الوجه الجديد للإرهاب
بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد
منذ سنوات طوال و مصر تعانى من الإرهاب و حوادثه ، و زادت تلك الحوادث و اشتدت بعد 30 يونيو 2013 حتى باتت أرقا ، و بذلت الدولة جهودا ضخمة لمقاومة الإرهاب ، تحملت خلالها القوات المسلحة و الشرطة تضحيات كثيرة كى تستأصله. و لكن لم تستطع اقتلاعه من الجذور ، لأن عملية الاقتلاع تتطلب تضافر جهود كثير من المؤسسات التى تعمل بعضها – ربما بحسن نية – ضد هذه الجهود ، و لذا تم إنشاء المجلس القومى لمكافحة الإرهاب و التطرف عام 2017 ، برئاسة رئيس الجمهورية و عضوية كل الوزراء و مسئولى الجهات المعنية و بعض الشخصيات العامة لإقرار استراتيجية وطنية شاملة تلتزم بها كل مؤسسات الدولة لمواجهة الإرهاب و نبذ العنف ، و الترسيخ لمبدأ المواطنة و قبول الآخر ، و مواجهة التطرف و خطاب التشدد بكافة صوره .
إلا أن الارهاب مازال موجودا و يطل برأسه بين الحين و الآخر ، مطورا من أساليبه و طرقه ، حتى صار أكثر انتشارا ، بعد أن شارك فى صناعته أفراد و مؤسسات كان من المفترض أن تقاومه . فالإرهاب بمعناه الشامل هو : ( وسيلة من وسائل الإكراه ، تستخدم فيه أساليب عنيفة لخلق أجواء من الخوف ويكون موجهاً ضد المواطنين للتأثير عليهم ، لتحقيق أهداف دينية أو سياسة أو أيديولوجية . ( و يؤكد باحثون أن تاريخ العمل الإرهابي يعود إلى قديم الأزل منذ ظهرت رغبة الإنسان فى السيطرة على غيره و فرض آرائه عن طريق زجر الناس و تخويفهم ، و عادة ما يلجأ الانسان للعنف لعدم استطاعته إقناع الآخرين بوجهة نظره ، أو إحداث تغييرات فى المجتمع بالوسائل المشروعة .
و بهذا المعنى فإن مصر تجتاحها الآن موجة غير مسبوقة من الإرهاب و التطرف ، تستهدف روحها و قواها الناعمة و كل ميراثها الحضارى و الفكرى و الفنى . و يتم فيها ترويع المبدعين و المفكرين لصناعة ردة حضارية الى ما قبل عصر التنوير المصرى ، ليس عن طريق التفجيرات ، بل عن طريق الاغتيالات المعنوية و الإرهاب الفكرى ، بداية من مجموعة المحامين التى أدمنت رفع القضايا باسم الحفاظ على تقاليد المجتمع ، مرورا بقضايا ازدراء الأديان لكل مختلف فى التفسير مع القواعد السلفية ، و الهجوم على أى رأى لا يرضى عنه هؤلاء ، كما حدث مع الإعلامى الكبير ابراهيم عيسى ، و صولا إلى الوقائع الأخيرة التى تمت تحت سمع و بصر الجميع ، بما فيهم المجلس القومى لمكافحة الارهاب .
الواقعة الأولى تخص فيلم ريش حيث تم اتهام صناعه بتشويه صورة مصر ، و هو اتهام غير محدد المعالم من الممكن إطلاقه على أى عمل يتعرض بالنقد – حتى لو كان غير مباشر – لأى صورة سلبية فى المجتمع ، فتصوير الفقر ، أو البطالة ، أو أطفال الشوارع ، أو العنف أو التحرش أو حتى البيروقراطية أو الفساد من الممكن أن يتهم بنفس التهمة ، و هى تهمة تسببت بإفساد فنوننا الدرامية خوفا من التعرض لها ، لذا نجد معظم أفلامنا و مسلسلاتنا حاليا تتجه لقضايا ليس لها علاقة بالمجتمع ، تملؤها شخصيات لا نجد لها مثيلا على أرض الواقع ، و تحتل الشاشة بمشاكلها التافهة و قصورها المنيفة و سياراتها الفارهة ، أو تصبح الشاشة مرتعا لموضوعات خرافية كالجن و العفاريت و الزومبى . فالكل يخشى من التهمة أو ما يشبهها مثلما حدث مع مسلسل (الطاووس) الذى تعرض لحملة ظالمة كاد أن يشارك فيها المجلس القومى للإعلام !! ثم بعد ذلك نصرخ : أين مشاكلنا ؟ و لماذا لا يتم التعبير عنها ؟ و أين الفن الملتزم بقضايا الوطن ؟ .
هذه هى نتيجة الهجوم على الفيلم – و ما يشبهه من أعمال – على المدى الطويل ، بعد أن نجح الإرهاب الفكرى فى تحويل الفيلم – الذى فاز بعدة جوائز دولية و رفع اسم مصر فى المحافل الفنية و وسط فنانى العالم – إلى كارثة على الإبداع و المبدعين ، حيث أرهبهم و حدّ من حرية التعبير ، و صارت التهمة سيفا مسلطا على حرية الابداع.
أما النتيجة المباشرة لما حدث من هجوم فتمثلت فى أن الرقابة على المصنفات باتت تنفخ فى الزبادى و الماء و حتى التراب ، بعد أن تحقق الهدف من إرهابها ، فرأينا مؤخرا كيف تعطل افتتاح إحدى المسرحيات حتى يتم تنفيذ تعديلات رقابية و الإصرار عليها ، برغم أن المسرحية لا تتعرض للدين أو السياسة أو الجنس – و هى محرمات الرقابة – لمجرد أن أحد الرقباء تصور تفسيرا لمعنى المسرحية ، و هو تفسير ربما لم يخطر على بال صناعها !!
و التساؤل المطروح الآن : هل ستجرؤ الرقابة بعد ما حدث للفيلم على إجازة أى موضوع جاد فى المستقبل ؟ أم أن التفاهة و السطحية و البعد عن المحظورات – و لو فى خيال السيد الرقيب – ستكون لهم الغلبة ؟ بل التساؤل الأكبر : هل ستجرؤ وزارة الثقافة على تكريم أى فائز بجائزة دولية بعد اتهامها بتكريم من أساء لسمعة مصر ؟ أم أنها ستجعل ( ودن من طين و التانية من عجين ) أمام أى جائزة دولية ؟ و ساعتها لن نعدم من ينتقدها لعدم الاهتمام و لعدم تشجيع الشباب إلخ .. إلخ .. إلخ .
اما الواقعة الثانية فهى أشد عبثا ، حيث تعرضت النجمة إلهام شاهين لهجوم ضار بسبب إعلانها عن رغبتها ( مجرد الرغبة ) فى تقديم مسرحية تحمل اسم ( المومس الفاضلة ) ، ربما كان جزءا من الهجوم هو تصفية حسابات بين النجمة و بعض التيار السلفى ، لكن المدهش و المثير للقلق أن يتصدى أحد النواب لمنع تقديم العمل عن طريق تقديم طلب إحاطة ، ثم تنضم إليه الهيئة البرلمانية لحزب النور السلفى – مؤكدة اعتراضها على الاسم – و هكذا صرنا أضحوكة لمثقفى العالم ، فالمسرحية تحمل توقيع ( الفيلسوف ) جان بول سارتر ، و هى مسرحية تناهض العنصرية و تحمل موقفا أخلاقيا ، و لكن يبدو أن السيد النائب لم يقرأها و لم يعرف أنه سبق تقديمها فى مصر و على خشبة المسرح القومى و أن السيد سارتر تم استقباله فى مصر استقبالا رسميا كضيف للجمهورية العربية المتحدة بصفته مفكرا اشتراكيا مناهضا للاستعمار.
فمن بالله عليكم من يسيئ لسمعة مصر ؟ ، ذلك الفيلم أم هذا الجهل ؟ و من يسعى لنشر الإرهاب و التطرف : حرية الإبداع ، أم إسكات الصوت المختلف ؟!.