حسنين هيكل وفهمى عمر.. وبس !
بقلم : محمد شمروخ
(بين الصحافة السياسة) واحد من أهم وأكثر الكتب خطورة، سواء في تاريخ الصحافة المصرية عامة، أو في المكتبة الهيكلية خاصة، وعند قراءتى الأخيرة لهذا الكتاب الصادم في معلوماته السلس في تتابعاته الممتعة في سردياته، حسب أصول المذهب الهيكلى العتيد، الذي وقع في ذهنى وأعقبه السؤال المرير.
فعندما قرأت ما كتبه هيكل عما دار في مقر قيادة الجيش المصري وبالتحديد في مبنى هيئة الأركان، حيث كان محمد حسنين (المشهد الأول) .. هيكل حاضرا كشاهد عيان على أهم وأخطر حدث في تاريخ مصر المعاصر.
كانت الساعة قد جاوزت الثانية من صباح يوم الأربعاء الموافق 23 يوليو سنة 1952، أي بعد ساعتين وعدة دقائق من بداية تحرك ضباط من الجيش المصري ليستولوا على مقر القيادة ويكسبوا المباراة من أول جولة وبالضربة القاضية!.
رائع رائع .. لكن اصبر ليس هذا هو الرائع الوحيد، فقد كان هيكل حاضرا بشحمه ولحمه وعقله ووعيه بين قادة الحركة الجديدة التى تنذر بتغيير التاريخ ليس في مصر فقط، لا، بل في المنطقة العربية كلها، لا، بل في تاريخ الكوكب رقم (ثلاثة من الاتجاه القادم من الشمس والمتجه إلى بلوتو في سلسلة كواكب المجموعة الشمسية وأنت داخل على درب التبانة على إيدك اليمين).
إنه حدث حذا بمخلوقات الفضاء اللامرئية وهى تجوب المدارات الكونية، بأن تقف مبهوتة لتلقى نظرة على ما يجرى في تلك اللحظة بالمنطقة التى تقع عند ملتقى وادى النيل بدلتاه، وتشغل قلب ذلك الكوكب المسمى بالأرض!.
وغصب عني والنعمة الشريفة.. وجدتنى أضع كتاب هيكل المرير جانبا، لتتوالى على صدرى مرارات أخرى بعد أن وقع في خاطرى ما وقع، وكادت الوقعة تترجم إلى دموع متحسرة.
آه وربنا.. دموع متحسرة بجد.
وقدرت على حبس الدموع ولكن لم أصبر على كتمان الحسرة!
لم يكن الشروع في البكاء، بسبب الحدث الكبير الذي يختلف حوله من يختلف، صدقا وكذبا، أصالة وادعاء، لكنها الحسرة المنفلتة تلك التى جاءت بسبب ورود الخاطر العبثى المتمثل في تساؤل حزين عن سبب وجود هيكل في قلب الحدث!
لم يمسك دموعي إلا تذكرى بأنى راجل صعيدى لا يجب أن تنفلت دموعه مهما كان السبب، ولكن يمكن استبدالها بالحسرة الصامتة وإن كانت أنكى وأشد!
وزاد الطين بلة أنه ورد على نفس الخاطر المكلوم بالمقارنات الزمنبة، موقف آخر حدث بعد ذلك الموقف بحوالى أربع ساعات، كان هو
(المشهد الثاني):
عندما طلعت يا محلى نورها شمس الشموشة على شوارع وسط البلد لتنذر بيوم حار خاصة في مقر الإذاعة المصرية القديم ما بين مبنى الإذاعة في شارع الشريفين أو استديوهاتها في شارع علوى، حيث بدأ المشهد بخطوات ضابط جيش يحمل على كتفه (تاج ونجمة) اسمه أنور السادات وها هو يبدأ الحوار مع مذيع صعيدى شاب في حوالى الرابعة والعشرين من العمر اسمه (محمد فهمى عمر)!
(تذكر أن المشهد الأول لصحفي في أخبار اليوم لم يكمل الثلاثين من العمر.. آه يا حزن الحزن ويا حسرة الحسرة).
في المشهد الأول محرر صحفي في ضيافة الجيش المصري الذي يمثله ضباط ثائرين يشرعون في خلع ملك، لا بل في تغيير نظام اجتماعى اقتصادي سياسي عسكري .. وضع ما تحب لكى تملأ به الفراغات السابقة.
وفي المشهد الثانى ضابط جيش في ضيافة الإذاعة المصرية كجهاز إعلامي شكل الجناح الثانى والأخير للإعلام المصري يمثله المذيع الصعيدي، الذي راح يجادل الضابط الأسمر الذي (يستأذنه بأدب) في أن يترك له الميكروفون ليلقى بيانا خطيرا!.
هلا أدركت السبب لما داهمنى من الدموع المنحبسة أو الحسرة المنفلتة!
هيكل الصحفي في قلب المشهد الأول حيث الاستعداد، بينما فهمى عمر الإذاعي في بؤرة المشهد الثاني حيث التنفيذ.
صحفي ومذيع شابان في بؤرة الحدث الأعظم.. هل من مفسر؟!
أين المؤرخون ليبرروا لنا؟!
أين علماء الاجتماع ليفسروا لنا؟!
أين علماء النفس ليحللوا لنا؟!
أين الإعلاميون لـ..، (ولا بلاش الإعلاميين علشان بس الإحراج).
أطلق معى مشاعرك ولتفعل بي وبك ما تفعل، فهكذا كان حضور الصحافة والإعلام في ساحة السياسة المصرية، شهودا عيانا بيانا.
لم يكن غير هذين يمكن أن يطلق عليهما أجهزة إعلام، فلا تليفزيون ولا مواقع إنترنت ولا محطات فضائية ولا فيسبوك ولا تويتر ولا تيك توك!
الصحافة الورقية والإعلام المسموع فقط لا غير.
واحدة شخصها هيكل والأخرى جسدها عمر!
لم يكن أى منهما من كبار ملاك الصحف ولا قادة الرأى ولا حتى من الصفوف الأولى في أي من المجالين، فلم يملك الأول سوى قلم ومساحة في جريدة أخبار اليوم والثانى لا يحوز غير صوت وميكروفون في نوبته الصباحية، لكن عمل كل منهما وضعه في قلب الحدث وجعله شاهدا له وشاهدا عليه.
هكذا كان الإعلام شاهدا (وليس مشاهدا)، بل محركا له في كثير من الأحيان أو فى بعضها كان صانعا!.
آه.. أومال أنت فاكر إيه.. فلم يكن الإعلام بشقيه المقروء أو المسموع، تابعا ولا مأمورا ولا إمعة ولا مخادعا ولا مزيفا ولا مغيبا ولا مثيرا ولا رهنا بسين ووصاد وعين.. وربنا يكفينا شر بقية الحروف!
المشهد الأولانى.. هيكل يناقش عبد الناصر في أول ساعات الثورة ومعه على سماعة التليفون من الأسكندرية، مع نجيب باشا الهلالى الذي كان قد مضى على حلفه اليمين كرئيس للوزراء عدة ساعات، ومرة أخرى مع مصطفى أمين رئيس تحرير أخبار اليوم، الذي كان يبحث عن هيكل واتصل من الأسكندرية أيضا بسويتش أخبار اليوم باحثا عن هيكل ليستفسر منه عما يقال عن نزول بعض الوحدات العسكرية إلى الشارع، فإذا به يهيكل يخبره أنه يتحدث إليه وبجانبه جمال عبد الناصر الذي أصر أن ينقل هيكل إلى مصطفى أمين كل ما يحدث!.
وفي مشهد فهمى عمر، يدور حديث بينه وبين الضابط الذي يحمل رتبة البكباشي واسمه أنور السادات، وكان هو مشهورا بسبب دوره السياسي قبل ذلك لاسيما قضية مقتل أمين عثمان، لكن الحديث الدائر على باب الاستوديو يبدأ بأسئلة واستفسارات من المذيع الصعيدي الشاب اختصارها (إيه حكايتك؟ وجاى تعمل إيه هنا؟!)، ويقتنع المذيع ويفتح الهواء للبيان!
هل عرفت الآن ما هو سبب الحسرة؟
أرجو ألا تكون عرفت وإذا عرفت فلا تجيب وإذا أجبت فبينى وبينك.. بس خصيمك النبي أوعى تقول لحد خصوصا ..
(استر ياللى بتستر!!.)