كتب : محمد حبوشة
تتعدد طرائق التأثير الدرامى – وبالمثل تتنوع وظائفها – بتعدد القوالب الدرامية؛ فمن وظيفة التطهير – من عاطفتى الخوف والشفقة – قديما، إلى التسلية والترفيه حديثا، حتى ولو كانت على جناح التطرق لمعالجة موضوعات العقد النفسية والاضطرابات العصبية، على أن الأهداف المعلنة كثيرا ما تخفى فى طياتها دوافع أخرى خفية، إلا أن تعلل صناع الدراما بأنهم إنما ينقلون الواقع بكل سوءاته! ليس لهم بعذر؛ فبعد مقارنة سريعة بين أسلوب الحوار فى المسلسلات الأمريكية المهمة، ونظيره فى الأعمال الدرامية العربية، نجد المستوى الفنى لغير قليل من حوارنا الدرامى يكرس لمزيد من الحشو والثرثرة لصالح تسخين المشهد بالعنف اللفظى والمادى، ورفضنا لهذا لا يعنى التخلى عن الشرط الفنى الذى يفترض القيام بجهد إبداعى وذهنى.
وهو ما يأتي على العكس تماما كما جاء في مسلسل (60 دقيقة) الذي ينتمي لما يسمى بـ (السيكودراما)، ويبدو من خلاله أن المرء أو (البطل) يبدأ فى إدراك أن الحقيقة التي يعيش فيها قد لا تكون حقيقة بالنسبة لشخص آخر، وأن هذا هو مصدر الصراع بين الأفراد، والطريقة الرئيسية لتخفيف بعض الأذى فى تباين هذه الحقائق هى أن ندرك أن ما يتعامل معه كل منا هو (إدراكنا الذاتى) لهذه الحقائق التى غالبا ما تكون مفككة، ولا يبدو الذكاء والفطنة فى مسلسل السيكودراما (60 دقيقة) إلا نوعا من الفخاخ التي يوقع فيها البطل ضحاياه بطريقة ذكية.
صحيح أنه في الدراما النفسية، يعيد جميع المشاركين أنفسهم كتابة النص في عملية تطوير الحبكة ولا يشكون في ما قد يؤدي إليه هذا، لكن وفقا لكتاب أرسطو (فن الشعر) الذي أصبح بمثابة قانون للأعمال الدرامية، لأنه لم يكتب الا استنادا إلى الأعمال الدرامية التي ظهرت في عصره، فإنه يشترط وجود ثلاث بنى للمسلسل الدرامي ـ التلفزيوني وهى: بنية التوتر وبنية الفضول وبنية المفاجأة، وهى كلها عناصر تبدو واضحة جدا في مسلسل (60 دقيقة)، فعلى مستوى التوتر نجد (الدكتور أدهم نور الدين/ محمود نصر) في مشاهده مع (والدته/ سوسن نصر) يكشف عن طريق المواجهة عن حجم التوتر الذي يعترية باعتبار أنها الوحيدة التي تعرف انحرافاته السلوكية بحكم التربية، أما الفضول فيبدو في شخصية زوجته (ياسمين/ ياسمين رئيس) في سعيها الدؤوب لاكتشاف حقيقة مرضه النفسي وحاولة تخليص الناس من آثمه، والمفاجأة جاءت في الحلقة (9) الأخيرة حينما باغت (ياسمين أدهم) بضربات على رأسه أفضت إلى موته غارقا في دمائه واعترافها بفعلتها بأعصاب باردة ما أدى بها إلى حبل المشنقة.
وربما لدينا هنا فرصة للبحث عن حقيقة وظيفة النقد الاجتماعى للدراما، على طريقة (لغة جلد الذات) بتقديم رؤية نقدية لكل ما يكتنف المجتمع من إشكالات، ومكاشفة أنفسنا بحقيقة ما انزلق فيه مجتمعنا من أخطاء، ووقع فى براثنه من مثالب على المستويات كافة؛ أخلاقية واجتماعية وثقافية (الدكتور أدهم نموذجا)، بيد أن عددا من النقاد يتشككون بشأن آليات تلبية الدراما التليفزيونية لهذه الوظيفة، ويتساءلون: إلى أى مدى يمكننا تلقى ما تقدمه الدراما كما لو كان إغراء بالنماذج السيئة أكثر من كونه تنفيرا منها؟!، لماذا يولع فنانونا بتقديم الشرائح المرذولة طول الوقت كما لو كانوا يعيشون فى مجتمع أحادى النمط؟!، والحق أن خطورة كل هذه التساؤلات وتلك التحفظات تتعاظم إذا أخذنا فى اعتبارنا ما احتلته الدراما التليفزيونية من مكانة متميزة بين أكثر المواد جاذبية على شاشات القنوات التليفزيونية.
وإذا علمنا أن الدراسات الميدانية التى تعرضت لجمهور الدراما تؤكد أن هناك خمسة عوامل أو دوافع أساسية لمشاهدة الدراما التليفزيونية؛ وهى دافع التعلم واكتساب المعرفة، ودافع التعود، ودافع التسلية والاستمتاع، والارتياح، ودافع التفاعل، فإن الدراما النفسية من نوعية (60 دقيقة) تستخدم كوسيلة من وسائل العلاج النفسي كممارسة فردية (الدراما الفردية) وفي عمل جماعي، وتتضمن طريقة الدراما النفسية استخدام التواصل اللفظي والتفاعل غير اللفظي، وتعتمد الجلسة على لعب العديد من المشاهد التي يمكن أن تصور، على سبيل المثال، ذكريات المريض النفسي عن بعض الأحداث الماضية، وبعض المواقف غير المكتملة، وأحلامه أو تخيلاته، وما إلى ذلك، كما حدث مع غالبية الحالات التي كان يعالجها (أدهم) مستغلا ضعفها وانهيارها في إقامة علاقات جنسية غير شرعية، أفضت في بعضها إلى الانتحار.
وقد لفت نظري تلك المبارة الرائعة في الأداء بين كل فريق العمل (طوال الحلقات التسع)، لكن اللافت والمثير للانتباه أكثر هو الطريقة التي يقدم فيها النجم السوري (محمود نصر) نفسه في العمل بشخصية (الدكتور أدهم)، ذلك السفاح المريض نفسيا، والذي هيئ له مرضه النفسي أن لا يمنعه أي شيء عن تحقيق رغبات الجنسية المنحرفة، بكل ما يملكه من دهاء وبردو أعصاب يحسد عليها، حيث يلعب (محمود) على أوتار الشخصية ويعيش معها كأنها جزء منه، فيبرع في أدائها إلى حد وصلت فيه الحكاية لإبراز أدق تفاصيلها من قسمات الوجه وعروقه النافرة في وجهه المتجهم رغم ما يعلوه من ابتسامة ساحرة ملئها الحقد والغضب، وصولا لطريقة الكلام (بلهجة مصرية متقنة) خاصة في لحظات الانفعال التي توقع أعتى الممثلين في شرك كبير الجديث بلهجته الأصلية، وانتهاء بردود الأفعال الجسدية والحسية التي تجعل المشاهد يدرك أنه أمام شخص حقيقي لا ممثل يقدم شخصية ويمضي.
لقد تعامل (محمود) منذ اللحظة الأولى مع (أدهم) بطريقة التقمص المتقن، وحول الشخصية بتكنيكه الخاص وبراعته التي عهدتها عليه في تطوره من عمل لآخر، واشتغل على التفاصيل ليحولها إلى شخصية من لحم ودم، ويبدو جليا عمله على تفاصيلها ودراسة تاريخها النفسي وتصرفاتها الآنية، بحيث بدا واضحا للجميع زيف مشاعره تجاه زوجته الأمر الذي حير رواد مواقع التّواصل الاجتماعي عبر ردود الأفعال التي أجمعت على أن (محمود نصر) لفت الأنظار ببراعته كممثل يقدم الشخصية بكل تفاصيلها، ويعمل على توسيع مساحات اللعب بأدائها عبر جوانب مختلفة، منها النفسية والجسدية وصولا إلى طريقة الكلام وتقاسيم الوجوه، ومرورا بنظرات العيون التي كانت تتحدث عن الحالة الّتي تعيشها الشخصية.
المزاوجة بين ذروة الشخصية وفهم المشاهد لعوالمها وسلوكها وردود أفعالها، عادة ما يكون مهمة السيناريو بالدرجة الأولى، وهو ما نجح فيه إلى حد كبير (محمد هشام عبية)، وذلك بتحديد ذروات الحبكة الخاصة بشخصية (أدهم) وسخر بقية المشاهد للتمهيد لهذه الذروات وتبريرها وتعزيز قوى الخصومة التي تجعل من تلك الذروات لحظة انفجار حقيقية بالنسبة للشخصية، ولحظة كشف عظمى بالنسبة للمشاهد، و ربما يبدو من الصعب العثور على ما هو إيجابي في داخل (أدهم) وفق البناء الحكائي للمسلسل، إلا أن محمود نصر أوجد الفكاهة في سلوك الشخصية ولغة جسدها، ولاسيما عبر عضلات وجهه النافرة، وانطلاقا من وعيه لطبيعة شخصية (أدهم) المضطربة نفسيا، جعل تلك الفكاهة مضبوطة بتوقيت إثارة حفيظة المشاهد من سلوك هذا الطبيب النفسي الغارق في شهواته، لذلك بدت فكاهة (أدهم) ثقيلة .. لاسيما أنها غالبا ما تظهر على ركام خوف يبثه أو موت يرتكبه بيده أو بطريقة غير مباشرة.
وفي النهاية .. لا يمكن الجزم كم كان هذا الأداء الذي قدمه محمود نصر في هذا، مشاهد متعددة من الداخل إلى الخارج صدى للنص الدرامي، فقد نحتاج لقراءة المشهد مرارا وتكرارا لبيان ذلك، ومعرفة كيف كتب لنجزم بذلك، إلا أنه بكل الأحوال يبقى خلاصة بحث وخيال ممثل مبدع، واعتمادا على هذا الخيال.. كان الممثل البارع في كل حلقة يعيد تشكيل حياة الشخصية، ليس خلافا لما أراده النص، وإنما بأسلوب يجعله أكثر مصداقية وجاذبية، وبذلك صار (أدهم) تلك الشخصية الشريرة موضع اهتمام الجمهور رغم نفوره منه، وفي هذا الاهتمام ما يضمن إيصال رسائل العمل إلى المشاهد، ولننتبه أن الاهتمام هنا يوفر فرصة لكشف عوالم الشخصية من الداخل وما خفي من سلوكها، لا يعني أبدا تعاطفا مع هذه الشخصية، فما من أحد يتعاطف مع سادي ومريض نفسي مثل (أدهم).
الحقيقة أن كل حلقة كانت تحتوى على أكثر من مشهد (ماستر سين) من فرط براعة (محمود نصر) في الأداء الاحترافي الجاد، لكن أرى أن لقاءه بزوجته (ياسمين) قبل أن تهش رأسه بضربات متتالية كان هو الأكثر قوة بالنسبة لي عن غيره من المشاهد حيث اعتمد على التكثيف وإظهار قدرات (نصر) في التعبير والإيحاء بطريقة احترافية مبهرة كما جاء على النحو التالي:
يبدأ أدهم الحديث قائلا : احنا بفطرتنا كبشر بندور على الاستماع .. بس مانعرفش إن اللذة في الألم .. وان المتعة في الوجع .. وان مفيش أحلى من النشوة اللي بتيجي من وسط الآهات (love speel) المشكلة ان فيه كتير من الستات متعرفش إن دي رغبتها الحقيقية .. أو بتدفنها جواها لاعتبارات كتيرة زي الخوف من الناس .. من نفسها .. أو خوفها من تغيير حياتها حتى ولو كانت حياة بائسة ومملة ومفيهاش أي لذة.
ويستطرد أدهم : وأنا مهمتي كانت اني أحررها من الخوف .. أخليها تشوف جواها الراجل اللي نفسها تفضل نايمة في حضنه طول الوقت .. حقيقي مش عارف ممكن يجيي في دماغ حد ان أنا أكون مجرم .. أنا مجرم .. أنا .. انتوا مجرمين على فكرة .. مجرمين في حق نفسكم علشان بتحرموها من الجنة .. الجنة اللي أنا بس قادر أديهلكم .. أنا الدكتور أدهم نور الدين.. أنا كنت الدواء اللي كلكم محتاجينوه .. ولو حد فيكوا اتأذي أو اتوجع عادي على فكرة .. ماهو كل دوا وله أعراض جانبية
أدهم بتوتر : كل واحدة جاتني العيادة عملت ده بإرادتها .. كل واحدة .. أنا في حياتي ما أجبرت واحدة على أي حاجة .. أنا كنت الحلم اللي عايزين تحققوه .. السر الغامض اللي جواكم .. كلكم كنتوا عايزين تكونوا تحت رجلين أدهم نور الدين وأولهم انتي .. انتي بالذات خدتي كتير .. خدتي اسمي ومكانتي وشهرتي وفلوسي .. خدتي أهم حاجة.
يدير وجه قائلا : تعرفي فيه نوع من العناكب الأم فيها بتخلي ولادها ياكلوها كأول وجبة لهم في الدنيا .. بتموت .. فيه حد ممكن يشوف ده انتحار؟! .. أنا عن نفسي باشوف ميزة: انها عرفت بفطرتها كأم ان وجودها حيكون عقبة في حياة ولادها ودي مجرد حشرة مش بني آدم .. أنا عارف ان جواكي حاسة انك أم سيئة .. وانك بتقول ان حياة مروان حتكون أحسن لو انتي مش موجودة وأنا فيها .. وان وجودك في حياته حيدمره .. عارف .. عارف انتي بتفكر في ايه .. بس متقلقيش.
يطالبها بمد يدها ثم يمسك بها قائلا : لسه في ايدك تخلي حياة مروان أفضل بكتير .. وصدقيني لو عملتي كده مروان حيفضل يفتكرك طول عمره .. وأنا مستحيل أنساكي .. مستحيل.
الكاميرا تقترب من وجهه أكثر وهو يقول : أوقات كتير لازم نضحي بنفسنا علشان أقرب حد لينا يعيش .. زي العنكبوتة .. دا القرار الوحيد المناسب اللي لازم ناخده ومنترددش في تنفيذه لحظة واحدة.
ينظر في ساعته الرقمية ويقول : أنا تأخرت..
تأخذ ياسمين قطعة من الرخام من على مكتبه وتنهال على رأسة ضربا حتى تهشمه ويموت على أثر تلك الضربات .. ينتهى المشهد القاسي ليطرح أسئلة عن مبررات قتل أدهم مهما كانت جرائمه، لذا تقابل بحكم الإعدام شنقا.