عواصف (الجونة)
بقلم : محمود حسونة
بعض مهرجاناتنا تنعقد وتنفض من دون أن يحس بها أحد باستثناء منظميها والمشاركين فيها والمدعوين لحضورها، والبعض يثير جدلاً وصخباً طوال أيام انعقاده ويتحول إلى حديث الناس ليس على السوشيال ميديا فقط ولكن أيضاً على المصاطب وفي الجلسات الخاصة، وقد شهدت مصر خلال الأيام الماضية مهرجانين للسينما، كان الأول مهرجان الإسكندرية، ورغم أنه مهرجان يتخذ الطابع الرسمي بالدعم الذي يلقاه من وزارة الثقافة ومحافظة الإسكندرية حتى لو كانت جمعية كتاب ونقاد السينما هي التي تنظمه، إلا أنه مر وكأن شيئاً لم يكن، أخبار صحافية باهتة وقليل جداً من البوستات على مواقع التواصل الاجتماعي لم يتفاعل معها سوى القليل القليل؛ أما المهرجان الثاني فهو مهرجان الجونة السينمائي، والذي قسّم المجتمع على مواقع التواصل الاجتماعي، وقد يكون القابع في أبعد نجع أو قرية في مصر تفاعل معه، ومصمص شفتيه على المشاهد التي وردته إجبارياً من على السجادة الحمراء للمهرجان.
الإسكندرية مر مرور الشخص الفقير في الحي والذي قد لا يراه أحد وهو يعبر الشارع ذهاباً وإياباً، أما الجونة فمر مرور الرجل الفاحش الثراء، الذي يتحرك وحوله حاشية من المستفيدين وعدد من الحراس المفتولي العضلات وبعض الكاميرات لزوم لفت الأنظار، يمر بجلبة ويثير همهمات وجدل غير المستفيدين وقهقهات الأتباع وصخب المريدين، وكأن مصر كلها على موعد مع الجدل الذي يتجدد كل عام خلال انعقاده. كثيرون ينتقدون ويسبون، وقليلون يشيدون ويدافعون.
بدأ الجدل هذا العام مبكراً، إثر الحريق الذي نشب في قاعة الاستقبال قبل الافتتاح بيوم واحد، والذي اعتبره الكارهون للسينما والرافضين للمهرجان على أنه غضب من الله حل على أصحاب المهرجان ومموليه ومنظميه وسادته، وعلى الفنانات والفنانين الذين سيحضرونه، وبدلاً من أن يتعامل آل ساويرس مع الحريق على أنه نقمة تعاملوا معه على أنه نعمة، وبدلاً من أن يؤجلوا المهرجان يوماً أو بعض يوم، قرروا أن يثبتوا قدرات شركاتهم في سرعة الانجاز وقدراتهم الإدارية في مواجهة التحديات والاستفادة من الكوارث بدلاً من التباكي عليها، وفعلاً نجحت شركات ساًويرس خلال يوم واحد في إعادة القاعة المحترقة إلى أفضل مما كانت عليه، ليكسبوا التحدي ويستغلوا الحريق للتسويق لشركاتهم والترويج لقدراتهم الإدارية.
وفي الافتتاح، وبعده، هبت عاصفة قوية ضد المهرجان على مواقع التواصل الاجتماعي، بعد أن تحولت الريد كاربت من ممشى للنجوم جماعات وأفراد أمام عدسات المصورين إلى بوديوم عرض أزياء، عاصفة سببها الصدمة التي تلقاها قطاع عريض من الجمهور في نجمات، وفساتين تجاوزت كل معايير الجمال والشياكة والذوق، واستبدلتها بعضهن بما يعتقدن أنه يثير الشهوات ويحرك الغرائز، وهو اعتقاد خاطئ لأن القبح لا يثير سوى الاشمئزاز والغثيان، والفساتين التي لا تشبه سوى ورقة التوت جاءت للأسف سيئة الشكل والمضمون.
بعض النجمات ارتدين فساتين تمتع العين وتنال تقدير قطاعات من الجمهور ولا تثير الشهوات، وقليل منهن ودعن الحياء بغير رجعة وارتدين ما يزعج العين ويستفز الخلق، والغريب أنهن يعترفن بأنهم خرجن من بيوتهن متوقعات الانتقادات “ولكن ليس بهذا القدر”، ولا أدري كيف تخرج فنانة من منزلها وهي مرتدية ما يزعج حتى ولو قليلاً، وكأنهن لا يدركن أن ما يزعج القليل سيزعج الكثير، ولعل في اعترافهن ما يؤكد أنهن يعتمدن اثارة الجدل على مواقع التواصل، أملاً في أن يصبحن في دائرة الضوء، متوهمات أن ذلك سيرفع من رصيدهن الجماهيري.
والغريب أن هذه الفنانة أو تلك، لم تمر فقط على السجادة الحمراء، ولكنها وقفت أمام عدسات المصورين ليتم تصويرها من مختلف الجهات مفتعلة حركات إثارة وصل إلى حد الرقص الخليع، ليحول المهرجان التنافس بين الفنانات إلى تنافس على الريد كاربت بدلاً من أن يكون تنافساً أمام الكاميرات وعلى الشاشات في الأداء والتمثيل والاختيار والحلم بجائزة وتقدير .
لا نشكك أن مهرجان الجونة عرضت به أفلام مهمة، وأقيمت على هامشه ندوات وفعاليات سينمائية مختلفة، ولكن كل ما يتعلق بفن السينما قد توارى خجلاً أمام مهرجان الفساتين والأزياء الخالية من الذوق والتي ليست لها وظيفة سوى لفت الأنظار وإثارة الجدل.
لم يكن كل ما قيل على مواقع التواصل الاجتماعي حول المهرجان موضوعي، ولكن بعضه أصاب الهدف وعبر بموضوعية عن الحقيقة، ومن ذلك أنقل رد رجل مستنير اسمه دكتور أحمد شعبان على تغريدة للسيد نجيب ساويرس اعتبر فيها أن المعترضين ينتمون للعصور الوسطى، حيث قال له :
والله يا باشمهندس احنا مش في العصور الوسطي
ولفينا زيك العالم المتحضر
كله في أوروبا وأمريكا
وخدنا زمالات
في علوم الطب الحديثة
من بلاد العالم المتحضر
وبنقول لك فرق كبير
بين الفن والمجون
بين استعراض الجسد
واستعراض المواهب
احنا شفنا عندك مهرجان
بس ما شفناش سينما
شفنا فساتين
لكن ما شفناش افلام عالمية
من إنتاجك
شفنا تنافس على كشف المفاتن
وما شفناش أي تنافس في النبل
والرقي ورسالة الفن الجميل
الجمال يا هندسة
في الفن الراقي والإبداع
في تهذيب الوجدان
وترقية الروح
في بث رسالة المثل العليا والحب
والعطاء
لا في كشف الخلفيات والصدور
والله مش متغاظين
عايزين مصر الجميلة
بقوتها الناعمة في الإبداع
مش في إثارة الغرائز”
كثير من الجدل، قليل من السينما، هذا هو حال مهرجان الجونة، وكأن أحد أهدافه إثارة الجدل وصدم الناس، ولم يكن الحريق وفساتين بعضهن فقط هما مصدر الجدل، ولكن أيضا فيلم (ريش) الذي اتهمه بعضهم بالاساءة إلى سمعة مصر، وكأنه قد غاب عنهم أن مصر دولة كبيرة وحضارة ضاربة في أعماق التاريخ لا يسيء إليها فيلم ولا ينال من مكانتها مهرجان ومصر لا تقبل المصادرة على رؤى أبنائها الناقدة لو تم تقديمها في إطار جميل وبهدف نبيل؛ وكذلك الجدل الذي أثاره وجود الفنان محمد رمضان في الافتتاح وتجاهل اثنين من الفنانين المغاربة شاركاه في الأغنية التي قدمها، ليضطر المهرجان في النهاية للاعتذار عن هذا التجاهل المقيت للشعب المغربي، ونتمنى أن تكون القرارات التي يتردد أن أصحاب المهرجان اتخذوها بتغيير مديره وبعض مسؤوليه تعبير عن نوايا جادة لتصحيح مساره في الدورات القادمة وليعود مهرجاناً هدفه الأول الارتقاء بفن السينما.
من حق مهرجان الجونة أن يتخذ من السينما ستاراً للتسويق العقاري، ولكن ليس من حقه أن يهمش السينما لحساب مظاهر شكلية وثقافات مستحدثة لن تغير من جوهر ولا قيم ولا قناعات المصريين.
mahmoudhassouna2020@gmail.com