كتب : أحمد السماحي
تأثرت برحيلها كما تأثر الملايين في مصر والعالم العربي، بكيناها نحن لأنها حبيبتنا جميعا، ظلت (سهير البابلي) أكثر من نصف قرن، تسعدنا بتمثيلها وتنسينا أحزاننا وتطيل أعمارنا، أي أنها كانت لنا عزاء ورحمة في حياتها، وتأبى إرادة السماء إلا أن تكون كذلك في مماتها، إنها لم تغادرنا مفاجئة لكي تعرضنا، أو تعرض بعضنا لخطر الصدمة القاتلة، بل غادرتنا بعد أنباء متضاربة عن صحتها، وبعد أيام من مرضها، كأن حكمة الخالق شاءت لنا أن تتهيأ لقبول النبأ الحزين.
يقول علماء النفس إننا نضحك كثيرا لنهزم أحزاننا، ونحلم كثيرا لننتصر على واقعنا، فخلف قناع الضحك يرقد دوما وجه حزين تعبت ملامحه المرهقة من مشاكسة الدموع، وخلف مرايا الحلم يتحدد واقع أليم، ومحطات الألم والخوف كثيرة في حياة (سهير البابلي) فكانت تخاف دائما ذلك الخوف الذي يسحب خلفه سحابات القلق الرمادية، تخاف من الفشل، من القادم، كانت تخاف النيل بالليل رغم عشقها له بالنهار، وترتعد إذا نظرت إليه فى الليل.
فى فيلا العائلة بشارع الهرم كانت سهير مثلها مثل أي طفلة تغني وترقص تحركها الموسيقى ويحملها الإيقاع إلى مدن سحرية لم تفتح بواباتها بعد، كان والداها من رجال التعليم يتنبأ لها مداعبا بأنها ستصبح فنانة كبيرة، ويضحك كثيرا، بينما كانت والداتها ست البيت ترفض الفكرة، بعد حصولها على الثانوية العامة التحقت بمعهد التمثيل، ومعهد الموسيقى في الوقت نفسه، وكانت هذه الخطوة هى الطلقة الأولى التى اجتاحت هدوء العائلة وأمنها الزائف فتشققت الجدران الضيقة، بدا كل شيئ على وشك الانفجار، اعترضت عائلة الأم المحافظة جدا على دخول الإبنة إلى تلك المساحات المفخخة، ونالت (سهير) يومها أول صفعة من خالها.
وهى فى المعهد بدأت رحلتها الفنية الأولى فوق خشبة المسرح القومي، عندما دفع بها اساتذتها (عبدالرحيم الزرقاني، حمدي غيث، نبيل الألفي) إلى المسرح وتتذكر: (اشتركت فى مسرحية “ثورة الموتى” تأليف أروين شو، وماكنتش أعرف أعمل الضحكة الممطوطة فكانت زميلتي (ملك الجمل) تعملها لي، بعدها أدخل للمسرح)، وتوالت أدوارها الصغيرة فى مسارح القطاع العام ومن خلال هذه الأدوار تعلمت كيف تعشق النص المسرحي قبل أن تجسده فتدب فيه الحياة والدفء الإنساني؟!، وتعلمت أيضا كيف تتحرك بنعومة فوق ذلك البساط السحري والذي أصبح بالنسبة لها كل شيئ؟!.
وبعد مرور عشر سنوات من تجسيد أدوار صغيرة في المسرح والسينما رشحها المخرج (فتوح نشاطي) لبطولة مسرحية (بيت من زجاج) تأليف (جان كوكتو)، وبطولتها مع (أمينة رزق، فاخر فاخر، وعمر الحريري) ونجحت وتألقت وتوالت أدوار البطولة فى حقبة الستينات منها (بيت برنارد ألبا، آه يا ليل يا قمر، بلدي يا بلدي، الخال فانيا، شمشون ودليلة، سليمان الحلبي، ليلى والمجنون)، وفى مسرح القطاع الخاص (نرجس، الدخول بالملابس الرسمية، ريا وسكينة، ع الرصيف، عطية الإرهابية، نص أنا نص انتي).
وغيرها من الأعمال الفنية ففي السينما كان أول أدوارها (إغراء) عام 1957، مع المطربة صباح، وشكري سرحان، وكي رستم، بعدها توالت أفلامها السينمائية مثل (ساحر النساء، هل أقتل زوجي، لوكاندة المغامرات، رسالة إلى الله، البنات والصيف، موعد مع الماضي، وفاء إلى الأبد، لعبة الحب والجواز، يوم من عمري، دعونا نحب، جناب السفير، أخطر رجل في العالم، الحلوة عزيزة، أنا ومراتي والجو، العاطفة والجسد، أميرة حبي أنا، حدوتة مصرية، القبض على بكيزة وزغلول، يا ناس يا هوه، والقلب وما يعشق) وغيرها.
والحقية أن السينما لم تستفد من موهوبة هذه النجمة، نظرا لأن السينما وقت ظهور (سهير البابلي) وحتى الثمانينات كانت تحتفي بالجمال، خاصة من الجنس اللطيف، ونجمتنا الراحلة لم تكن لديها المؤهلات الجمالية التى تجعل السينمائيين يهرولون إليها، لهذا لم تلمع في السينما بقوة.
وقدمت في التليفزيون تجارب قليلة لكنها إلى حد ما أفضل من السينما من هذه الأعمال (زوجة أحمد، جراح عميقة، ومشيت طريق الأخطار، الشاهد الوحيد، الليل الطويل، الحقيقة ذلك المجهول، وتوالت الأحداث عاصفة، قلب حبيبة، قانون سوسكا) وغيرها.
رحم الله (سهير البابلي) التى ظلمتها السينما وأنصفها المسرح وفجر طاقاتها الكامنة.!