بقلم : محمد حبوشة
فغي الخريف تسقط الأوراق الذابلة بفعل الإهمال والنسيان والغين الذي يقع على صاحبها، ومن ثم سقطت ورقة غالية من شجرة الإبداع المصري، فقد رحل عن عالمنا أمس كاتب مصري ومؤلف درامي بدرجة مفكر، وهو صاحب مشروع فني كبير شغلته فيه قضايا السياسة والاقتصاد والحرية، فدارت معظم أعماله حول العلاقة بين السلطة والمواطن والحاكم والمحكوم، والعلاقات الاجتماعية وكرامة الإنسان، وحلقت أفكاره ومؤلفاته في آفاق ومعاني واسعة الدلالة وحملت في طياتها إسقاطات على ما نحن في حاجة إليه في عالمنا العربي المعاصر، فقد درات مؤلفاته وأفكاره حول رؤية للدراما التي تعكس الواقع وتوحد الرؤى حول الأفكار والمعتقدات، وأن الدراما يجب أن تقوم بدور فعال في تصحيح المفاهيم والمساهمة في عرض القضايا الراهنة، وتوضيح سبل العلاج من خلال مواقف حياتية اجتماعية تخرج بالدراما من قوقعة التسلية والترفيه إلى رحاب التنمية والتطوير والتنوير.
أنه الكاتب المسرحي ورائد الدراما التليفزيونية الإصلاحية (كرم النجار) الذي استخدم في كتاباته اللغة البسيطة في مهارة تجعلنا نقف على مذاق اللغة العربية، وفي كتاباته إحياء لكل القيم الوطنية وروح الفداء لدى المواطن المصري، ونرى هذا واضحا في أعماله، وتعد رؤيته في كل أعماله انعكاسا لاهتمامه بالعديد من قضايا مجتمعنا وتفاعله مع ظروفه ويعكس أيضا فهما جيدا لقضايا اجتماعية هامة، إلى جانب التعرف على أنماط اجتماعية جديدة ظهرت مؤخرا في المجتمع وأثرت فيه، وقد استخدم كاتبنا الكبير الراحل طرقا جديدة ومبتكرة في حل المشكلات التي ربما تحدث خللا مجتمعيا، وقد ابتعد من خلال القضايا التي يطرحها عن ما يمكن أن نسميه (دراما التيك أواي) التي لايمكن أن تعطى نموذجا يمكن الاقتداء به، بل على العكس فإن كل ما قدمه يلمس قضايا إنسانية وظواهر أساسية متعلقة بالحياة اليومية للمشاهد العادي، مما يجعل الدراما من أهم المؤثرات عليه.
لهذا يعتبر الكاتب الكبير الراحل (كرم النجار) أن الكتابة الدرامية من أهم الوسائل لإصلاح المجتمعي في وسط هذا الزخم الشديد من التأثيرات السلبية، حيث لابد أن يأخذ الفن دوره ومكانته في تنمية المجتمع وتوثيق قيمه الأصيلة، وهو ما يلقي بالتبعية العبء على فئات عديدة يمكنها المساهمة في دعم الفن وتنقيته من الرزائل، والاستفادة من مقوماته وخصائصه في التأثير على المجتمع، ومن هنا فإنه لايجب أن ينصب التركيز في الكتابة على إبراز القيم السلبية في المجتمع، مما يفتح المجال لظهور خلل في القيم وظهور مجموعة من الأفكار السلبية في الأعمال الدرامية مثل (الانتقاص من قيمة الكفاح واهتزاز صورة الأب أو الأم والأسرة، وبالطبع النظرة المادية للزواج وعدم احترام العلم وسيطرة مبدأ الغاية تبرر الوسيلة، وعدم احترام القانون وقلة عدد الشخصيات الإيجابية في الأدوار الرئيسية وزيادتها في الأدوار الثانوية.
بداية (كرم النجار) كانت من القرية التي ولد فيها واسمها (منشية الأمراء)، وهى قرية صغيرة جدا بمركز المحلة الكبرى بمحافظة الغربية، لكن في كنفها تعلم شيئين – على حد قوله – كانوا زادا حقيقيا له فيما بعد، الأول : أن طبيعة القرية محدودة في عدد السكان وبالتالي كل العائلات معروفة لبعضها البعض، – وعلى حد قوله في حوار تليفزيوني – كانت أسرتنا هى الوحيدة المسيحية، بينما باقي كل العائلات مسلمة (العمدة شفيق) وابنه مأمون وبناته، ومن ثم نشأت في جو لا أعرف فيه ماذا يعني مسلم أم مسيحي؟!
ثانيا: تعلمت معنى العطاء بلا حدود، فقد كان والدي صديقا للعمدة وباقي الشخصيات الإسلامية، حتى إنه عندما تم إنشاء (مسجد أبو الفضل)، لم يجد الشيخ أبو الفضل نفسه حرجا في أن يعطي أبي إيصال بجمع التبرعات من المسيحين .. هكذا كانت الروح، وعندما جاءت فكرة توسعة كنيسة (ماري جرجس)، جاء الشيخ أبو الفضل نفسه وطلب من الأب (ميخائيل) إيصالات لجمع تبرعات للكنيسة، بل أيضا كان هناك تعاون بين الشيخ أبو الفضل والأب ميخائيل في بناء الكنيسة بنفسيهما، وقد كان والدي وسط تلك الأجواء يقابل بحالة من الترحيب، وربما هذا خلق عندي روح المحبة للناس والتفاعل معهم.
هذا الكلام شاهدته على الطبيعة – يقول كرم النجار – وأنا طفل عنده 6 سنوات، لهذا شعرت بالحزن والشجن لما آلت الأمور في مصر إلى تلك الحالة المخزية من العصبية والعنصرية في التفكير عام 2013، فقد وصل الأمر إلى حد أن يقول رئيس الجمهورية – يقصد محمد مرسي – أن الأقلية القبطية في حمايتي، ولايدرك أن هذه القلة موجودة في هذا البلد من فجر التاريخ، وهذه مشيئة الله، وبعد أن جاء المسلمين تعايشوا وتحابوا مع المسيحيين وسارت الحياة على هذا الأساس .. هذه هى مصر.
درس (كرم النجار) مرحلة الابتدائي والإعدادي في مدرسة (التوفيق) بقريته، ثم مرحلة الثانوي بمدرسة المحلة الكبرى، وبدأت علاقته بالفن وخصوصا التمثيل في الصف الثاني الثانوي، حيث كان هناك مخرج اسمه (مصطفى العيسوي)، وكان يوجد بالمدرسة مسرح وقاعة للرسم ومعارض وموسيقى وكشافة ورياضة، كل ما يبني الإنسان بطريقة صحيحة، وسط هذا المناخ خرج أيضا الفنان أحمد مرعي، الذي كان يسبقني بسنة ويشرف على فريق التمثيل، وقد حصل (النجار) على الجائزة الذهبية في التمثيل سلمه إياها المسرحي الكبير نبيل الألفي، والمهم في الأمر أن المدراس كانت تساعد الطلبة على اكتشاف مواهبهم بتنمية تلك المواهب والمهارات.
ولقد كان دور الأب هو الأعظم في حياة (كرم النجار)، بما كان يملك من قوة تأثير وإشعاع وكان يتمتع بشخصية قيادية، يعمل طوال الوقت بالشأن العام، فكان معروفا أن والده (وديع بوليس) رجل مسيحي معروف للكافة بأعماله الخيرية وخدمة مصالح الناس، وهو الذي قام بتوجيهه لفكرة الثقافة بقراءة الكتب، وأول كتاب قرأه من مكتبة والده وعمره آنذاك 11 سنة، كان بعنوان (الأرض)، وكان يتحدث عن الفلاحين في جنوب شرق أسيا، وكان مفاجأة له أن هناك مكان في العلم الآخر يشبه قريته، بنفس المفردات وحالات الفقر والظلم والكفاح والحق.
ثم ارتبط (كرم النجار) من خلال والده بتوفيق الحكيم، الذي رسخ بداخله فيما بعد أن الكتابة أهم من الفنون الأدائية في التمثيل، وأن الكلمة قيمة ومسئولية ورسالة، حيث أعطاه والده كتاب (التعادلية) ودخل في تحد معه أن يفهمه ولكن الصبي المتوقد ذكاء وموهبة فهمه، وجلس للمناقشة معه وأسر له بأنه يتمنى أن يكون مثل الحكيم وطه وحسين، وغيرهما من كبار الكتاب في ذلك الزمن، ورغم سخرية والده من كلامه، إلا أن الحلم تسرب داخل عقل وقلب هذا الصبي، وفي إحدى المرات في جمعية الشبان المسيحيين التي كان يرأسها والده، وفي أثناء الفرجة على بروفات إحدى المسرحيات اعترض (كرم) على مشهد فيها فقال لها المخرج مصطفي العيسوى خذ هذا الأوراق واذهب لغرفة مجاورة واكتب كما تحب وتشاء، وكانت المفاجأة أنه قال له سآخذ هذا المشهد ضمن المسرحية، وكانت سعادته غامرة لأنه أول مرة أمسك بورقة وقلم وكتب مسرحا، والمفاجأة الأكثر عندما وجد ممثلين معرفين يقولون ماكتبه على المسرح.
بدأ الحلم يتحرك بداخل الشاب (كرم النجار)، ولم يستطع بالطبع في البداية مصارحة والده في هذا الأمر، لكنه على جانب آخر بدأ الاهتمام باقتناء كتب المسرح مثل (روائع المسرح العالمي)، لكن صدم في أثناء المطالعة بمؤهلات كتاب هذا المسرح حيث كانوا حاصلين على شهادات في الأدب وتخصصات المسرح، ومن ثم فقد الأمل في تحقيق حلم الكتابة المسرحية، ودخل الحقوق، ولكن بعد نجاحه في (التيرم الأول) بدأ والده في تغير معاملته معه، خاصة بعد أن لاحظ قراءته لكتاب (سارتر) عن (الحرية والالتزام)، فقال له جملة ظلت تطن في رأسه حتى اليوم: (إن الإنسان الذي يختار بكامل حريته لابد وأن يكون ملتزما بنتيجة اختياره)، وهذا أعطاه الثقة في التجرأ على كتابة المسرح وممارسة التمثيل في الجامعة.
وبعد أن تخرج (النجار) – الذي يعشق المسرح حتى الثمالة – من كلية الحقوق بجامعة الإسكندرية ذهب إلى القاهرة، ونظرا لأن عمالقة المسرح كانوا يكتبون في تلك الفترة مثل (توفيق الحكيم، سعد الدين وهبة، عبد الرحمن الشرقاوي، نعمان عاشور)، فكان صعبا جدا أن يدخل في منافسة مع كل هؤلاء، ومن هنا بدأ حياته التليفزيونية لأنه كان جديد ولا تتوفر له كوادر في الكتابة ، ودشن عمله التليفزيوني بسهرة بعنوان (فراغ) بطولة حسين رياض وإخراج أحمد طنطاوي، وبعدها كتب عدة سهرات إلى أن قام بعمل مسلسل (محمد رسول الله) عام 1968، وهو الذي أحدث نقلة نوعية في حياته المهنية، ثم مسلسل (القبطان)، وتخلل ذلك بعض السهرات مثل (فقراء لكن أغنياء)، وسهرة (الرياح قادمة)، بطولة يسرا وجميل راتب، ويعد (كرم النجار) أول من نبه عن مشاكلنا التعليم في مسلسلي (الامتحان، والرقص على سلالم متحركة)، حيث أكد في إحدى حوارته حولهما أن المشكلة ليست في المدارس والمباني والمدرس والدروس الخصوصية، بل الكارثة في أنه تعليم تلقيني، فالتعليم كله حفظ وإعادة الحفظ، وهذا لايخلق شخصية ابتكارية، فلا يصنع عالم أو مبتكر، فشل العملية التعليمية في مصر يحتاج لتحرك وليس مسلسلين أو أكثر.
ونظرا لأن الكاتب الكبير كرم النجار يحمل ثقافة إسلامية واسعة، رغم أنه مسيحي الديانة، فقد أهلته هذه الثقافة لكتابة مسلسل (محمد رسول الله)، ويحكي قصته حول كيفية إسناد هذا المسلسل وكيف برع في كتابته، قائلا: ذكريات الميلاد والطفولة والصبا أعطتنا دروس مهمة في الحياة، وجعلت النمو الإنساني قابل، لذا ربما عجب البعض كيف كتبت (محمد رسول الله)، رغم أنني لم أشعر بأي نوع من الغرابة وأنا أكتب هذا العمل، وأذكر ان الأستاذ سعد لبيب أرسل لي مع الأستاذ أحمد طنطاوي، وكان وقتها عمري 23 سنة وتحديدا (عام 1968)، وقال لي بالحرف الواحد : (أنت حاتكتب محمد رسول الله)، ارتبكت في البداية قائلا أنا اسمي (كرم بديع بولس النجار).. أنا مسيحي، قال لي : (وماله ماهو العقاد مسلم وكتب عبقرية المسيح)، قلت له: هذا العقاد الذي قرأ كتب العالم، قال لي لتكن هذه هى البداية.
ولا أنكر أنني شعرت بأحاسيس غريبة جدا كان سببها أن الذي قدمني للعمل في التليفزيون هو المخرج أحمد طنطاوي وكان متخصصا في الأعمال الدينية، رغم أنه أخرج لي أعمالا غير دينية، لكن نتيجة هذا التعاون نشأت بيننا صداقة الأمر الذي جعلني ألازمه في كثير من أعماله، وكنت أبدي بعض الملاحظات على السيناريو، وكنت أسأله لماذا يكون المسلم براقا وجميلا ويضحك قبل أن يسلم، وبمجرد أن يؤمن يلبس أبيض ويقول في لهفة وتوجع وفي تكلف ملحوظ: (حبيبي يارسول الله) حتى أنني قلت لـ (طنطاوي) ذات مرة: لايمكن أن تكون تلك هى الشخصية التي قامت بكل تلك الفتوحات، لايمكن أن تكون تلك هى الشخصية التي أشاعت في العالم كل هذا الانتشار، لابد أن تكون شخصية حقيقية لذا سألته لماذا يجرى ما يجري للإنسان عندما يعلن إسلامه هكذا ؟!
ومن المفارقات التي يذكرها (كرم النجار) عندما ذهب لوالده في المحلة وقال له إنهم يطلبون منه مسلسلا عن (محمد رسول الله) فمارأيك ؟، يقول الكاتب الكبير: قال لي والدي: إذا شعرت بأنك ستخطئ بنسبة نصف في المليون لا تقترب من هذا، وإذا شعرت بأنك لن تخطئ بنسبة مليون في المليون توكل على الله وربنا معك، وبالطبع استغرق معي التحضير كثيرا في القراءة وإعادة القراءة مرة ثانية وثالثة إلى أن استقر يقني على الكتابة، وكان الأزهر يراجع الحلقات كلمة كلمة، وربما حرفا حرفا ويقوم بوضع الختم مباشرة، لأن التصوير كان في رمضان ولم يكن هناك وقت، حيث أقوم بتسليم حلقة بحلقة، ثم يقومون بعمل نسخ منها ويعطونها للممثلين بعد قراءتها معى حتى نتدراك أي خطأ واقع قبل بدأ التمثيل، وفي نفس الوقت تذهب نسخة للأزهر ويراجعها ويختمها ورقة ورقة والورقة غير المختومة لا يتم تمثيلها.
ومرت الحلقات كلها بخير وسلام دون وجود أية أخطاء – يضيف النجار- لكن لا ننسى أن كل ذلك حدث في مناخ حقيقي ومحترم، صحيح كان هناك البعض ممن تضايقوا من أنني مسيحي يكتب (محمد رسول الله) مثل (ظافر الصابوني) الذي كان يعتبر أشهر كاتب إسلامي في ذلك الوقت، لكن في المقابل كان هناك نجيب سرور الكاتب العظيم، والذي كان يمثل معنا في المسلسل هو وعبد الله غيث، واللذين وقفا بجانبي وساندوني وكانا يشدان من أذري قائلين لي لا تيأس.. دعك من كل من يعترض، المهم أن الأزهر يقول كلمته في كل ما تكتب.
وحول ذكرياته عن عدد من مسلسلاته التي تنتمي لنوعية الدراما الإصلاحية التي قدمها للتلقزيون يقول (كرم النجار): في مسلسل (عفريت القرش) بطولة فاروق الفيشاوي وبوسي، إخراج سامي محمد على: إنه تناول قضية سطوة المال وتحكمه في حياتنا وسيطرته عليها، وأن العالم لا يعيش فيه إلا ألقوى ماديا، وأذكر أنه جاء في الوقت الذهبي لمدينة الإنتاج الإعلامي، وكان أول عمل يناقش قضية الآثار الجانبية للمصريين العائدين من العراق بعد الكارثة الأمريكية 9 أبريل 2003، والتي ماتزال آثارها قائمة حتى الآن، وتناول المسلسل قصة حياة المواطن المصري البسيط الذي حرم نفسه من لقمة العيش وترك بيته وأسرته للسفر للعراق، والمؤسف أنه عندما وصل المطار في رحلة العودة يقولون له (العملة تغيرت) وتصادر أمواله لحين التحقق من مصادرها.
وكان هذا يمثل امتحانا صعبا لامس فيه (كرم النجار) حقائق كثيرة مثل: ماذا حدث في العراق؟، وكيف هرب المصريون من العراق؟، ثم رصد رحلة الهروب من العراق وصولا لمصر وسط الانفجارات والرعب، والأهم في كل ذلك هو رصد الحصاد الأمريكي وتأثيره حتى الآن، وعلى جانب آخر ناقش (النجار) أيضا في مسلسل (الأصدقاء) قيمة الصداقة الحقيقية من خلال ثلاثة أصدقاء تربطهم علاقة قوية جدا حتى بعد مرور الزمن، وقد عالج (كرم النجار) القضية الفلسطينية بعقلانية وجرأة في مسلسل (السيف الوردي)، حيث يرصد الصراع بين العقل والعاطفة، ولماذا نغلب العواطف على العقل في حياتنا كشرقيين.
وفي معرض حديثه عن مسلسل (الأصدقاء) إخراج إسماعيل عبد الحافظ، يتوقف (النجار) أمام ثلاثة أعمال بقدر من الاحترام مثل (المواطن إكس) فمؤلفه ومخرجه شاب صغير، لكنهم قدموا رسالة شديدة الخطورة والوضوح، والمسلسل الثاني وليس انتاجا مصريا وهو (الجامعة)، والذي يقدم الشباب بطريقة أخرى، والثالث (دوران شبرا) الذي مزج بين الجيل القديم والجيل الحالي، واستطاع أن يحل المعادلة الحقيقية بين الأقباط والمسلمين في حى شبرا والذي يعد معقل أساسي لكثير من المسيحيين، هذه المسلسلات الثلاثة تعتبر تطور حقيقي في تاريخ الدراما المصرية المعاصرة.
للسينما كتب (كرم النجار) فيلم (الصرخة) عام 1991 من إخراج الراحل أيضا (محمد النجار) ، والذي ناقش مشاكل عالم (الصم والبكم) بمهارة بارعة، حيث يواجه البطل ظلم المجتمع من حوله، ويقع ضحية للاستغلال بشتى أنواعه وعبر عن مشاعر وأحاسيس هذه الفئة من المجتمع بمهارة وحرفية شديدة تعاطف معها المشاهد بشكل كبير، فهنا يضع (النجار) الكلمات على الورق، كما يرسم الشخصيات وتطور كل شخصية بوضوح شديد، حيث يكون لديه تصور عام للشخصية وتطور للقصة وتصاعدها الدرامي، فيصنع حبكة لها شكل وهدف، ويضع التصور العام للشخصية، وتطورها ثم يبدأ في معالجة تفاصيل كل جزئية من القصة واضعا التصور العام السابق ذكره أمام عينيه.
وفي هذا الصدد يقول الكاتب الدرامي الكبير: فيلم الصرخة كان تحديا كبيرا لي في كيفية كتابة سيناريو لإناس خرس، كانت الفكرة في البداية تكاد تكون مضحكة، فكيف أكتب حوار لإناس لايتكلمون؟، لكني الذي شجعني هو الفنان الراحل الكبير نور الشريف، وقال لي ستكتبه وأعطاني مبلغ من المال وكتبنا عقد الفيلم، وظل معي لمدة ثلاث سنوات وأنا أكتب السيناريو حتى أحضرنا محمد النجار وذهبنا لمعهد الصم والبكم حتى وصلت لصيغة كيف أكتب حوار للصم والبكم.
وفي النهاية يهمس السينارسيت الكبير (كرم النجار) في أذن بعض الممثلين الشباب قائلا: يجب على الجيل الجديد من شباب الممثلين أن يكونوا على درجة من الوعي تسمح لهم بإدراك واقع المشكلات الاجتماعية ومدى ارتباطها بما يعرض من أعمال درامية، وهذا يتطلب ضرورة العمل لاستخدام القالب الدرامي لحل المشكلات الاجتماعية بدلا من المساهمة في ترسيخها، خاصة وأن هذه المشكلات زادت بشكل كبير في مجتماعتنا العربية وبنسب متقاربة، فهناك مشكلات تمس المرأة والطفل وقضايا والبطالة والإدمان وأطفال الشوارع وغيرها من القضايا المختلفة.
ويضيف: أقول كل ذلك انطلاقا من إيماني العميق بأن الإبداع مؤسسة حقيقية وقادرة مهما ظلمت أو تنحت فترة، لكنها في النهاية تؤكد على المستقبل، وهذه تكوينة مصر، وأقول: الإبداع وليس الفن، لأن الإبداع هو الذي يحوى بداخله الفنون والعلوم قاطبة، والإبداع مؤسسة موازية لأي مؤسسة حكم في العالم، فلا يمكن أن نخلع من مصر مؤسسة الإبداع، لأنه ينطوي تحت الإبداع الفن والتفكير العلمي، وكل ماهو ابتكار وإبداع، كل ماهو تجاوز للمحفوظ المصكوك الذي لايمكن أن نناقشه، كل ما يتجاوز ذلك هو إبداع، وأعظم شيئ ما فعله فضيلة الإمام الأكبرالشيخ أحمد الطيب، أنه قال في وثيقة الأزهر أن الإبداع أم الحريات – وهذا كلام أحد المسيحيين – لذا على المسلمين أن يفهوا دينهم، إفهموا شكل الإسلام، هذا شيئ عبقرى أن يقول الأمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر، وليس مواطن عادي إن الإبداع أم الحريات.
ومن جانبا نبعث بأرق آيات الحب والتقدير طالبين الرحمة لقامة مصرية عربية أبدعت في مجال الكتابة الدرامية الصادقة، على جناح إصلاحي يعكس رسالة الفن الراقية في تقدم الشعوب وتنميتها .. فتحية تقدير واحترام لروحه التي عادت لخالقها من خلال هذا الـ (بروفايل) للمفكر والمبدع الكاتب المسرحي والسينارست الكبير (كرم النجار) .. قدس الله روحه الطاهرة النقية التي أنتجت لنا زادا فنيا مخلصا في انحيازه الدائم للمواطن المصري والعربي، ومحبا عاشقا لتراب هذا الوطن.