رجاء النقاش يكشف براءة وطهارة (المومس الفاضلة) في حواره مع سميحة أيوب !
* الجمهور المصري استقبل (المومس الفاضلة) بحفاوة شديدة عام 1958
* مفاجأة: الإذاعة المصرية قدمت (المومس الفاضلة) في البرنامج الثقافي من إخراج محمد توفيق
* سميحة أيوب (ليزي) بطلة (المومس الفاضلة) تذكرني بمريم المجدلية.
كتب : أحمد السماحي
الضجة التى أثيرت حول تجسيد النجمة المبدعة (إلهام شاهين) لدور (ليزي) فى مسرحية (المومس الفاضلة) رائعة الكاتب العالمي (جان بول سارتر) وإخراج سيدة المسرح العربي (سميحة أيوب) من قبل أحد نواب مجلس الشعب ــ ولن أذكر اسمه حتى لا يحقق شهرة يتمناها ويحلم بها ــ، جعلنا نترحم على الزمن الماضي خاصة في حقبتي الخمسينات والستينات وما قبلهما سواء في الفن أو الأخلاق؟، لأن كل شخص فى المجتمع المصري فى الماضي كان مهموما بأداء عمله فقط، ولا يتدخل في اختصاصات غيره من قريب أو بعيد، لهذا كان الفن المصري أحد أوجه مصر الحضارية المنيرة.
كان من السهل على النجمة (إلهام شاهين) أن تعود إلى خشبة المسرح المصري بأي نص من النصوص السطحية التي يمتلء بها المسرح حاليا، لكنها بحكم دراستها أولا، وثقافتها ثانيا، وحبها لبيتها الأول المسرح ثالثا، قررت أو نوت أن تعود بنص عالمي من روائع المسرح العالمي، ونظرا لأننا نعيش في عصر (التريندات) وسيطرة الجهل، والمهرجانات الغنائية والتفاهه على حياتنا، قامت الدنيا ولم تقعد، وتقدم نائب برلماني بطلب إحاطة ليس لتغيير اسم المسرحية!، بل نسفها من الأساس والادعاء بعدم ملائمتها لأجواء المجتمع المصري باعتبارها تؤثر على الشباب، وكأن المشكلة ليست في الاسم فحسب، بل في المضمون الذي يراه غير أخلاقي؟ ما يعني أننا لو قدمنا مسرحية إباحية باسم (الفضيلة) فليس لديه مانع طالما أن الاسم لا يخدش الحياء العام على حد زعمه، رغم أنه لم يرها ولم تخرج للنور من الأساس!!!.
المفاجأة التى نفجرها أن هذه المسرحية قدمتها الإذاعة المصرية بنفس الاسم (المومس الفاضلة) في منتصف الستينات في إذاعة (البرنامج الثاني) التى أصبح الآن اسمها (البرنامج الثقافي)، وقامت ببطولتها النجمة الكبيرة (سناء جميل، وسعد أردش، وملك الجمل) وإخراج محمد توفيق، وقبل الإذاعة قدمها المسرح القومي عام 1958 من بطولة (سميحة أيوب) وإخراج (حمدي غيث).
ونظرا لأهمية المسرح وسموه في الطرح، ففي عام 1966 ذهب الكاتب الكبير (رجاء النقاش) رئيس تحرير مجلة (الكواكب) بنفسه وحاور سيدة المسرح العربي (سميحة أيوب)، عن ثلاثة أدوار مهمة لعبت فيهم دور (المومس)، مع أنه كان من الممكن أن يرسل (النقاش) مدير التحرير، أو رئيس قسم أو صحفي مخضرم، لكنه من شدة إعجابه بالأدوار الثلاثة ذهب هذا الكاتب الكبير، وكان هذا الحوار الرائع الذي نشر في مجلة (الكواكب) أولا، ثم نشره الكاتب لاعتزازه به فى كتابه (كلمات في الفن)، ونظرا لأهمية الحوار الآن في ظل الأجواء الملبدة بغيوم الجهل على بعض نواب الشعب، ولأنه حوار تنويري ننشر جزء منه المتعلق تحديدا بـ (المومس الفاضلة) علنا نعي ونتدبر ماكان إبداعا بالأمس كيف أصبح اليوم عارا على الفن وأهله الآن في ظل الثورة المعرفية:
فى البداية يقول رجاء النقاش: في ثلاثة أدوار مشهورة وقفت (سميحة أيوب) على خشبة المسرح لتمثل شخصية (المومس الفاضلة)، مومس فى إحدى ناطحات السحاب في أمريكا، ومومس في عصر المماليك، ومومس في قرية من بلادنا، وكلما ظهرت هذه المومس على المسرح قابلتها عاصفة من التصفيق، كأن الناس يصفقون لقديسة، وليس لإحدى المومسات.
كان موعدي معها في السادسة فى إحدى ليالي الصيف بالمسرح القومي والتقينا فى الموعد بالضبط، هذه هي المرة الأولى التى أتبادل فيها حديثا مباشرا مع (سميحة أيوب)، كان لقائي بها دائما فى مقاعد المشاهدين أصفق لها كلما ظهرت على المسرح، ثم أهمس لمن يجلس إلى جانبي (سميحة) ممثلة كبيرة، إنها تمثل من قلبها بصدق وعمق وموهبة، كانت تؤدي أدوارا صعبة، وتؤديها بفهم وحساسية، ولم أعرف كيف أبدأ الحديث معها، لقد ذهبت إليها لأنني أريد أن أفهمها، أريد أن أفهم سر (الشيئ) الذي يربط بينها وبين جماهير المسرح في بلادنا.
أريد أن أفهم سر الحرارة التى تملأ الأيدي وهى تقابلها كلما ظهرت على المسرح بعاصفة صادقة من التصفيق، ولم أتردد كثيرا، فقد شعرت بعد قليل أنها شخصية منطلقة بسيطة، ليس في روحها أي مكياج يحجب شخصيتها ويجعل من العسير على الإنسان أن يتحدث معها حديثا صادقا بلا مكياج أيضا .
قالت لي سميحة أيوب: إن دوري في مسرحية (السبنسة) لـ (سعدالدين وهبه)، هو دور الغازية (سلمى) التى تأبى الاستسلام وتتمرد على حياتها وتقف إلى جانب الخير، كان هذا الدور من أقرب الأدوار إلى قلبي، ورغم أنه دور صغير بسيط، ولكني عادة لا أهتم (بكمية) الدور، وإنما أهتم بنوعيته، لقد أراد البعض أن ينفروني من الدور وقالوا لي هذا دور ثانوي، أنه دور (كومبارس)!.
ولكني لم أهتم لقد شعرت بقرابة روحية بيني وبين الدور، وهذا كل ما أطلبه من الأدوار التى أؤديها الآن وإلى الأبد، إن الغازية (سلمى) هى (المومس الفاضلة) التى مثلتها من قبل في مسرحية (سارتر) المعروفة بهذا الاسم، وهى أيضا (المومس الفاضلة) التى مثلتها في مسرحية (السلطان الحائر) لتوفيق الحكيم.
والقرابة الروحية بيني وبين شخصية (المومس الفاضلة) فى المسرحيات الثلاث هو شيئ نابع من إحساسي بالإنسان، أنا أتصور الإنسان دائما في صورة جميلة لم أستطع أن أتنازل عنها أبدا حتى عندما يتهمني الناس بأنني رومانتيكية أعيش فى الوهم والخيال، الإنسان كما أراه كائن مليئ بالخير، وكثيرا ما يتعرض الإنسان لظروف تطمس جانب الخير فيه، وعلينا نحن أن نبحث عن هذا الجانب ونعمل على اكتشافه، وعلى الفنان بالذات أن يساهم فى هذا الاكتشاف العظيم الذي يؤكد أن الطبيعة الإنسانية مليئة بالخير وأن الشر شيئ يأتي للإنسان من الخارج، من الظروف والمصادفات.
وشخصية (المومس) تعيش دائما في الوحل، والوحل الذي تعيش فيه ليس راجعا بالدرجة الأولى إلى أنها تفرط في شرفها بشكل لا يترضيه المجتمع، بل يعود أكثر من ذلك إلى أنها تمنح جسدها لأي إنسان، وإنها تعطي الجسد لشخص لا تعطيه قلبها، وإذا منحت المرأة جسدها بدون قلبها فهذه هى محنتها الكبرى، وهذا هو الوحل الذي يشقيها، ويلطخ وجودها هكذا تسقط المومس هذا السقوط الرهيب، فإذا نظرنا إليها من الخارج وجدناها غارقة في الشر، ولكننا إذا نظرنا إليها بعمق وبصدق وجدنا الخير كامنا في أعماقها لأن الخير – كما قلت لك يا رجاء – هو جوهر الإنسان، لذلك أجد هذا الدور قريبا إلى قلبي، ألست أساهم فى إقناع الناس بهذه القضية العادلة؟!
ودور (المومس الفاضلة) فيه أيضا شاعرية وشفافية، فالمومس الفاضلة تفعل الخير بدون غاية لأنها عادة تعيش في وسط اجتماعي يتهمها ولا ينتظر منها أي شيئ جميل، لذلك فهي تسعى إلى المواقف الجميلة بدافع صادق لا تبتغي رضاء أحد على الإطلاق، وهذا هو أصدق وأعظم نوع من الإيمان بالخير في أعماق الإنسان.
الدور الأول الذي قمت بتمثيله لشخصية (المومس الفاضلة) كان دوري في مسرحية (سارتر) الشهيرة، أن (ليزي) فى هذه المسرحية ترفض أن تشهد ضد الزنجي الذي أرادوا أن يلفقوا له تهمة القتل، قالت (ليزي) للزنجي: (إذا أرعموني على الشهادة ضدك، فأعدك بأني سأقول الحقيقة)، وهذا هو المظهر المباشر لإنسانيتها العميقة، أنها تريد أن تحمي إنسانا مظلوما، أن هناك خيطا رفيعا يربط بينها فالذين ظلموه هم الذين ظلموها، والذين حولوه إلى كائن مطرود يعيش في خوف وذعر دائمين هم أنفسهم الذين جعلوها تعيش على الهامش، هامش الحياة العميقة، والعاطفة الإنسانية الصادقة.
فالمشكلة ليست مشكلة (زنجي) يضطهده البيض، وليست مشكلة (مومس) يحتقرها الشرفاء ولكنها مشكلة مظلوم وظالم، مشكلة حياة فاسدة تسئ إلى الإنسان، وتجني عليه، و(ليزي) تعيش مأساتها الخاصة قبل أن تلتقي بالزنجي، أنها تبحث عن الحب والحنان، لقد بدأت تكره الناس الذين يمرون بحياتها مرورا عابرا سريعا، الناس الذين يستخدمونها كجسد فقط، إنها تحن إلى العاطفة، تحن إلى ممارسة أعمق مشاعرها كإنسانة حقيقية، إنها تريد بيتا جميلا فيه لوحات فنية تستمتع بها كما تستمتع السيدة في قلب أسرتها وبيتها الخاص.
و(ليزي) تتمنى أن يعاملها الشاب (فراد) معاملة إنسانية أن يقول لها أحبك، وأن يقولها بصدق، وعندما يحاول (فراد) أن يقدم لها أجرها عن اللحظات التى قضاها معها فإنها تصرخ في وجهه: (لست أريد فلوسك) كانت تطلب قبلة، تطلب أن يضمها بحرارة وأن يستمع إليها وهى تناجيه كما تناجي حبيبها، كانت تقول له في صوت حنون رقيق : (قبلني يا حبيبي، قبلني يا جميلي، كافئني بقبلة، ألا تريد أن تقبلني؟).
ولكنها يعاملها كمومس فقط، إنها فى نظر هذا الأمريكي الأبيض ليست سوى إنسانة ساقطة، إمرأة يستمتع بها الرجل مقابل بضعة دولارات لا أكثر ولا أقل وعندما ترفض (ليزي) مال (فراد) يحس بدهشة كبيرة، ولا يجد أمامه إلا أن يعتبرها إمرأة ساقطة متكبرة، وهكذا تظهر (ليزي) أمامنا إنسانة أكثر منها مجرد مومس تعيش في الوحل، أنها تكشف فى نفسها عن ذلك الخير العميق في طبيعة الإنسان، وذلك الحنين الحقيقي الصادق إلى الحب والشرف والحياة بلا ظلم ولا كراهية بعيدا عن وحل الحياة.!
تقول سميحة أيوب : لذلك قمت بتمثيل هذا الدور لأني أعتبر (ليزي) شهيدة وليست ساقطة، إنها تذكرني بمريم المجدلية في القصة الدينية المعروفة، إنها طاهرة وبريئة، وقعت في الإثم والخطيئة ثم كشفت عن حقيقتها عندما ظهر في حياتها نور ساطع هو نور المسيح، نور الإنسان، بل نور الله.