزها لبمسلسل لكننا لم نلمسها في ثناياه التي تبعد تماما عن أجواء (السيدة)، فأين أولئك البشر من الذين فاضت أرواحهم شوقا، فطوت لهم قلوبهم مشارق المحروسة ومغاربها، قادمين من كل فج عميق، ملبين نداء المحبة، ملتفين حول ضريح (أم العواجز) لعل دعاءهم يجد ببركة (عقيلة بني هاشم) طريقا لاختراق عباب السماء، فتستجاب رغباتهم، بدلا من الغرق في مؤامرت ودسائس (سليلة وابنها شاكر) في سبيل الحصول على المكانة والمال بالزور وسفك الدماء التي يعلفها السحر الأسود في فجاجة مقيتة، في ظل ضعف وهوان (الدكتور مفيد) أستاذ الفلسلفة الوحيد الذي يدرك حقيقة الزمان والمكان في حي السيدة زينب.. خسارة كبيرة حرق أحجاث حي عريق في العبث إلى حد التقزز.