(ميكروباص الساحل وفيديو أول الخلق)
بقلم : محمد شمروخ
هذا هو النتاج الطبيعى لما يحدث من تشويش للوعى حتى اختلط الوهم بالحقيقة وأنتج واقعا مشوها مشوشا لقيطا نساهم في إنجابه بحفلات الثرثرة الجماعية على مواقع التواصل الاجتماعى بالاستغراق في ممارسة الطقوس اليومية لتغييب العقل، فما حدث في قصة ميكروباص كوبرى الساحل الوهمية، خير دليل على ذلك ولكنه في الوقت نفسه نذير خطر بأننا جميعا قد أصابنا وباء العبث!.
فما معنى أن يبيت مجتمع على اعتقاد بأن سيارة تحمل 14 راكبا على الأقل بالإضافة إلى السائق، يترحمون ويبكون ويبدأون في جمع الأسئلة لطرحها في مارثون جنون جديد، ثم تقع المفاجأة بأنه مجرد (اشتغالة) من مجهول شغلت الفضائيات لمدة أيام.
الحادث وقع في وضح النهار وفوق كوبرى من أكثر الكبارى في كثافة حركة المرور سيارات كانت أم للمشاه يربط بين أكثر المناطق ازدحاما، فمن ورائه الوراق وإمبابة وامتداداتهما الحضرية والريفية والعشوائية وأمامه الساحل وروض الفرج وما خلفهما من كتل ممتدة في عمق الكون القاهري، يعنى مستحيل ألا يوجد شهود ومع ذلك أطلق على القصة (لغز الميكروباص).
نحن يا سادة في أيام ترصد الكاميرات كل خطوة وكل كلمة، إن لم تكن بكاميرات الموبايلات المنتشرة بأيدى الجميع، فهناك كاميرات للطرق والمؤسسات والمحلات ومداخل العمارات ولا يكاد يخلو شبر مأهول بالسكان من المنتجع حتى الكفر ومن الكامباوند وإلى العزبة، من كاميرات متربصة، فلقد يسرت تكنولوجيا التصوير والاتصال رصد كل حركة تحدث في الشارع كبيرة أو صغيرة مهمة أو تافهة، حتى بات الإنسان محاصرا بالكاميرات الراصدة.
ووسط كل هذه الأجواء يأتى من يقول إن هناك حادثا مازال يشكل لغزا!
فلقد ظننا أن تسجيل الواقع مصورا بالفيديو سوف يغنينا عن الشك والحيرة تجاه أى غموض، فإن كان هناك حادث بمثل هذا القدر المفزع تحت وهج شمس في مكان يعج بالحركة يوصف بالغامض، فماذا عما جرى ويجرى تحت الأضواء الخافتة؟!ٍ
ولا تسألى عما يحدث تحت جنح الظلام؟!
لقد ظننا أن هناك كاميرا عملاقة ترصد كل هفوة على سطح كوكب الأرض ثم يأتى حادث مثل هذا ويخرج لنا لسانه ويشعرنا أنا لم نغادر القرون الأولى!
وإن كان من الـ (المرجح بقوة) حتى الآن هو أن الحادث لم يقع، فإن المشكلة في ورود كلمة الـ (مرجح) ومع مرور الوقت وعدم وصول بلاغات اختفاء مع مراجعة كل السائقين من العاملين على خطوط الميكروباصات العاملة بين أحياء الساحل وروض الفرج وإمبابة والوراق، فإن الأمر يزداد تأكيدا بأنه لم يحدث!
لا واالله.. بل يزداد تعقيدا وليس تأكيدا، فقد وقع الشك في القلوب وتبادل الناس رواية قصص خيالية لدرجة العبث عن الحادث، ولن يهدأ بال البعض إلا بالنسيان تحت ضغط توالى الأحداث أو بنزح مياه النيل حتى يتأكد الناس أنه ما من ميكروباص قد سقط أو يظهر بما فيه من جثث استقرت في الأعماق!
لكن السقوط هو سقوط وعي تم العبث به من جانب مجهول أطلق القصة التى تتردد ما بين الحقيقة والشائعة !.
لكننا صرنا أصحاب عقليات مدربة على الشك في كل شيء بسبب موجة تشكيك هادرة أصابت المجتمع فأغرقت ما أغرقته وخربت ودمرت وانتهت من مهمتها ونحن مستغرقين فيما نحن فيه.
فالنتيجة الطبيعية بعد كل ذلك أن نبدأ في الشك في الواقع المحيط، فهناك وسيلتان لهزيمة الواقع الحقيقي وإعادة تشكيله أو الإبدال به واقعا مزيفا أو مشوشا، وأول هاتين الوسيلتين هى المخدرات التى انتشرت بين قطاعات عريضة وصارت أشد شراسة وبأرخص الأسعار بموجب تقدم العلوم الكيميائية التى أخرجت لنا تركيبات أكثر تأثيرا من الهيرويين والماكستون فورت، أما الوسيلة الأخرى فهى التشويش الإعلامى عبر القنوات التقليدية للإعلام أو الإعلام العشوائي المسيطر على السوشيال ميديا.
فهل تدرون ما معنى أن تشك في مثل هذا.. معناه يا صديقي أننا محكومون بالعبث وأن مرجعيتنا لم تعد بالواقع والعقل والمنطق.
لكن لماذا نستغرب هذا مع نجاح حملات التشكيك في كل شيء، فأنت تجد من يجادلك في حقائق طبيعية وتاريخية وعقائدية راسخة بدءا من وجود المسجد الأقصى في القدس وحتى عبور أكتوبر ومن صحيح البخارى وحتى تاريخ الجبرتى، وذلك التشويش نتيجة (منطقية) لما يمكن أن نسميه (الانفلات التنويري) الذي يقوده مجموعة من المغرضين والتافهين والحانقين الذين أربكوا الوعى العام، ليس بسبب اقتحامهم لمجالات لم تقتحم، فما من واقعة ولا معلومة إلا وسبق أن نوقشت من قبل الأولين والآخرين، ولكن المناقشات لم تكن صارخة ولا مغرضة ولا حانقة وكانت تعتمد العقل والمنطق بمعنيهما الحقيقيين وليس بعد إعادة صياغتهما بما يتفق مع العقلية الشكوكية المضطربة التى تضع كل شيء في دائرة الشك، لكن ليس لإخراج الإنسان بالقفز منها إلى اليقين ولكن ليظل العقل الإنسانى دائرا في حالة فراغ لانهائي وتخبط لا محدود.
حقا قد ترى أن هناك فارقا بين الظاهرتين، ظاهرة ميكروباص الساحل، وظاهرة التشكيك العام في التاريخ، لكن ستضيق الهوة بين هذين الظاهرتين عندما تحاول أن تبحث عن جذور حالة العبث والتخبط، فقد اضطرب الوعى نتيجة تكثيف الضربات الإعلامية المتلاحقة بحجة أنه كالصدمات الكهربائية التى تعمل على إفاقة القلب واستثارة الوعى، ولكن ما حدث أن عشوائية الصدمات أصابت عقول البعض بالبلادة، فانعكس ذلك على الواقع المعاش فرأى البعض هذا الواقع من وراء هذا التشويش عبر نافذة وعى مرتبك يشك في كل شيء ويستدل بمقدمات افتراضية للوصول إلى نتائج يحسبها يقينية وفجأة يتحول الفرض إلى بديهة، وبالتالى فالنتيجة الجديدة تصبح كذلك وننسى أن الافتراض غير الواقع ولكننا بسبب انكفائنا على شاشات الموبايلات والتلفيزيونات ليل نهار، لما رفعنا أعيننا عنها اختلط الواقع الحقيقي بما كنا مستغرقين فيه على الشاشات وهذه العملية نعانى منها يوميا، فإذا ركزت للحظات في صورة الشاشة المضيئة ثم حولت بصرك عنها أو أغمضت عينيك قليلا لتستريح، فسترى صورة الشاشة وقد انتقلت تلقائيا وانطبعت في مخيلتك بصورة محسوسة تراها للحظات ثم لا تلبث أن تنجلى عن لا شيء.
ولكن حتى ندرك هذا اللاشيء نستغرق كثيرا من الوقت والجهد والإجهاد العقلى والقلبي!
وهو ذا قد صار كل من افترض شيئا رآه حقيقة، وهو ما حدث بالضبط في قضية ميكروباص الساحل، فقد رأى أحد الأشخاص جزءا مفقودا من السور الحديدى للكوبري، فافترض سقوط سيارة وتخيل أنها ميكروباص من السيارات الأجرة التى لا تهدأ حركتها ما بين ضفتى النيل، ومن خلال هذا الافتراض الوهمى الذي استدل بفقدان جزء من السور، توصل إلى ضرورة أن يتحقق تصوره إذ لا يمنع أن يكون السور قد كسر بسبب سقوط سيارة اصطدمت به وهو افتراض لا يرفضه العقل، وبالتالى فقد حكم هذا العقل بحتمية سقوط سيارة في النيل ومن لا يصدق ذلك فقد رفض حكم العقل وسلم نفسه للأوهام!
أرأيت؟!
هكذا يتم تربية عقول الأجيال الناشئة على هدى الميديا العشوائية بما تبثه من مواد تعمل على زعزعة الوعي حتى جعلوها هى المرجع الذي لا شك فيه ولن تعدم شابا يعلن إلحاده لأنه لم يعثر على شبكة الإنترنت على فيديو بداية خلق الكون، وبالتالى فما يبث على مواقع الشبكة العنكبوتية هو الحق وما لا يعثر عليه محرك البحث (جوجل) فلا وجود له وهو الوهم المحض ولو إلى حين!.