شيحة وبناته و (الروح المصرية)
بقلم : محمود حسونة
ما أجمل صورة الأب وهو محاط بأولاده وأحفاده فرحاً وفخوراً بهم والعكس صحيح، وما يزيد الصورة جمالاً أن يكون هذا الوالد قد تقدم في السن وتكون هذه الصورة بمثابة رسالة له تؤكد أنه يحصد ثمار تعب السنين، وأنه سلك الطريق الصحيح مع أولاده، وأحسن التربية فكان منهم الامتنان والتقدير وعظيم الحب.
هذا ما لمسته يوم افتتاح معرض الفنان التشكيلي الكبير أحمد شيحة (روح مصرية) في جاليري بيكاسو بالقاهرة الجديدة السبت الماضي. إنها حقيقة (روح مصرية) التي خيمت على المكان، روح أب يزهو بكل بناته، الجميلات الأربع وملكتهن الزوجة والحبيبة واللوحات اللاتي تعتبر كل منها ابنة لهذا المبدع، ولدت من روحه وفكره وموهبته. فما أجمل صورة فناننا وهو محاط ببناته الأربع وأولادهن وأزواج المتزوجات منهن، وما أجمل إحساس التباهي لدى كل منهن بهذ الوالد الذي أبدع لوحات وشكّل وجداناً وتجول حول العالم من دون أن ينسى أبوته أو يقصر في دوره كأب، وما أجمل السعادة الداخلية التي تغمره وبناته يقفن بجواره ويتحدثن عن لوحاته ويحكين للإعلام فصولاً من مسيرته، وما أجمل السيدة الفخورة بزوجها وثمار رحلة العمر الرائعة التي مشتها معه خطوة خطوة ووقفت بجانبه وكانت الشاهدة الأولى على ولادة لوحات تنطق جمالاً.
القاعة مُلئت بكاميرات المحطات التليفزيونية، والإضاءة سُلطت على كل منهن في إحدى زوايا القاعة وهى تقف وخلفها إحدى لوحات والدها، تشرح وتحكي وتقول وتحلل، عن اللوحة وعن المسيرة تتحدث، ولما لا وهذه اللوحات ولدت على أيديهن، شاهدن والدهن وهو يرسم ويشكل مفردات كل لوحة، ويحكي لهن عن ما وراء كل خط وما يقصده بكل تشكيل، وخصوصاً أن كثير من لوحاته تعبر عن أكثر من تشكيل ولكن بينها جامع مشترك، والجامع الأكبر في جميع أعماله هي مصر، وحضارة مصر وتاريخ مصر، وحاضر مصر وعظمة مصر بريفها وبحضرها، بجغرافيتها وبتاريخها، وبانتصاراتها وانكساراتها، مصر التي عشقها شيحة وتألم يوم اختطفتها الجماعة الإرهابية، وكان من أوائل المثقفين الذين اعتصموا وتظاهروا واحتجوا وصرخوا بأعلى الصوت ضد (حكم المرشد.)
حلا وهنا ورشا ومايا ومعهن والدتهن السيدة نادية زيتون، كل واحدة تحدثت بطريقتها وعبرت عن مكنونها للفنان ورؤيتها لتاريخه واعتزازها به لمحطة تليفزيونية أو عدة محطات، وكان أحمد شيحة بمثابة المايسترو الصامت الذي استوعبه العازفون من دون أن يحرك يديه ولا يشير بعصاه، فكل عازفة من البنات أو السيدات الأربع تحفظ اللحن وتجيد العزف والتعبير.
وإذا كان شيحة هو المايسترو وبناته العازفات، فإن زوجته هي الدينامو، ليس في هذا الحدث فقط ولكن عبر تاريخه، أعرفهما منذ سنوات وباعد بيننا سفري إلى الإمارات لأقضي بها سنوات وسنوات، وفي معرض (روح مصرية) كان لقائي الأول بهما لأجد السيدة نادية كما كانت عبر تاريخ الفنان، الداعم الأول والسند الدائم، فقبل أي معرض له تشاركه التخطيط والتجهيز والاستعداد وتتولى توجيه الدعوات للضيوف والتواصل مع الصحافة والإعلام، وفي الافتتاح تستقبل المدعوين وتتحدث أيضاً للإعلام وهى متباهية كبناتها بالزوج والأب والفنان.
بعد أزمة حلا شيحة الأخيرة، لم يتوقع الكثيرون حضورها معرض والدها، ولكنها كانت من أوائل الحاضرين، حضرت برفقة زوجها الداعية معز مسعود، وتحدثت حلا كما شقيقاتها عن معرض والدها وعبرت عن سعادتها به، وكانت المفاجأة تصريح معز بقوله ( اليوم لنحتفل ونتعلم ونتذوق الفن)، نعم الفن الراقي المحترم ليس في خصومة مع الدين، والدين لا ينبذ الفن الذي يهذب النفوس، ودائماً هناك أرضية يمكن أن يلتقي عليها الجميع، شرط أن تتوافر الإرادة وأن تكون لدينا جميعاً القدرة على أن نتحاور ويصغي كل منا للآخرين، وتكون لدينا العقيدة أننا مختلفون لا نشبه بعضنا البعض وفي نفس الوقت متفقون، نتلاقى ونتنافر، نتفق ونختلف، وقد جعلنا الله شعوباً وقبائل لنتعارف.
الفن دعوة للتأمل والتفكير والتحليل، والدين يأمرنا بالتأمل وإعمال العقل، وفي معرض (روح مصرية) للفنان أحمد شيحة وقف الداعية معز مسعود أمام اللوحات يتأمل، كما كل من دخل المعرض يقرأ ما تقوله اللوحات التي تجبرك على الارتياح والإحساس بالسكينة مهما اختلفت أشكالها وألوانها، حتى الداكن منها مريح للنفس لا ينطق إلا بالجمال. وطبيعي أن يقرأ كل إنسان اللوحة حسب ثقافته ومخزونه المعرفي، وهذا هو الفن التشكيلي الذي يعتبر في أحد أوجهه دعوة للاختلاف.
(روح مصرية) هو المعرض الخامس والخمسين للفنان الكبير، الذي قدم نفسه للناس في أول معارضه عام ١٩٦٧، وأقام معارضه في لبنان والكويت والأردن والعراق ودول غربية، وتم تكريمه في عدة دول ومناسبات.
(روح مصرية) يضم لوحات من مراحل حياة شيحة المختلفة، وتعبر عن رؤاه للحضارة المصرية، عاشق هو ومتباه بكونها حضارة للإنسانية يتفاخر بها الإنسان أينما كان ويسعى إليها رغم عجزه عن حل بعض ألغازها ورؤيته أنها خير معبر عن عظمة الأولين.
mahmoudhassouna2020@gmail.com