رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

ذكرى العبقري (ملحم بركات) الذي ظلمه جهل الإعلام المصري !

المسرح كان ينسيه همومه
مع صديقه المطرب الرائع عصام راجي الذي عرفه بالأخوين رحباني
مع زوجته قبل الأخيرة المطربة مي حريري

* وليد توفيق يفجر مفاجأة (ملحم بركات) غنى أغنية مصرية بصوته

* (ساعي البريد) كان سببا في غنائي لملحم بركات أغنية (أبوكي مين يا صبية)

* أعترف أنني أخطأت كثيرا عندما ابتعدت عن هذا العبقري وتوقفت عن التعاون معه

كتب : أحمد السماحي

(حينما تختلط الألوان وتصبح جميع الأشياء مثل بعضها، الحقيقة مثل الزيف، والكذب مثل الصدق، يعتريني احساس بالهرب إلى مكان واسع به مرعى وغنم وبيدي عود وأغني، لكن رؤيتي العصرية للإنسان والعصر أقوى من الهروب من الواقع، أن الظروف تخلق من الفنان مناضلا يوميا على كل المستويات) هذه بعض الكلمات التى قالها لي الموسيقار اللبناني العبقري (ملحم بركات) فى حواري الوحيد معه عندما جاء إلى مصر فى أحد المهرجانات السياحية التى أقيمت منذ أكثر من 20 عاما.

فى هذه الفترة كان البعض يتشدق من زملائنا بأنه لا يحب مصر، نظرا لأنه كان مصرا على الغناء فقط باللهجة اللبنانية، لكني أشهد – وهذا موجود فى الحوار الذي نشر فى مجلة الأهرام العربي – أنه كان عاشقا من عشاق أم الدنيا، ويعرف ويقدر كل أساطين الغناء فيها، لكن كان فى حلقه غصه من الإعلام وليس من مصر كما صرح لي بها عندما لاحظ حبي وعشقي لأغنياته ومعرفتي بتاريخه، حيث كان يعتقد أن الإعلام المصري سيعطيه حقه، خاصة أن هذا يحدث مع مطربين ومطربات من بلده ومن بعض البلدان الأخرى أقل منه كثيرا جدا، فقال لي: (رغم أنك فى بداية مشوارك الصحفي لكنك متابع رائع لما قدمته، وكنت أتمنى أن أرى الإعلام المصري كله هكذا، لكن أن يأتي لي صحفي أو مذيع ويجهل تماما من هو ملحم بركات؟ فهذا أفضل شيئ له أن يجلس في بيته ويبتعد عن هذه المهنة التى تنير العقول والقلوب، لأن كثرة هؤلاء الجهلة تُظلم الإعلام ولا تنيره!.

عاصي الرحباني وملحم بركات وإيلي شويري 1966
قدم للمسرح العديد من المسرحيات الغنائية مع صباح وسلوى القطريب
مشهد من مسرحية الأميرة زمردة

كان (ملحم بركات) الذي نحيي اليوم ذكراه الخامسة عاشقا لبلده لبنان وكان يرى الوطن فى كل شيئ، يراه فى الإنسان، الطبيعة، أو الأشياء البسيطة التى حوله، أو في شجر الأرز، أو في أكلاته التى يحبها كالكبة على أنواعها والمجدّرة والتبولة، أنه كان مرتبطا بوطنه ذائبا فيه، وكل ذلك ينبع من انتمائه إلى الشعب والأرض، وهو لا ينتمي إلى هذه الملايين، وإلى هذه الأرض ارتباطا أعمى، إنه ارتباط المتألم المنزعج، فهو ككل فنان عظيم يشعر بوطنه، لم يكن يدهشه أن العالم فظيع، أوأن الواقع مرير، ولكن ما كان يدهشه أن الناس لا تعمل للتغيير ولكن تعمل للبقاء، لهذا كان يصرخ بألحانه وأحاديثه فى وسائل الإعلام المختلفة للهجوم على المسئولين الذين تسببوا فى تدهور الوضع اللبناني وأوصلوه إلى ما وصل إليه.

رغم قلة أغنياته التى قدمها والتى لا تتجاوز الـ 150 أغنية لكن كل أغنية من هذه الأغنيات باقية وستظل لأنها كانت مشغولة بالصدق، ومطرزة بالأصالة، وملحنه بالعذوبة،  فمن منا ينسى (بلغي كل مواعيدي، يا حبيبي دوبنى الهوى، بيقولوا قيس، يا أهل الحبايب، لا تهزي كبوش التوتي، حبيتك وبحبك، شباك حبيبي، قولك صحيح، حرجت ليلى، علواه، روحي يا روحي، بيروت، على بابي واقف قمرين، ولا مرة، جيت في وقتك، إرجعيلي، كيف، الفرق ما بينك وبيني، حماما بيضا، تعا ننسى، يا حبي اللي غاب، يا حبيبي حبك حيرني، مافي ورد) وغيرها، مع العلم أن كل واحدة من هذه الأغنيات التى ذكرناها كانت مرحلة ورددها العالم العربي كله، وأعاد غنائها كبار المطربين.

ولم يقتصر عطاء (ملحم بركات) على الغناء والتلحين لنفسه، فلحن لكثير من المطربين الذين كانوا يمتلكون الشدو العذب والصوت الجميل المليئ بالطرب، كان صعب جدا أن يطرق بابه أي مطرب ويلحن له، خاصة أنه لحن للكبار والأصوات الذهبية مثل (صباح، وديع الصافي، سميرة توفيق، وليد توفيق، نجوى كرم، ملحم زين، باسكال صقر، نور مهنا) وغيرهم.

ندمت كثيرا على عدم استمرار التعاون معه
غريب يازمان .. أغنية جمعت بينهما
وليد توفيق في سيلفي مع ملحم بركات
وليد توفيق وراغب علامه وعاصي الحلاني ومعين شريف يقرأون الفاتحة على روح أبومجد

النجم العربي الكبير الوفي (وليد توفيق) يحكي لـ (شهريار النجوم) ذكرياته مع هذا العملاق وفجر أكثر من مفاجأة، حيث قال: رحم الله صديقي (ملحم بركات) الصوت الجميل العذب، والملحن صاحب الجمل اللحنية الرشيقة، تعود معرفتي به إلى بداياتي الفنية، ففي هذا الوقت كنت مبهورا ومتعلقا جدا ومازلت بألحان الموسيقار العبقري (بليغ حمدي) الذي أعدت له في برنامج (ستوديو الفن) غناء واحدا من أشهر ألحانه وهو (عيون بهية)، كما أعدت له في هذا البرنامج غناء كثير من أغنياته.

 وأثناء ذلك حل (ملحم بركات) ضيفا على (ستوديو الفن) وغنى أغنية باللهجة المصرية من ألحانه، وكلمات (شفيق المغربي) بعنوان (ما حسيبك إحنا ماحسيبك، لو مهما هيجرى ما هسيبك)، عجبتني الأغنية جدا، وسألت عن ملحنها فقالوا لي : أنه (ملحم بركات) صاحب (الديو) الشهير في هذا الوقت (بلغي كل مواعيدي) مع المطربة (جورجيت صايغ).

مرت الأيام وبعد نجاحي وتخرجي من (ستوديو الفن) ذهبت في أحد الأيام بصحبة الأساتذة (محمد سلمان، وبليغ حمدي، ومحمد علي الصباح) لمشاهدة مسرحية (حلوى كتير) للشحرورة (صباح)، وغنت صباح كثير من الأغنيات فى المسرحية، لكن الجمهور كان يطلب منها أن تعيد ثلاث أغنيات هى (المجوز الله يزيده، ليش لهلق سهرانين، كحيل العين)، فالتفت إلى (محمد سلمان) وسألته من ملحن هذه الأغنيات فقال لي : (ملحم بركات) ووجدت فى الأغنيات الثلاث جملة لحنية مميزة فيها (النفس المصري) وفيها (النفس والقدود الحلبية) وفيها أيضا (روح) ملحم بركات.

ويضيف أبوالوليد : فى هذه الفترة كان يتم تحضير فيلم لي بعنوان (ساعي البريد) مع (صباح الجزائري، ومحمود جبر)، فطلبت من منتج الفيلم (طنوس فرنجية) أن يلحن لي (ملحم بركات) أغنية، بعد يومين كلمني (فرنجية) وقال لي: (هنروح بكره نشوف ملحم بركات فى الحازمية)، ومن المرة الأولى عشقت روحه، وعشقت فنه، ويومها قال لي: (أنا من الناس الذين يراهنون على نجاحك بإذن الله)، وفى هذه الجلسة اتفقنا على أن يلحن لي، لكن حدثت حرب لبنان وهربنا إلى الشام.

وبعد أن استقررنا هناك ذهبت إليه فى أحد الفنادق الشهيرة التى كان يقيم فيها فى الشام، ووجدت عنده بالمصادفة المطربة المغربية الكبيرة (نعيمة سميح) التى كانت موجودة فى الشام فى هذه الفترة ومعجبة بألحانه وحابه تتعرف عليه، ويومها أسمعني مطلع أغنية (أبوكي مين يا صبية) فأعجبني جدا، وسمعني الكوبليه الذي أقول فيه (سارح معاك سارح م إمبارح أنا والله سارح) فقلت له: عايز الكوبليه ده يكون لحن ثاني)، فضحك معي وقال مازحا: (بس التكلفة هتكون عالية)، فقلت له: (لا تحمل هم فيه منتج هيدفع).

ويواصل مطربنا العربي الكبير ذكرياته مع أبو مجد فيقول: كان من المقرر أن يكون فى فيلم (ساعي البريد) أغنية ثانية من ألحان (ملحم بركات) بعنوان (غريب يا زمن)، لكن نظرا لطولها رفض المنتج والمخرج وضعها في الفيلم الذي عرض وحققت أغنية (أبوكي مين يا صبية) نجاحا كاسحا، وكانت حديث الساحة الغنائية لدرجة أنني عندما قابلت فيما بعد الشيخ (سيد مكاوي) سألني : من ملحن (أبوكي مين)؟! فقلت له : (ملحم بركات)، فأثني عليه وقال : (الواد ده امتداد لينا، أي للمدرسة الشرقية).

بعد نجاح الأغنية توطدت علاقتي بـ (ملحم) وعشنا فترة مع بعض في سوريا، وفى هذه الفترة رشحني عازف الجيتار الشهير (عمر خورشيد) لأحد أصحاب الملاهي الليلية فى سوريا، الذي لم يكن يعرفني وقال له: (اسمع كلامي شغل وليد توفيق، هذا الشاب سيشعل الملهى ويملئه بالجمهور)، وهذا ما حدث والحمد الله، وكان (ملحم) يأتي ليسمعني، وعندما كنا نطلب منه الصعود على خشبة المسرح كان يرفض رفضا تاما، حيث كان يخشى الغناء جدا على خشبة المسرح.

بعد ذلك تعاونت معه في أفلام أخرى فحصلت منه على أكثر من لحن مثل (مغرم بعيونك أنا مغرم، ويانسيمة، وبعدك على البال يا شطوطي البحرية)، بعد هذه الألحان حصل ابتعاد بينا حيث بقى هو في الشام وتشجع وغنى على المسرح، ونزلت أنا إلى مصر وبدأت مشواري في السينما المصرية من خلال فيلم (من يطفئ النار) وتعاوني مع عظماء الكلمة واللحن، وبعادت بيني وبين (ملحم) الأيام والشهور والسنين.

وبعد مرور سنوات ندمت وسألت نفسي كيف تركت هذا العبقري ولم أتعاون معه كثيرا، وأعترف من خلال (شهريار النجوم) أن أحد أخطأء حياتي عدم تعاوني مع (ملحم بركات)، خاصة أن كل ألحانه معي نجحت بقوة ومازالت مطلوبة حتى الآن من الجمهور.

وقبل شهور من وفاته وفى زيارة له ذكرني بأغنية (غريب يا زمن) التى كان من المقرر أن أغنيها في فيلم (ساعي البريد) وكنت محتفظا بها منذ منتصف السبعينات فقمت بطرحها قبل وفاته بشهور قليلة.

رحم الله ملحم بركات الذي غادرنا بجسده لكن فنه باقي إلى الأبد.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.