كتب : محمد حبوشة
غموض آسر وسحر لاينتهى سواء في الأحداث أم التشويق، وأفضل مافي هذه المسلسل أنه يستطيع أن ينقلنا إلى عالم عجيب مملوء بالحيوية والإثارة، ولأن الإنسان بطبعه كائن يحب البحث والاستكشاف، ولذة المعرفة لا تعادلها لذة عنده، فتبدو لحظة الوصول للحقيقة بعد بحث وعناء أو حتى عن طريق المصادفة هى لحظة مفعمة بالحياة، إثارة، وعادة ما يحتاج ذلك الغموض، وتلك الألغاز المعقدة إلى أشخاص عباقرة حتى يحلونها، مجرمون أذكياء جداً كادوا الوصول إلى الجريمة الكاملة، لولا محققون أصحاب بصيرة وبديهة فائقة، وهو ما يجعلنا بعد كل ما سبق نحب الروايات البوليسية، ومن لا يستمتع مأخوذا بكل تفاصيلها حتى الحلقة الأخيرة.
ونظرا لأن هذه الأعمال تحتل المرتبة الأولى في المشاهدة اليوم على اعتبارها من الأنواع الأكثر تفضيلا لدى الناس في شتى أنحاء العالم، ومثال ذلك كتب المؤلفة البريطانية (أجاثا كريستي)، حيث ماتزال حتى الآن تأتي في المرتبة الثانية في العالم من حيث المبيعات بعد كتب (شكسبير) مباشرة، وللعلم فإنه يتدرج تحت أدب الغموض 6 أنواع من هذا الأدب هى: البوليسي، والخيال العلمي، والخيال الحر، وأدب المغامرات، وأدب الدراما، وأدب الرعب، والأخير عادة ما يكون مكتوبا بتفاصيل مرعبة ومفاجئة تربك المشاهد والقارئ في آن واحد على جناح الإثارة والتشويق.
ومسلسل (البريئة) هو واحد من أهم مسلسلات التشويق الذي ينتمي إلى نوع الأدب البوليسي والخيال الحر وأدب المغامرات، وأدب الدراما مع قدر من الرعب الذي اعترى بعض المشاهد التي تتطلب القسوة في إطار الحبكة الدراميا التي وضعت تقاصيلها بحرفية شديدة (مريم ناعوم) وبرع في تصوير مشاهدها المخرج (رامي حنا) لنشاهد مسلسلا يشد انتباهنا طوال الوقت وننتظر الحلقات التالية بشوق جارف نحو معرفة تفاصيل حياة (ليلى يونس/ كارمن بصيبص) وكشف غموض شخصية صديقتها (فادية/ تقلا شمعون) بمساندة وتعاطف من جانب المحقق (جاد/ بديع أبو شقرا).
الأدب البوليسي بخصائصه المليئة بالإثارة والغموض والتشويق يتجلى واضحا في قصة مسلسل (البريئة)، ويسمح للجمهور المتلقي باستيعابه وتذوقه، خاصة أنه ركز على جانبين، الأول أن التحري أو المحقق يبحث عن المتهم، ويكون هناك مجموعة من المشتبه فيهم، ولا يعرف حينئذ المحقق المتهم إلا عن طريق التحري، أما الجانب الثاني فيكون عبارة جريمة ارتكبت بطريقة ذكية جدا، ويطرح التساؤل عن كيفية ارتكاب تلك الجريمة، ومن الممكن أن نعرف القاتل، لكن جانب الغموض ليس بمعرفة القاتل، ولكن معرفة طريقة ارتكاب الجريمة، ومن هنا فإن عنصر الغموض يكون بمنزلة الدافع وراء ارتكاب الجريمة، فعلى سبيل المثال، هناك شخص عادي يعيش حياة طبيعية، ولكن لديه جانب مظلم وأسود في تركيبة شخصيته مثل (كامل/ يورجو شلهوب)، الذي ورث جينات والده (فضل/ جورج شلهوب).
وغالبا ما تأخد هذه النوعية من مسلسلات الجريمة والغموض طابع المغامرة المليئة بالألغاز والشيفرات التي تتطلب من المشاهد تركيزا عاليا وذكاء استثنائيا، كما وتتميز بالإثارة والتشويق وحبكتها القصصية الرائعة والغموض الذي يلفها، وهذا هو السر في ارتفاع نسبة مشاهدي هذه المسلسلات، تماما كما جاء في مسلسل (البريئة)، لكن الذي كان سببا جوهريا في نجاحه هو أن غلفه أداء رائع من جانب كل فريق العمل وعلى رأسهم (كارمن بصيبص، تقلا شمعون، بديع أبو شقرا، جورج شلهوب، يورجو شلهوب، ساشا دحدوح، إيلي مترى، إيلي شوفاني)، ولابد لنا هنا من الإشادة بالمنتج جمال سنان عبر شركته (إيجل فيلم) التي وفرت كافة متطلبات صناعة مسلسل مكتمل العناصر الفنية حيث جاء بنكهة عربية خالصة.
صحيح أن هذا النوع من المسلسلات التي عمدت منصة (شاهد) مؤخرا إلى عرضها يشد الانتباه ويثير الاهتمام بسبب القضايا التي يطرحها، مما يحفز فضول المتابعين ويجعلهم يسعون لمعرفة ماذا سيحدث؟، لكن هذا لايحدث إلا إذا كان طاقم التمثيل على قدر عال من الاحترافية، وهو ما تحقق في مسلسل (البريئة) على مستوى التكنيك والحركة التي تميزت بها (كارمن بصيبص) حتى أن الجمهور تغزل بأدائها لدور يتطلب حرفية وأداءا عاليا، كما أبدى الجمهور إعجابهم الشديد بـ (الاستايل) الذي ظهرت فيه بصيبص وعدم اعتمادها على جمالها، حيث ظهرت بوجه شاحب وشعر بخصلات بيضاء نظرا لأن الشخصية التي تقدمها تعيش أيام سيئة داخل السجن مدة 8 سنوات بعد اتهامها بجريمة قتل هي بريئة منها.
وجاء في تعليقات الجمهور على أداء كارمن بصيبص: (خصلة شعر بيضاء وعينان باهتتان بعد ثمانية سنوات قضتها بين القضبان ظلما، ظهور أول رائع من كارمن بصيبص بدور ليلى يونس.. حلقاتها الثمانية ذات رتم عالي ممتع وسريع، كما إن كاميرا رامي حنا مشبعة وتسرق الفضول.. لقد وصف قطاع كبير من الجمهور (بصيبص) قائلين: (إبداعك فوق الوصف وصلتني لنا كل إحساس عاشته ليلى البريئة في السجن وهى مظلومة بكل احترافية وأثبتي عن جد أن هيك دور مايليق غير لـ كارمن بصيبص وبس وثنائيتك مع الست تقلا ماينمل منها أبداً حتى لو تتكرر مية مره لأن كل ثنائية مختلفة عن الثانية وتبدعو فيها).
ويبدو لي بعد المشاهدة المتأنية للمسلسل الذي يثير الفضول والدهشة في آن، أن شهرة الممثلة كارمن بصيبص لم تنشأ على خلفية جمالها الخارجي أو لتسلقها سلم النجاح من باب مقولة (أنا أو لا أحد)، فقد استطاعت أن تحقق نجوميتها من باب مثابرتها واجتهادها وتأنيها في خياراتها، وعلى الرغم من دخولها الساحات التمثيلية في مصر ولبنان والخليج العربي من بابها العريض، فإنها بقيت تحتفظ بطبيعيتها وعفويتها وبشخصيتها القوية واللطيفة في نفس الوقت، متمسكة بحضورها اللافت وبهوية الممثلة الباحثة عما يضيف إلى مسيرتها، ومن هنا فقد صعدت (كارمن) سلم الشهرة بثبات، هي اليوم نجمة عربية ينتظر إطلالتها الملايين، ولا تزال تحصد النجاح تلو الآخر.
وكارمن بصيبص على حد قولها: لا تهمني الشهرة بتاتا، وهى برأيي بمثابة وهم، كلما شعرت بأنه يقترب مني أهرب، فما يهمني في الموضوع هو أن أبقى واعية على كل ما يجري حولي ولا أنجرف بأمور قد تكون آنية، أو مجدا باطلا، أحاول دائماً أن أنظر إلى الأمور من مكاني الطبيعي، فأنا شغوفة بالتمثيل وأستمتع بكل لحظة أمارس فيها عملي كأي شخص عادي يحب مهنته، ولكن يكمن الفرق بيني وبين غيري بأن مهنتي تدور تحت الأضواء وتسهم في نشر اسمي، ولذلك أشكر رب العالمين على كل ما وصلت إليه، من دون أن أعيش الوهم.
وظني أن الصعوبة عند (كارمن بصيبص) تكمن في إبقاء الدور الذي تؤديه نضرا لافتا للانتباه في كل الأحوال، وعلى الرغم من أدائها دورا في مسلسل قصير كـ (البريئة) فإنه قد سمح لك بالتركيز أكثر على أقل تفصيل، وساهم في ذلك أنه كان لديها متسع من الوقت للتصوير، ومن خلال هذه الأعمال القصيرة تكبر مساحة الإبداع وتبتعدين عن النمطية – هكذا تقول وتؤكد – ومع ذلك حضرت لشخصية ليلى بطريقة دراسة الشخصية من حيث شكلها الخارجي والداخلي، فلقد انطلقت من مرحلة 8 سنوات سجن وما يمكن أن يترك هذا الزمن على صاحبه، كانت تتمنى أن تتعرف إلى شخصيات حقيقية في الحياة تشبه ليلى وهي مسجونة، ولكن الجائحة حالت دون ذلك.
وفي المقابل بحثت وحضرت واجتهدت لتجسيد شخصية محبطة ومكتئبة، لا سيما أنها بسجنها انسلخت عن ابنتها التي ترفض أن تراها، وكان عليها أن تتحلى بالشراسة، وربما ساهم المخرج رامي حنا في مساعدتها لإيجاد ردود الفعل المناسبة لأم محرومة من ولدها، لا سيما أنها لم ترزق بأولاد بعد، في حياتها العادية، وشعرت بحرمان الأم من ابنتها، خصوصا أنها لم ترها يوما بسبب سجنها، وعندما التقطت هذا الشعورغاصت في الدور إلى أبعد حدود.
وعلى درب الأداء الجيد جسدت (تقلا شمعون) شخصية (فاديا) ببراعة فائقة في احتواء الصديقة (ليلى) على نحو جيد للغاية على مستوى الدعم والمساندة، لأنهما تنتميان إلى المعاناة نفسها، ضمن جيلين مختلفين، فكلاهما قررتا محاربة الاتجار في الآثار الوطنية، وإعادة المسروقة منها إلى المتحف الوطني، كانت هى الصديقة الصدوقة لليلى، امرأة درست النحت، تملك روح الفكاهة، وتحاول تبسيط الأمور في الحياة على عكس صديقتها (ليلى) التي تحمل قضيتها على كتفيها سعيا لإيجاد من سرق سنوات عمرها واتهمها زورا وبهتانا.
وظلت هكذا إلى أن تنكشف الأسرار وتظهر الحقائق، حين أدركت أنها تورطت في قضية سجن صديقتها دون إدراك مباشر فقررت الرحيل لأنها لاتقوى على المواجهة المباشرة، وهنا استخدمت (شمعون) تكنيك خاص في الأداء يعتمد على الإحساس والمشاعر المختبة خلف ستار طوال الوقت، ما مكنها من إجادة الإداء على نحو يضعها في مصاف النجوم الكبار في لبنان والعالم العربي.
أما بديع أبو شقرا، فلعب دورالمحقق (جاد) على نحو جيد ومثالي للغاية فهو شخص صارم، انخرط في هذا المجال لأنه يحبه ولا يعتبره مجرد مهنة، وقد حصل ظرف في حياته مشابه لما حدث في قضية ليلى، مما جعله يستعيد حماسته لمساعدتها، لاسيما وأن لديه شعور قوي بأنها بريئة، وربما لم يكن جاد في البداية مهتماً في المرحلة الأولى بالقضية، لكنه لاحقا بات لديه شغف لإثبات براءة ليلى، ليجد نفسه فيما بعد معلقاً بين الواجب من جهة والإنسانية من جهة أخرى، فهو يشعر بالمسؤولية تجاه ليلى لأنه لم يستطع أن يفعل شيئاً لتبرئتها قبل 8 سنوات، فيجد نفسه مطالبا بالعمل على إثبات براءتها اليوم بدافع من ضميره وإحساسه العالي بالواجب، وهو ما ترجمه (أبو شقرا) بأداء يعتمد على التقمص وعرض المشاعر على طريقة رجل البوليس القوي الذي يحمل جوانب إنسانية عالية.
وبحرفية عالية أيضا شاهدنا يورجو شلهوب في شخصية (كامل)، وجورج شلهوب في شخصية (فضل) اللذين أديا دوريهما بطريقة تناسب أنهما شخصين عجيبين وغريبي الأطوار، حتى يمكن وصفهما بالشخصية المرضية المضطربة، المعقدة والنرجسية وثنائية القطب، خاصة أن كامل لديه مشاكل مع والده (فضل) رجل الأعمال الذي أبدع هو الآخر في لعب رجل المافيا الخفي، وكل تصرفاتهما تنبع من مشاكلهما النفسية مع نفسيهما ومع الآخرين، فتراهما في لحظات حنونيين ومحببيين، وبعد حين تراهما على النقيض من الشراسة والعدوانية، وقد أبدع الثنائي (شلهوب) في إظهار مشاعرهما الداخلية على وجهيهما القاسيين في حالات كثيرة تؤكد أنهما ممثلان يحملان قدرا كبير من الموهبة.
وعلى طريق (شلهوب) جاء أداء إيلي متري في دور (علي) حيث عزف بنعومة على أوتار الثقة التي منحها إياه والد زوجته الثانية فضل والعائلة التي حاول الحفاظ عليها بشق الأنفس فعلي الرغم من أنه كان زوج ليلى الذي طلقها عندما اتُّهمت بالجريمة وتزوج من صديقتها وعاش في مجتمع لا يشبهه، ما كان له من آثار سلبية انعكست عليه كما بدا من أدائه الناعم حيث ظهر كرجل لم يعد يثق في نفسه وفي تحليلاته، مما حوّله إلى شخص لا يقوى على اتخاذ القرارات ضمن عائلته الجديدة، ومع ذلك كان مجبرا علي أن يعيش مع زوجته الثانية وابنتهما بتفاهم وحب، وذلك بعد أن فقد ثقته بزوجته الأولى والتي تزعزعت ليس بسبب اتهامها بالقتل، بل بسبب هوية المقتول، وهو حبيبها السابق، الأمر الذي جعله حادا في التعامل معها ومع الأمر بأكمله.
لعبت (ساشا دحدوح) دور (نادين) صديقة (ليلى) بطريقة تدل على أنها ممثلة بدأت تنضج كثيرا، فقد تماهت جيدا مع (فضل) الأب المتسلط والقاسي في التعامل معها وشقيقها (كامل/ يورجو شلهوب)، واجتهدت في التعبير عن حالة (نادين) في خروجها من زواج فاشل، وبقي همها الأول والأخير تكوين عائلة، وعندما خالطت العائلة التي حلمت بها وهى عائلة صديقة طفولتها ليلى أرادت أن تكون جزء منها، خصوصا أن لديها حب التملك، وقد استغلت ظرف سجن ليلى لترتبط بـ علي وتفوز بحضانة (ريما) ابنة ليلى، لكن الأمر لم يدم طويلا بعد أن قتل (علي/ إيلي متري) على يد (كامل) الأمر الذي أربك كل الحسابات.
ولابد لي أن أشيد بـ (إيلي شوفاني) الذي قدم دور (كريم غنام) بشكل مثالي مع أداء ناعم وبسيط، وهو شخص ينتمي إلى عائلة ارستقراطية، ويسير في حلف واحد مع البطلة، بحثا عمن تسبب بمقتل والده، وأظهر (شوفاني) قدرته التمثيلية في التعبير عن أن (كريم) ظلم في طفولته، ولديه شغف للانتقام من قاتل والده وهو يبحث عن الفرصة المناسبة لتحقيق ذلك، ولقد بدا بأداء مفياوي – على مستوى التنكيك – في شخصية كريم التي تؤكد على القوة المخفية الموجودة لديه، وسعيه الحثيث للوصول إلى هدفه مهما كانت الصعاب والعقبات، فانخرط على طريقة رجال العصابات والمافيا في حماية (ليلى) التي ستكشف له في النهاية سر من قتل والده.
والحقيقة أن فريق العمل التمثيلي كله – كما بدا لي – كان هاجسهم الأساسي إنجاح العمل، فقدموا أفضل ما عندهم، ويبدو أنهم مشربين بأداء محترف داخلي وخارجي، يترجم بلغة العيون والجسد والأداء، وهو ما اتكلت عليه (كارمن بصيبص) كثيرا في التعبير الحي بلغة عيونها وجسدها وتقنية التصرف بنبرة الصوت، فجاءت تجربتها في البرئة على نحو مغاير يعكس طبيعة تطورها كممثلة نجحت في الرومانسي كـ (عروس بيروت) بجزئيه، وحققت نجاحا أكبر في الأكشن والبوليسي كما في فيلم (العراف) مع أحمد عز، وأخير وليس آخرا في مسلسلها الجديد (البريئة).