كتب : محمد حبوشة
يبقى ياسر العظمة فنان قمة في الروعة والأخلاق، أحببنا أعماله بشغف، وربما كان سر نجاحه لسنوات طويلة هو محاكاة البيئة السورية سواء قديمة أو حديثة، لتصويره معاناة و مشاكل الحياة اجتماعية و آراء فكرية تقدم نقد لاذعا بأسلوب المثقف العتيق، ولقد كانت إسقاطاته لأعماله ناجحة على واقع السوري آنذاك وحتى العربي بصفة عامة، وفي ظل أن الدراما السورية فقدت بريقها ورونقها، أطل علينا مؤخرا بمسلسله (السنونو) ليثبت جديته من جديد مستخدما فروض العصر الجديد، وظني أن أدائه تطور كثيرا حيث قدم لوحات رائعة على غرار مراياه الآسرة، ولكن لأنها بأسلوب عصري يمزج بين الفكاهة والشعر والمفارقات الحياتية المستمدة من الظرفاء والانحياز تراجيديا لآلام رواد سفينته (السنونو)، وقد لاتروق لجمهور عربي اعتاد الرعب والأكشن، لذا جاءت ردود فعل بعض الجمهور سلبية في أغلب الأحيان.
ربما بسبب المكانة الشعبية التي يتمتع بها ياسر العظمة من جهة، ولأن العظمة اختار شخصية (عوني الناكش) من إحدى لوحات (مرايا 97) ليعيد إحياءها في مسلسله الجديد؛ ليتهافت على المسلسل فور عرضه الجمهور الغارق بالنوستالجيا ويصاب بعضهم بخيبة أمل، لأن شخصية (عوني الناكش) التي يعيد تجسيدها ياسر العظمة بعد 24 سنة لا تحمل من سمات الشخصية ذاتها في اللوحة الأصلية سوى اسمها؛ فـ (عوني الناكش) في (السنونو) خاطب الجمهور العصري بلغته، ولم يعد تلك الشخصية الحشرية المزعجة التي تتدخل بشؤون الآخرين وتنهال عليهم بسيل من المعلومات والإرشادات الغريبة، التي سرعان ما سندرك صحتها؛ بل على العكس من ذلك نجده في (السنونو) شخصية أكثر هدوءا واتزانا تدرك الحدود التي يجب أن تلتزم بها مع الآخرين.
هكذا لم يعتد الجمهور العربي (ياسر العظمة) في ثوب أكثر فخامة وثراء على مستوى الشكل والمضمون، مرتكزا على قاعدة قيمية عبر شخصية مثقف في عصر الغربة والتشريد وفوضى الحروب يندر وجودها في دراما العرب الحالية التي تجنح نحو الفوضى والعشوائية، وإذا ما تجاوزنا المقارنات بين (السنونو) و(مرايا)، وحاولنا أن ننظر لشخصية (عوني الناكش) التي يقدمها ياسر العظمة على أنها شخصية جديدة، فإننا سنجد أنفسنا أمام لوحة غاية في الرقي، يمكن أن نسميها بدراما (اللايت كوميدي)، فهي أنتجت على غرار اللوحات باهظة الثمن، التي تحتوي على أكثر من لون واحد أو خط درامي، ومن ثم تصبح قيمتها التسويقية تصل إلى أسعار خيالية بسبب قيمة الفنان الذي يبيعها.
قال بعض من نقاد افتقدوا للموضوعية عندما تناولوا المسلسل بعد عرض 10 حلقات، إنها اللوحة الفارغة التي قدمها ياسر العظمة، والتي تمكن من بيعها بسبب اسمه وبفضل بعض الأسماء المشاركة في صناعة العمل معه، كـ عابد فهد وبشار إسماعيل والمخرج خيري بشارة، وبلغت القسوة في التناول إلى حد قول أحدهم: لكن الفارق بين اللوحات الفارغة التي تباع بمعارض الرسم ومسلسل (السنونو) أن اللوحات ستشاهدها بلحظات ولن تضيع كل هذا الوقت على متابعتها؛ فاليوم بعد أن وصل المسلسل إلى منتصف طريقه ندرك تماماً أن متابعته هي مضيعة للوقت.
بالله عليكم كيف يمكن أن نقيم عملا دراميا يسير بخطوات واثقة قبل الوصول إلى خط النهاية حتى تكتمل رسالته وأهدافه على نحو صحيح، إذ يبدو أن العظمة رجل حكيم، قادر على سحر الناس بإلقاء الشعر المثقل بالحكم والتنظيرات؛ وربما ذلك يتماشى مع تيمة (الاسكتش) الذي قدمه في (مرايا 97)، لكن الفارق الرئيسي بين العملين أن النسخة القديمة القصيرة كانت تحتوي على ملامح شخصية كوميدية قلت بعض الشيئ بـ (السنونو)، وفيها حكاية بسيطة ولحظة ذروة درامية يمكن معايشتها والتماهي معها؛ في حين تبدو أشعاره وحكمه التي يلقيها في (السنونو) كجرعة إضافية من التنوير، يلقيها على الجمهور بعد عرض مسلسل لا يمكن وصفه سوى بأنه دراما حديثة بأسلوب إرشادي من خلال النوستالجيا في تجلياتها التي نفتقدها في زمننا الحالي.
رأي الشخصي أنه يصبح من الظلم الفادح اجتزاء المسلسل في عدة حلقات يمكن التعليق عليها قبل أن ينتهى، كما أن من الظلم أيضا العودة إلى سلسلة مرايا العظمة التي بدأت في عام 1984 واستمرت حتى 2013، فإن (السنونو) يبتعد كليا عن النمط التي اعتاد المسلسل السوري أن يقدمه للمتابعين، والأهم أنه يجمع شخصيات مختلفة من عدة دول عربية في مكان واحد هو سفينة (السنونو) التي تبحر من الإمارات نحو عدة بلدان عربية وأجنبية، ويندرج ضمن ما بات يطلق عليها اليوم الدراما العربية المشتركة، ورغم ذلك فإن ممثلين سوريين شاركوا العظمة مراياه يشاركونه اليوم هذا العمل، وأبرزهم: مرح جبر، وبشار إسماعيل، ومحمد قنوع، وعابد فهد، مع حضور ممثلين لبنانيين (فادي إبراهيم)، ومصريين (حمدي المرغني)، ما يجعل المسلسل يخاطب شرائح مختلفة من الجمهور العربي الذي يشتاق كثيرا للنوستالجيا في ثوب كوميدي خفيف، خاصة إذا كانت بأسوب نقدي برع فيه العظمة طوال تاريخه الطويل.
ومن المجحف أيضا أن يقول نقاد لم يشاهدوا كامل الحلقات أن (السنونو) سقط في فخ المقارنة مع سلسلة مرايا الشهيرة، خصوصا وأن الأخيرة كانت تسلط الضوء على مشاكل وهموم المواطن السوري وربما العربي أيضا من خلال لحظات كوميدية لا تخلو من مسحة الحزن والألم، في حين يمكن إدراج العمل في سياق ما يتطلبه سوق الدراما الجديد – إن صح التعبير – فالأعمال التي تجمع الممثلين العرب أصبحت تطغى على الشاشة بفعل عدة عوامل من أهمها أحداث الربيع العربي وتنقل الفنانين إلى دول أكثر استقرارا، ولقد نسي هؤلاء من (نقاد الاجتزاء المقيت) أن كثيرا من المتابعين من الجمهور العربي لا تزال تراهن على تاريخ العظمة وحجم مكانته، وتنتظر من العمل أحداثا أكثر تشويقا وإثارة، ومن ثم فهم يفضلون عدم التسرع في الحكم على المسلسل حتى تنتهى حلقاته.
ساءني جدا قول بعض هؤلاء (من نقاد الغبرة) أن (العظمة) ذلك الشامي العتيق خرج من حارات الشام الى فنادق دبي ويخوتها الفخمة.. فشل فني وثوب مصطنع لا تعكسه المرايا، فلايمكن مقارنة تلك الأعمال التي تابعها الملايين في العالم العربي ضمن سلسلة (مرايا) و(شوف الناس)، و(عشنا وشفنا) ورسمت البسمة على وجوه مشاهديها، عاكسة بشكل خاص البيئة الدمشقية العتيقة، بكافة مراحلها التاريخية القديمة المعاصرة أن تقوم بالدور ذاته في ملامسة هموم مختلف الطبقات الاجتماعية الحالية، شاهرة سيف النقد الجريء في وجه المثالب والنواقص والانحرافات في المجتمع بأسلوب مفعم بالظرافة والمتعة، فقد اختلفت الظروف واختلف جمهور المشاهدين في زمن المنصات الرقمية التي رفعت سقف الحرية إلى حد الوقاحة، فلزم لهم العودة إلى النوستالجيا بأسلوب يتفق مع فروض عصر التكنولوجيا التي لاتقبل فقر الصورة أو فقدان القيم التي تربينا عليها في المجتمع العربي، كما عكسها العظمة باسلوبه الراقي.
صحيح أن العظمة في (السنونو) أخرج من ثوبه الشامي ومن بين حارات دمشق القديمة، والبيئة السورية التقليدية التي كانت معظم حلقات مرايا عبر السنوات تدور في فضاءاتها المشعة بالحياة والقصص اليومية للبسطاء وحكايا اجتماعية من قلب واقع معيشي للإنسان السوري لا يخلو من المفارقات والحبكة الذكية المشوقة والكوميدية في آن معا، لكنه حلق عاليا في هذا الزمن بأسلوب نقدي يخالف منهجه القديم، ويطير بنا نحو عوالم سحرية مبهرة على جناح فخامة الصورة وروعة الحدث التي تفتقدها (المرايا)، ويقدم لنا لوحات رائعة تجمع بين النوستالجيا والكوميديا والحداثة بأسلوبه النقدي الذي لايخلو من أشعار ومفارقات تشع بها الشاشة الجديدة في بهاء مغاير، على متن باخرة ضخمة في دبي، في جو من البذخ والاستعراض للصورة في ثوب عصري.
يبقى الفنان ياسر العظمة من أجمل الفنانين السوريين، ووجود الفنان في الإمارات وهى بلده ومنحه الجنسية تكريما له لمشواره الفني الكبير هو قامة فنية عربية بلا منازع، وأن كان مسلسل (السنونو) يعتبر مختلفا عن ما قدم سابقا، فأريد أن اقول لكل زمان دولة ورجال والتغير مطلوب لأن الجيل تغير، ولست مع جميع من انتقد الفنان باعتباره من الجيل القديم، فمن أبسط حقوق الفنان الذي امتعنا سنين طويلة احترام تاريخه وليس انتقاده، يكفي انه ظهر من بعد انقطاع وتصوير العمل في الإمارات هو بسبب سوء الأوضاع في سورية، ومن المؤكد أن ماقام به ياسر العظمة هو عبارة عن عمل ترفيهي لا يمت بصلة للواقع القديم بعكس كل أعماله السابقة اللتي كانت من صميم أوجاع الشارع السوري، ليستبدلها بشارع جديد يخاطب العصر الجديد.
أعجبني جدا (ياسر العظمة) في تحولاته المدهشة، فمن حلقة لأخرى كان يزداد تألقا وإنسانية فياضة بالمشاعر الدافئة، وهنالك أكثر من ماستر سين في هذا العمل الممتع من وجهة نظري، لكني أتوقف عند مشهد اجترار الذكريات المؤلمة من جانب (تقلا شمعون) مع (ياسر العظمة) بأداء هادئ يعكس معاناة المرأة التي تربي وتعلم ويكون جزاءه الهجر والنسيان وتركها في غياهب الغربة الموحشة، كما جاء على النحو التالي:
في الحلقة السادسة وتحديدا في الدقيقة الرابعة تجلس (الست ملاحات/ تقلا شمعون) وحيدة شاردة في ذكرياتها الموجعة، حين يدخل عليها (عوني الناكش/ ياسر العظمة) صاحب السفينة، ويسألها: كم ولد عندك ست ملاحات؟.
تجيبه ملاحات : ثلاثة لألله .. صبيان وبنت.
عوني : عايشن معك؟
ملاحات ترد بأسى : ياريت!!
عوني : وين عايشين هادول؟
ملاحات : الكبير باستراليا .. والظاهر استقر هناك .. عنده صبيين وبنت.
عوني : ياسلام مافي أحلى من الأحفاد .. ياستي أنا ناطر أزوج بنتي الوحيدة حتى يكون إللي حفيد وأفرح بشوفته.
ملاحات : إيه مظبوط .. ايه مظبوط .. بس بعد ما شوفت أحفادي إلا بالصور.. بالموبايل .. يعني شو ما بدهم أشوفهم على الطبيعة.
عوني : والولد التاني؟
ملاحات : بأوروبا عايش .. عنده صبي وبنت .. وبنتي عايشة بالإمارات زوجه بيشتغل ببنك هونيك.
عوني : يعني الحمد لله طالما انهم بخير وسلامة وعم يراسلوكي بها الأي باد والتكنولوجيا الحديثة ووسائل الاتصال يللي قربت المسافات .. يعني الحمد لله تطمني .. والعالم كله صار قرية صغيرة.
ملاحات : أخ .. كنا عايشين بنفس البلد ونفس الضيعة .. بس أنجا بنشوف بعض .. مع اني قلت لهم وقت اتزوجوا اوعوا تقطعوا اجريكم عن هذا البيت .. شوفتكم بتردولي الروح .. أوعوا تطولوا الغيبة عني.
عوني : مالهم عذر أبدا.
ملاحات بتهيدة مرة : هالقد هموم الدنيا بتاخدنا من ولادنا؟! .. أنا ولادي مش بس تركوا البيت .. تركوا لبلاد .. كل واحد منهم صار بديرة.
موسيقي ناي حزين على أثرها تقول ملاحات : أوقات باحس حالي مهملة منسية .. كمان بطل إللي عازه .. خلصت صلاحيتي .. تاري يا أستاذ عوني مس بس المنتوجات بتخلص مدة صلاحيتها .. كمان الإنسان بيجي وقت وبطل يصلح .. تخلص مدته .. مع انه بيكون تعب وشقي وربى وكبر وعطى كل شيئ .. كل شيئ .. ممكن مضبوط أنا بطل إللي دور بحياتهم .. بس أنا بعدون أمهم .. وبعدي باشتاقلهم .. وبعدون عندي نفس الإحساس تجاهم .. حتى أكتر .. كل ما باكبر حعم باحس اني باتعلق فيه أكتر .. وهن كرملهم بينسوني أكتر.
عوني : ولا يهمك مدام .. طالما بتشوفيهم على الموبايل فهادا شيئ يعني بيخفف من وحشتك.
ملاحات : شو يا أستاذ عوني .. شو موبايل .. كيف هيك قاعدة بامسك خيالات لا باحس بدفاها ولا باحسن بشيئ باقعد ابوس قزارة والمسها كاني واحدة مجنونة .. لا .. اللي باحسسني أكتر اني بطل إللي عازه باهمالهم إللي .. أنا مابدي منهم شيئ .. ما بدي منهم شيئ أبدا .. أنا بس بدي يجيوا عندي من وقت للتاني وما ينسوني أبدا .. ويسألوا عني من وقت للتاني .. وما ينسوني .. هادا طلبي.
عوني : طول بالك مدام .. طولي بالك .. الله يديمك .. الله يديمك يا ستي .
ثم ينصرفا في نهاية المشهد، لكن عوني يفاجئ ملاحات بابنها على متن السفينة ليزيل أوجاعها وهمومها بمغادرتها للعيش مع ابنها في أوروبا.