كتب : أحمد السماحي
ليس الكاتب المبدع (كرم النجار) هو أول عزيز يموت، وليس قلبه الكبير أول قلب يتوقف عن النبض وتبتلعه متاهات العدم لا، ولا هو أول إنسان يعز على النفس أن تتخيله حيا موفور الطاقة مشع البسمات، الكلمة الحلوة تملأ فمه والإحساس العميق بالناس وأحزانهم ومتاعبهم الصغيرة يقض مضجعه، ثم تتخيله بعد هذا جسدا ساكنا لا حراك فيه، وبركانا خمد.
لقد كان (كرم النجار) كل هذا حقيقة وأكثر منه، كان كاتبا مبدعا ومتواضعا وذكيا، عزيز النفس، رقيقا عذبا، واثقا بالناس، صافي الضحكات، كان شهما وفي شهامته تراث شعبنا العريق فى إغاثة الملهوف، ونجدة الخائف، والوقوف دائما وفي كل آن مع الضعيف.
تعرفت عليه عن طريق صديقي المخرج الراحل (محمد النجار) منذ كنت طالبا في الجامعة، وتوطدت علاقتي به، وبعد تخرجي ذهبت إليه اسأله النصح والمشورة، حيث كنت عاشقا للصحافة بقوة أمارسها منذ كنت طالبا في الجامعة في جريدة (الشرق) القطرية، لكن بعد تخرجي من الجامعة استطاع والدي الحصول لي على وظيفة مهمة في شركة كبرى بمرتب عالي جدا في الشهر يوازي ما أحصل عليه من الصحافة في سنة، حيث كان أستاذي الكاتب الكبير (يوسف الشريف) يعطيني مكافأة تشجيعية بسيطة فى الشهر نظير عملي الصحفي.
وعندما ذهبت إليه في منزله في مصر الجديدة أسأله النصح سألني بحسم ماذا تحب؟ قلت له: الصحافة التى لم أحلم بيوم غير بها، فقال لي: خلاص أنسى الوظيفة والمرتب الكبير، ولا تلتفت لهما، وخليك في عالم الصحافة، فسألته: طب وأهلي أعمل معاهم أيه؟ قال لي: تحمل غضبهم بعض الوقت، لكن هذا الغضب سيتحول إلى فخر وسعادة عندما يروا نجاحك.!
وسمعت كلامه واجتهدت في عملي الصحافي، وكان يراقبني من بعيد، وأنا اتصل به من وقت لآخر، وأجريت معه العديد من الحوارات ففي عام 2001 وعندما كان يقدم مسرحيته (أولاد الغضب والحب) ذهبت إليه في مسرح (السلام) وأجريت معه حوار مطولا عن المسرحية، وفى عام 2003 أجريت حوارا آخر تحدثنا فيه عن مشواره الفني، نشر الحواران في مجلتي الحبيبة (الأهرام العربي) قبل انتقالي لجريدة (الأهرام)، وفي جريدة (الأهرام) أجريت معه حوارا عن مسلسله (محمد رسول الله) وكيف وهو المسيحي كتب مسلسل عن الرسول عليه الصلاة والسلام، فإليكم بعض من مقتطفات حواراتي معه التى جرت على لسانه :
** نشأت نشأة ريفية، وتطلعت إلى الحياة الريفية من خلال تفتح الوجدان، وكان والدي رحمه الله مثل (سي السيد) في ثلاثية أستاذنا (نجيب محفوظ) شخصية تحار في تفسيرها، فهو قوي جدا، وصارم، وفى لحظات يتحول إلى طفل، مسألة التناقض هذه لها تأثير في تشكيل وجداني، ورغم قسوة والدي إلا أنه كان عاشقا للفن وكثيرا ما اصطحبني وأنا طفل لمشاهدة أعمال (يوسف بك وهبي) على المسرح القومي في القاهرة.
** في سنوات الشباب كنت أمثل وأكتب وأخرج، وتركت كلية الهندسة، ودخلت كلية الحقوق حتى أصبح مؤلفا، ومع بداية تعقيل الهواية بدأ إحساسي بالتميز في الكتابة، وعند الفنان والمخرج والكاتب (أحمد كامل مرسي) تعلمت السيناريو، وكان حلمي أن أكون مؤلفا مسرحيا وليس تليفزيونيا، ولكن بعد استبعاد نصوصي المسرحية كتبت للتليفزيون.
** عندما دخلت التليفزيون أول مرة كتبت حلقات من برامج تليفزيونية مثل (حياتي، من الجاني، الناس والفلوس)، وكانت أول سهرة تليفزيونية لي تخرج للناس هي (فراغ) من إخراج (أحمد طنطاوي) الذي شجعني كثيرا، وبطولة (حسين رياض، وسهير البابلي) وعرضت يوم 7 يناير 1965، وكانت آخر أعمال المبدع (حسين رياض)، وكانت تحكي عن رجل كبير متزوج ولديه أولاد، ولديه أيضا ورشة نجارة، وعندما زاره أحد أبنائه في الورشة ووجد يده ترتعش وهى تمسك (الفارة) اجتمع مع أشقائه وطلب من والده غلق الورشة، وعندما جلس في البيت بدأ يحس أنه شخص لا يفعل شيئا مهما، وعاجز عن إسعاد نفسه ومن حوله، وبدأ يأخذ كلام زوجته بحساسية شديدة فعندما تبدأ فى تنظيف البيت وتطلب منه الخروج أو الجلوس في مكان بعيدا حتى تنظف البيت يغضب ويثور، وفى نهاية السهرة يمسك يده ويضرب بها المكتب ويقول لها: بترتعشي ليه، بترتعشي ليه، وتنتهي السهرة عند هذا.
** بعد النجاح الكبير الذي حققته سهرة (فراغ) كونت ثنائيا فنيا مع المخرج (أحمد طنطاوي)، وقدمنا سهرات درامية مهمة للغاية مثل (أصيلة، الببغاء، غموض، ظلال، صابرين، طريد الوهم، دعوة الحق)، ومسلسلي (القضبان، وآه يا زمن)، كما تعاونت مع المخرج النبيل (إبراهيم الصحن) في سهرتين هما (اللعبة، 3 وجوه لعمله واحدة) وقدمت معه أيضا مسلسل (العدل والتفاحة).
** كما تعاونت مع المخرج فايق إسماعيل في سهرة (هى وغيرها)، ومع فخر الدين صلاح في (العجوز والحبل)، ومع سامي محمد علي في سهرة (الحق) مسلسلات (مسافرون، الحصان، تاه الطريق)، ورضا النجار في (الحفرة) ومسلسل (الامتحان)، ومع المخرج أحمد فؤاد في (ثمن الخوف).
** كونت ثنائيا فنيا مع المخرجة عليه ياسين في مسلسلات (العدل، صراع الأحفاد، هكذا خلقت، السنين)، ومع إبراهيم الشقنقيري في (لقيطة، بعد الغروب، وظيفة، رحمة).
** للأسف الشديد كل هذه السهرات والمسلسلات المهمة التى قام ببطولتها وإخراجها كبار نجوم التمثيل والإخراج في مصر لا تعرض ولا حتى أعرف مصيرها، لكن أحيانا أشاهد بعضها في بعض المحطات العربية.!
** الفكرة أحيانا تسبق الشخصية التى تفرض منطقها، أو الحدث الذي ننسج من خلاله عالما كاملا بشخصياته، واختياراتي للمخرجين من خلال معرفتي وخبرتي بهم، فإذا كان العمل يقدم فكرا فإن أفضل من يقدمه هو إبراهيم الصحن، أما إذا كان يعتمد على الحركة والديالوج فإني أفضل محمد فاضل، وإذا كنت أريده أن يقدم كما كتب فإني لا أتردد أمام عليه ياسين.
** هناك هموم كثيرة تشغلني، أهمها فكرة الحرية والعدل، دائما أحلم بعالم من الأحرار، ليس بالمعنى السياسي، ولكن بالمعنى المطلق، فالحرية لا تمس حرية الآخرين، ولكنها حرية الفكر، وحرية العقيدة والمذهب والميول السياسية والاجتماعية، كيف يصل المجتمع إلى هذه الحرية إلا من حصاد عدل شامل وخطير، لو تساوت كفتا العدل فإن موهبتي الطبيعية هى وحدها التى تفضلني عن غيري.
رحم الله (كرم النجار) الذي آمن بالحرية والعدل، وكان يحلم أن يرى أعماله القديمة تعرض في التليفزيون المصري الذي أفنى فيه زهرة شبابه، لكن التليفزيون كان ناكرا للجميل، وأغتال حلم (كرم النجار) البسيط، ولم يعرض أعماله الكثيرة المتنوعة، نتمنى أن يبحث التليفزيون المصري عن سهرات ومسلسلات هذا السيناريست النبيل ويعرضها حتى نستمتع بهذه الأعمال التى سمعنا وقرأنا عنها لكننا لم نشاهد معظمها.!
فوداعا كرم النجار، وداعا شعلة العقل التى لا تنطفئ أبدا.