(لعبة الحبار) .. هوس كبير وصدمات أكبر
بقلم : محمود حسونة
ليس من السهل أن تشغل العالم بعمل فني، والدولة الوحيدة التي فرضت فنونها على العالم كما فرضت عملتها وهيمنتها وسطوتها الاقتصادية والعسكرية هي الولايات المتحدة، وعجزت أكثر الدول إبداعًا في أن تشغل العالم بعمل فني سواء سينمائي أو تليفزيوني أو غنائي، أو تهدد الاستحواذ الأمريكي على السلعة الفنية عالمياً. الدولة الوحيدة التي نجحت في ذلك من دون سبق إصرار وترصد هي كوريا الجنوبية التي لم تكتف بمنافسة أمريكا عالمياً، ولكنها هددت إنتاجها داخل الولايات المتحدة وسحبت البساط من تحت قدمي الفيلم الهوليوودي في الأوسكار، وكسبت انحياز المشاهد الأمريكي لها رغم أنف المتحكمين في صناعة الترفيه عالمياً.
في العام 2012 تربعت أغنية مغني الراب الكوري الجنوبي ساي (جانجنام استايل) على عرش سوق الغناء عالميا وحققت خلال أشهر معدودة مليارين ونصف المليار مشاهدة على يوتيوب، وأصبحت الأغنية المفضلة لدى الشباب على كوكب الأرض، وظلت متصدرة أرقام الإيرادات والمشاهدات حتى جاءت الأغنية الأسبانية (ديسباسيتو) لتزيحها عن العرش.
وفي العام 2019 فرض الفيلم الكوري الجنوبي (طفيلي) أو (باراسيت) نفسه عالمياً، ووجه ضربة قاسية للسينما الأمريكية في عقر دارها عندما فاز بأربع جوائز أوسكار بينها الجائزة الكبرى كأفضل فيلم، وهو الإنجاز الذي لم يحققه فيلم غير أمريكي على مدار سنوات الأوسكار التي بلغت 94 عاماً، ناهيك عن حصده للجوائز الكبرى من المهرجانات السينمائية العالمية، بجانب تحقيقه أعلى الإيرادات بعد أن فرض نفسه على معظم دور السينما حول العالم، وهو الأمر الذي يحتكره عادة الفيلم الأمريكي ولا ينافسه فيه أي منتج سينمائي آخر.
الشهر الماضي، كنا على موعد مع المسلسل الكوري الجنوبي (سكويد جايم) أو (لعبة الحبار) والذي أصبح هوس العالم، بعد أن حقق أرقام مشاهدة غير مسبوقة على منصة نتفليكس المنتجة له، والتي أكدت أن عائداته ستزيد عن 900 مليون دولار رغم أن تكلفة إنتاجه بلغت 21.4 مليون دولار، ناهيك عن أنه كان السبب في زيادة عدد مشتركيها بمقدار أربعة ملايين و380 ألف مشترك، ليصل عدد مشتركي المنصة العالمية إلى 213.6 مليون في أنحاء العالم .
هكذا حقق (سكويد جايم) أرباحاً لنتفليكس لم يحققها أي من الأعمال التي أنتجتها وجلب لها مشتركين بعدد يعجز أي عمل عنه، وحقق للدراما الكورية مساحة انتشار عالمي غير مسبوقة وقهر الدراما الأمريكية في عقر دارها بعد أن تفوق في نسب المشاهدة على مسلسلاتها هناك، وحقق لأبطاله شهرة ستفتح لهم أبواب العالمية.. كل ذلك حققه مسلسل شديد السواد، دموي، قاس في طرحه، صادم لمشاهديه، ولكنه في المقابل فاضح للرأسمالية التي لا تتورع عن قتل المئات في سبيل أن تحقق التسلية لأقطابها، ويؤكد أن حياة الفقراء عند الأغنياء ليست سوى لعبة يرفهون بها عن أنفسهم، ويكسرون بها الملل، وأن النفس البشرية هي التي تقود صاحبها إلى الهلاك، وأن الطمع يعمي الإنسان إلى حد اقتياده إلى قدر الموت المحتوم، وأن الاستدانة طريق الإنسان إلى الهاوية؛ ولعل التاريخ أخبرنا أن الاستدانة تسببت في تحكم دول بمصائر دول، وكذلك المسلسل يخبرنا أن الدائنين يتحكمون في حياة المدينين ويحولونهم إلى دمى يتقاذفونها كيفما وأنى يشاؤون، ويرون أن حياتهم لها بلا قيمة، وأن الأثرياء لا يتركون الفقراء لأقدارهم المذلة ولكنهم يختارون الطريقة التي يقتلونهم بها ويصلون إلى الأبشع والأبشع للقضاء على حياتهم بعد إذلالهم رعباً وهلعاً، وهم يحتسون الخمر ويتبادلون المتع الحسية الرخيصة.
النجاح لا يأتي من فراغ، والجدل غالباً ما تثيره الأعمال الناجحة، سواء اتفقنا مع مضمونها وأسلوب صناعها أو اختلفنا، وحالة الجدل العالمية حول (لعبة الحبار) مستحقة، فمن حق شركات الألعاب أن تستوحي منه جديداً ومن حق المستثمرين أن يستغلوا نجاحه لمضاعفة ثرواتهم، ومن حق الدول أن تحذر من مشاهدته ومن حق رجال الدين أن يحرموا مشاهدته، ومن حق المؤسسات التربوية أن تحذر من انعكاسات مشاهدته على الصغار والنشء.. وفي المقابل فإننا في زمن السموات المفتوحة، ولن يستطيع أحد منع أحد من المشاهدة، ومهما صدر من تحذيرات فإن هذا لن يغير من حقيقة أن الكبار أصبحوا يعرفون من أبنائهم أهم الأحداث العالمية، وكل ما هو حديث الناس على الكوكب، باعتبارهم الأكثر مهارة في التعامل مع وسائل التواصل التي لا تترك شاردة ولا واردة إلا وتتناولها بأساليب مختلفة.
قد تكون من مميزات هذا المسلسل أنه قدم لمشاهديه الصدمة الأكبر في فضحه لتوحش الرأسمالية وكشفه مدى ضعف النفس البشرية أمام المال، وتجسيده حالة الذل التي يعيشها المحتاج، وتأكيده أن الحياة لعبة، إما أن نجيدها لنقضي فيها أيامنا بسلام وإما أن نفشل فيها فتأخذنا إلى طريق الهلاك والموت بأبشع الوسائل.
كل من قرأ عن المسلسل خاف أن يشاهده، ولكن الجدل الكبير حوله والفضول دفعا الكثيرين للمشاهدة وهم مسلوبي الإرادة مثلما اختار منظمو اللعبة ضحاياهم الـ 456 وهم مسلوبي الإرادة، وعندما ثار اللاعبون بعد اللعبة الأولى ومقتل نصفهم فيها، تركوا لهم حرية الاختيار ورضخوا لإرادتهم وأطلقوا سراحهم، ولكن قسوة الحياة ويقينهم بأنهم فيها أحياء أموات، دفعهم للعودة مرة أخرى إلى لعبة الموت، وهم يدركون أن الفائز بينهم سيكون واحداً فقط.
أبشع ما في المسلسل دمويته المبالغ فيها، ولك أن تتخيل مسلسلاً يتسابق فيه 456 شخص ليموت منهم 454 وينجو الفائز الوحيد بالإضافة إلى المخادع الأكبر، الذي اندس وسطهم وشاركهم اللعب ليصل إلى أقصى درجات المتعة وهم يتساقطون حوله، وهو العجوز الذي لم يتم الكشف عن حقيقته سوى في الحلقة التاسعة والأخيرة من المسلسل. بجانب هؤلاء الضحايا تم قتل عدد من الحراس أيضاً في مباراة الجريمة الدرامية التي شغلت العالم.
كلنا لاعبون في الحياة، والتي ليست سوى مسابقة أو مجموعة من المسابقات أو الألعاب، يتربع فيها الفائز على العرش، ويسقط فيها الخاسر ليعيش في القعر، وقد يكون الموت له أرحم من قسوة الحياة، وهذه حقيقة (نسبية) يعلنها المسلسل سواء بفجاجة أو بقسوة أو بدموية، إلا أنها الحقيقة التي يؤمن بها صناعه ويؤمن بها كثيرون غيرهم، وتناولها فلاسفة وعلماء منذ القدم، لكن هذا لن ينفي أيضاً عدم تقبل الكثيرين لها.
mahmoudhassouna2020@gmail.com