السيد حواس .. شاعر الربابة الذي أنشد سير الأقدمين والغابرين
كتب : رضا العربي
قال الراوي .. منذ سنوات بعيدة لا أتذكر عددها تفتح وعيي ووجداني علي صوت جميل يحمل بين نبراته صور البطولة والعشق والسحر والجمال والملاحم .. صوت أخذني إلى مناطق بعيدة عبر بوابة الزمن، حيث التقيت بالأميرة ذات الهمة والفارس سيف بن ذي يزن وعنترة، لكن مع أبو زيد عشقت الأجاويد من أهل تونس وعشقت إنشاد أبوزيد على الربابة عند خداعه وتخفيه في تغريبة بني هلال، فهو شاعر من الشعار وحبر من الأحبار.. يجيد فنون التنكر والحيل، وعلوم الرمل والديك والفلك.
كل هذا تلقيته عبر صوت شجي جميل هو صوت شاعر الربابة (السيد حواس) الذي أنشد سير الأقدمين والغابرين، لكن للأسف لم يجد من يورخ له ويروي لنا سيرته الذاتية كأحد أهم منشدي عصره من شعراء وجه بحري ممن تميزوا بإنشاد قصص بني هلال وغيرها من القصص والملاحم العربية .. فيا تري من هو سيد حواس؟، وكيف أتي إلينا ووصل صوته عبر أثير الاذاعة المصرية
ولد الفنان الشعبى السيد حواس في شارع السد البرانى بالقرب من مسجد السيدة زينب فى 8 يونيو 1912 م، ولكى نتحدث عن السيد حواس وسيرته الذاتية لابد وأن نتحدث بالضرورة عن والده سيد أحمد حواس، فهو الذى عاش المغامرة، وهو من رسم الطريق لولده السيد حواس الذى أصبح من أهم وأشهر رموز الفن الشعبى فى الوجه البحرى، وفى جميع محافظات مصر.
كان الوالد – سيد أحمد حواس – من أبناء قرية (سند بسط) مركز زفتى بمحافظة الغربية والواقعة على ضفة النيل الغربية فرع دمياط ينتمى لأسرة بسيطة تعمل بالزراعة، وكعادة أهل الريف دخل الكتاب صغيراً تعلم فيه القراءة والكتابة لبعض الوقت، ولأن الصبى الصغير لم يكن يريد أن يكون فلاحاً هرب إلى القاهرة وحده وظل لأكثر من عشر سنوات مجهول المصير، ولا يعرف عنه أحد من أهله شيئاً لدرجة أنهم فقدوا الأمل فى عودته.
عاش الصبى فى القاهرة يرتاد سهرات الشعراء (والمقصود بالشعراء هنا المنشدون)، وبدأ يبحث عن كتب السيرة ومارس إنشادها فى المقاهى والموالد، فى الوقت الذى كان يعمل فيه نهاراً بمكتب محام، وفى إحدى حفلاته التى كان يحييها فى مولد السيدة زينب تعرف عليه بعض أهل بلده الذين ذهبوا لزيارة السيدة زينب وأخبروا والده (على حواس) فانطلق إلى القاهرة وعاد به إلى قريته وزوجوه من ابنة عمه زينب ابراهيم حواس.
لم يوضح الراوى أو لم يصل إلى علمه ما إذا كان هناك اعتراض من الأسرة على عمله كشاعر أم لا؟، لكن ما يرويه من أحداث بعد ذلك يدل على عدم وجود خلاف بينه وبين أهله بوجه عام، وعاد سيد أحمد حواس إلى القاهرة ثانية مصطحباً زوجته التى وضعت شاعرنا فى ذلك الحى الشعبى.
نشأ السيد حواس فى هذا الجو المشبع بأنغام الإنشاد الشعبى والدينى، وما إن اقترب من التاسعة حتى بدأ والده يكلفه بحفظ صفحات من السير لإنشادها فى المقهى الذى يعمل به ليلاً، وقد حرص الوالد على تعليمه العزف على الكمنجة على يد أشهر عازف فى ذلك الوقت وهو الاستاذ (سامى الشوا)، وهكذا بدأ السيد حواس منذ صباه يكسب قوته بعمله وجهده، بل ويساعد والده فى تربية إخوته.
وبدأ فى حوالى السادسة عشر من عمره يخرج لإحياء الموالد مع والده ، واستمر عمل السيد ووالده فى الموالد المختلفة، حتى لعبت الصدفة دورها فى تحويل مسار (السيد حواس) بشكل لا يخلو من الغرابة والطرافة، حيث دعى لإحياء عرس فى قرية طنان بالقليوبية، وكان من عادة أهل القرية إقامة العرس بحد أدنى ثلاث ليالى، وتم الاتفاق مع السيد حواس على إحياء الليلتين الأولتين لأن الثالثة لابد وأن يحييها صييت شهير، وقام السيد حواس بإحياء الليلتين بالفعل ثم طلب من أهل العرس أن يظل معهم الليلة الثالثة ليسمع هذا الصييت الشهير فرحبوا به.
وجاءت اللحظة الموعودة ووقف الصييت الشهير على المسرح ليبدأ وصلته الأولى بينما أخفى السيد حواس طربوشه وكمنجاته فى بيت العرس وجلس فى الصف الأخير ينتظر شأنه شأن بقية الناس، ولاحظ أن جمهور اليوم يختلف عن جمهور الأمس تماما، فاليوم أغلب الحضور من العمد والأعيان، يحاول الصييت الشهير أن يخرج صوته دون جدوى، جاءوه بسمن مسيح ويانسون وما من جدوى.
ظل الرجل يحاول لما يقرب من نصف الساعة فلم يفلح، وهنا أسقط فى يده واعتذر لأهل العرس وأخرج لهم العربون ليرده إليهم إلا أنهم رفضوا وتركوه له كأجر للجوقة، وانصرف الرجل وسادت حالة من الهرج والمرج وفجأة تنبه أحدهم فصاح متسائلاً عن الرجل الذى كان يغنى بالأمس، ووقف السيد حواس معلناً عن وجوده، فطلبوا منه أن يصعد على المسرح فأسرع باحضار طربوشه وكمنجاته وصعد على المسرح ليفتح لنفسه آفاقاً جديدة لم تكن لتخطر بباله إذ يقول لابنه سيد أحمد (المصدر) أنه ربط فى تلك الليلة خمسة عشر عرساً بخمسة وأربعين ليلة.
كانت هذه الليلة هى أول ليلة يحييها السيد حواس منفرداً، وكانت من جانب آخر ليلة الانطلاق بالنسبة له فقد انهالت عليه الدعوات لإحياء ليالى الموالد والأفراح فى قرى ومدن الوجه البحرى شماله وجنوبه، شرقه وغربه، وفى إحدى جولاته فى محافظة دمياط وبالتحديد فى قرية (كفر سعد)، وبينما كان يحيى ليلة هناك لمح فتاة كانت تسمعه ضمن غيرها من فتيات القرية، ويبدو أنها لاقت هوى فى نفسه فتقدم لخطبتها وتزوجها بالفعل وهى والدة الراوى (سيد أحمد السيد حواس).
عندما تعرفت الإذاعة على السيد حواس أسرع إليه المسئولون بها وسجل لها تراثاً ضخماً من إنشاده، ومن ضمن هذا التراث السيرة الهلالية كاملة – كما يقول الراوى – الذى اختنق بالبكاء وهو يتحسر على إهمال الإذاعة لتراث والده وسعيه للحصول على نسخ من هذا التراث دون جدوى.
هذا وقد اشتهر السيد حواس بإنشاده قصة (عزيزة ويونس) أكثر من غيرها من قصص السيرة الهلالية، ومن الملاحظ أن السيد حواس كان يفضل السير الشعبية كالهلالية وسيف بن ذى يزن والأحداث التاريخية مثل قصة صلاح الدين الأيوبى ومعركة عين جالوت، وأنشد من السيرة النبوية أكثر من خمسين أغنية، وكان يميل إلى الأداء التمثيلى وتقمص الشخصيات وقد مكنته قدرته غير العادية على الارتجال من التعليق على الأحداث الجارية التى تمر بها البلاد.
كان يتكلم فى (الاقتصاد ، فى علم الاجتماع ، فى الدولة وشئونها وما يدور فيها) – على حد قول الراوى – ، فضلاً عن التجاوب مع أى حدث آنىّ أثناء إنشاده كأن تحدث معركة مثلاً بين الجمهور، أو تطول السهرة أكثر من اللازم، إلى جانب المواويل التى كان يكتبها له شاعرين هما (عبد الفتاح شلبى وعبد الفتاح الشرقاوى).
عاد السيد حواس إلى قريته (سند بسط) ليعيش فيها بين أهله وعائلته بعد أن ذاع صيته واشتهر اسمه واستمرت جولاته فى المناسبات المختلفة، وكان دقيقاً فى تسجيله لأحداث لياليه حيث ابتكر معايير خاصة به لتقييم هذه الليالى مثل (تمت بخير – تمت على خير وجه – وكانت ليلة عظيمة – والحمد لله) .. وهكذا استمرت رحلة عطائه حتى وافته المنية فى عام 1980 م.