كتب : محمد حبوشة
مما لاشك فيه أن الدراما التليفزيونية تعد قوة ثقافية مؤثرة فى المجتمع لا يستهان بها، وذلك بسبب انتشارها الواسع وقدرتها على الإبهار واستيلائها على أوقات المشاهدين، فالرسالة الدارمية لها قدرة كبيرة على تخطى الحواجز الأمية وصولا إلى الجماهير، حيث تنفذ الرسالة الدرامية إلى جماهيرها وتؤثر فيهم بإسلوب غير مباشر، كما أن الدراما التليفزيونية تساهم في عملية البناء القيمى للإنسان بشرط أن تشتمل على مضمون جيد وهادف يعكس واقع القضايا والمشكلات في المجتمع الذى تقدم فيه، ومع ذلك فمن خلال السنوات القليلة الماضية كانت الدول العربية قد تخلت عن دورها المتميز فى إنتاج الأعمال الدرامية المتميزة والاستعانة بكبار الكتاب والمخرجين فى نشر الثقافة الرفيعة والارتقاء بمستوى الذوق العام، وتزويد المشاهدين بالفكر الراقى، وبث القيم و السلوكيات الإيجابية المدعمة للمسئو لية الاجتماعية للقائمين على العمل الدرامى.
والمتأمل في واقع الشاشات العربية اليوم لابد أن يلاحظ تطورا كبير، وأيضا نجد أن المسلسلات التركية – التي كانت قد سدت الفراغ العربي – بدأت تنحسر بعد غزوها لأكثر من عشر سنوات، وهى التي كانت قد أضحت ظاهرة شعبية اجتاحت مجتمعاتنا خلال عقد من الغزو فقد شرعت الفضائيات العربية بتقديم أول عروض المسلسلات التركية على شاشاتها عام 2006، في تلك الفترة كانت نسبة المشاهدة لهذا النوع الجديد من المسلسلات نسبة ضئيلة مقارنة بغيرها من الأعمال الدرامية المصرية و السورية خاصة، ثم سرعان ما كسبت الدراما التركية نصيبها من المشاهدين لتلاقي رواجا منقطع النظير مع عرض سلسة (نور) بداية سنة 2008، فقد دخل هذا المسلسل التاريخ بأكثر من 85 مليون مشاهد في منطقة الشرق الأوسط و شمال إفريقيا ليصبح أول مسلسل تركي يحقق نجاحا مماثلا، الأمر الذي لم يكن يتوقعه الممثلون و المخرج و طاقم العمل بأكمله.
ومن الواضح لنا من خلال المتابعة والتحليل بعناية فائقة أن (الحب) هو المكون الرئيسي لكل مسلسل أو أغنية ناجحة، ذلك أن الثقافة الجماهرية هى بالأساس ثقافة تخاطب العاطفة: لا يمكننا أن ننكر أن أحدنا قد وجد نفسه في فترة ما مدمنا على أغنية عاطفية أو فلم رومنسي، إن الحب – سواء اعترفنا بذلك أم لا – هو هاجس كل واحد فينا وهذا ما يفسر نجاح القائمين على صناعة الثقافة الشعبية (نعم ، إنها صناعة) في استغلال ذلك لصالحهم، و تحويل الحب إلى موضوع نمطي جاهز للاستهلاك، كما أنه موضوع مربح للغاية، وبالعودة للحديث عن الدراما التركية، سنجد إن المسلسل التركي كان يقدم وجبة رومانسية وجرعة من الفرحة المؤقتة للنساء العربيات اللاتي تسحرن بأبطال المسلسلات التركية لأنهم مثال لفارس الأحلام: (الوسامة و الرجولة و الرومنيسة) الثالوث القاتل.
وإن دل هذا على شيء فهو يدل على مدى افتقاد المرأة العربية (للحب)، وهنا أقصد الحب حسب المقاييس المثالية الجديدة، لتجد متنفسا فى مشاهدتها للمسلسلات التركية التى تجعلها تنتقل إلى عالم آخر تتشابه فيه تقاليدهم مع تقاليدنا العربية، لكنه خال من مشاكلنا العربية: التوليفة المثالية لواقع بديل ومواز، ولعل أسباب نجاح الدراما التركية متعددة، فالإعلام العربي ساهم في صناعة هذه الظاهرة و استغلها لرفع نسب المشاهدة، صار المشاهد العربي أمام واقع لا مفر منه، أمام ضعف الإنتاج الدرامي العربي حبيس الموسمية وكثرة (العرض و الطلب) على الإنتاج التركي الضخم الممتد على كامل السنة، ولابد من القول أن المسلسلات التركية قدمت للشعوب العربية باقة من الأفكار والموروثات والتقاليد المشتركة، لكن التسليم بأن المسلسلات التركية قد غيرت في جوهر المجتمع العربي هو أمر مبالغ فيه إلى حد كبير.
ومع ذلك فإن من أهم أسباب انتشار هذا النوع من المسلسلات هو الطابع الاجتماعي الغالب عليها الذي أكسبها إقبالا جماهيريا كبيرا، حيث ان المتابع لهذه الدراما يجد نفسه مدمنا عليها و راغبا في كل ماتحتويه، حيث لا يقتصر الأمر على الحب!، بل إن عرض هذه المسلسلات أدت إلى تنامي حركة السياحة العربية إلى تركيا، وظهرت موضة الأسماء التركية للمواليد الجدد، وغزت التصاميم التركية الأسواق (خاصة تلك المستوحاة من المسلسلات التارخية)، و إليكم المفاجأة :
من أكثر سلبيات المسلسلات التركية إرتفاع نسب الطلاق في المجتمع العربي!، حيث أن التصور المثالي لعلاقات عاطفية رومنسية و نهايات سعيدة ، جعل المرأة العربية تبحث عن تلك المواصفات المبالغ فيها لفارس الأحلام ، الشيء الذي دفع البعض منهن لتقديم دعاوي الطلاق ضد أزواجهن بدعوى (عدم الرومنسية)، ومن ضمن تلك الظواهر السلبية أيضا أن الربح المادي هو الذي كان يسير معظم شركات الإنتاج، و ظلت تلك العلاقة الجدلية تحكم الواقع في ظل غياب بديل، مما يعني تواصل تدفق الإنتاج الدرامي التركي على الأسواق العربية، لكن شركات الإنتاج العربية استطاعت التغلب على كافة المشكلات مؤخرا ولجأت إلى إنتاج نوعيات من المسلسلات النابعة من قلب البيئة العربية والتي تعكس الواقع بحلوه ومره.
وهو ما تجسد في عدة مسلسلات سواء في مواسم رمضانية أو غيرها من المواسم، وأذكر منها على سبيل المثال وليس الحصر (سراي عابين، ممالك النار، أبو العروسة، الطوفان، البيت الكبير، عروس بيروت، سر، 2020، الهيبة ، مافي، الباشا، حارس القدس، على صفيح ساخن، دقيقة صمت، شارع شيكاغو، العاصوف، أم هارون، فضلا عن سلسلة حكايات (ليه لأ)، وغيرها من أعمال ذات طابع وطني تنافس (قيامة أرطغرل وأنت وطني، وغيرها من أعمال ركز عليها أردوغان لتنمية الشعور بالقومية التركية مثل (الاختيار، هجمة مرتدة، القاهرة كابول، غسق) وأعمال أخرى تتمتع بالإثارة والتشويق مثل (سر، لعبة نيوتن، خيانة عهد، للموت، الساحر، هوس) وعلى الصعيد الكوميدي (بـ 100 وش، زاهي نجيب زركش، دولار، صالون زهرة) والأخير جاء في 15 حلقة غاية في العذوبة.
وبعد أن حققت المسلسلات التركية نجاحا لافتا على المستوى العربي واستطاعت في السنوات قبل الأخيرة أن تستقطب جماهير غفيرة؛ نظرا لمستواها الجيد واعتمادها على مناظر طبيعية لافتة وسيناريوهات ذات حبكة درامية معقدة ومثيرة وأداء متميز لنجومها، فضلا عن الدبلجة الرائعة لنجوم الدراما السورية واللبنانية الذين تخصصوا في الأعمال التركية، وأيضا لقربها الدرامي من طقوس وعادات المجتمعات العربية والإسلامية، إلا أنه لم يعد للدراما التركية موطئ قدم حاليا على الشاشات العربية، رغم التوسع في الشاشات الفضائية العربية خاصة الفضائيات المتخصصة في الدراما، بل نجحت المسلسلات العربية بتنوعها وإبهار صورتها التي عكست جمال الطبيعة العربية في إثبات تواجدها .. رغم أنه وقت اندلاع الأزمة التركية المصرية حاولت القنوات المصرية مقاطعة المسلسلات التركية إلا أنها لم تفلح في سعيها.
ولا شك في أن الدراما العربية استطاعت خلال السنوات الثلاثة الماضية، أن تسد الفراغ الدرامي العربي وضعف الدراما العربية وقله المنتج منها وغياب المنافسة العالمية، وإلى وقت قريب كانت الدراما التركية موضة لم يراهن صناع الدراما العربية على انحسارها في ظل زحفها الكبير على غالبية القنوات الفضائية المحلية، لكن التفوق الملحوظ الذي شهدته الدراما العربية شل حركتها وأوقف تمددها خلال السنوات القليلة الماضية على جناح أعمال غاية في الروعة والإبهار على مستوى الشكل والمضون، حتى باتت الدراما التركية تتوارى شيئا فشيئا إلى آخر صف المشاهدين العرب من جانب الشباب الذي التف حول الأعمال الوطنية ومسلسلات الإثارة والتشويق في مصر وسوريا ولبنان والأردن وليبيا وتونس والجزائر التي غيرت من نمطها التقليدي وخاطبت لغة العصر بأحدث تقنيات صناعة الدراما الحديثة.
ومع كل ما سبق من تفوق عربي في مجال الدراما التليفزيونية إلا أن غالبية المسلسلات المصرية والعربية المنتجة حديثا سواء للفضائيات أو المنصات الإلكترونية ماتزال تحمل في طياتها ألفاظ متعدية ومشاهد خارجة عن الآداب العامة، ناهيك عن الإيحاءات الخادشة للحياء والعلاقات غير الشرعية التي ورثت هذه السلبية من الدراما التركية، و جميعها أمور شاهدناها من خلال دراما رمضان أو غيرها من المعروضة على المنصات الرقمية والمواسم الأخرى على الفضائيات، وللأسف يلجأ إليها صناع الدراما الذين يوطفون هذه التفاصيل بغرض جذب المشاهدين، بغض النظر عن خدش حيائهم وإفساد صومهم، وكأنهم وجدوا في تلك الأساليب الرخيصة التي انتهجتها السينما قبلهم طريقة مثلى لتحقيق أعلى نسب مشاهدة ونسوا أو تناسوا أن مسلسلاتهم تقتحم البيوت ويشاهدها كل أفراد الأسرة.
وهذا ما يجعلنا نتساءل عن أسباب غياب الرقابة التلفزيونية أو هشاشتها في التعامل مع تلك المسلسالت التي أثارت استياء غالبية مشاهديها، حيث علق البعض بأن الرقابة تركت الكثير من المحظورات تمر في هذه المسلسلات في حين أنها تبدي تشددا تجاه أعمال أخرى سينمائية وتلفزيونية وكانت حريصة على أن تكون أكثر تدقيقا فلماذا هذا التميز؟، وهل المعلن والموسم التجاري ومنتجو الدراما التلفزيونية ضغطوا على الرقابة وأرخوا قبضتها عن أعمال معينة، حرصا على رفع معدلات المشاهد؟، ولذا وفي هذا الصدد أيضا يجب أن نحمل بعضا من كتاب الدارما جزءا من هذا الخلل لأنه يجب عليهم عندما يريدون أن يقدموا نماذج سيئة لكي يتعلم منها المشاهد ولا يجب أن يلجأوا إلى أساليب شيطانية في المعالجة الدرامية، ولابد من وجود مسئولية اجتماعية من جانب الكتاب لما يتلقاه المشاهد منهم من أعمال مسيئة.
وأخيرا وليس آخرا: على صناع الدراما التليفزيونية إدراك مسئوليتهم في تسخير الدراما في خدمة المجتمع، وهذا لن يحدث بالتركيز الشديد علي النماذج التى تحمل القيم والسلوكيات السلبية والتي يتم توظيفها في العمل الدرامي من خلال إطار جذاب لا ينفر المتلقي منها، بل ربما يتعاطف معها، ومن ثم لابد لهؤلاء الصناع من مراعاة الفكرة الرئيسية للعمل ويكون ذلك من خلال الحبكة المصنوعة بدقة الحبكة، تلك التي تحكم حركة الصراع في العمل الدرامي، والعرض، وتصاعد الأحداث، وذروة الحبكة، والحل، وينبغي أن تتصف الشخصيات والأبطال الموجودين في العمل الدرامي، بصفات حميدة حتى لو كانوا يقومون بأدوار شريرة، وذلك كله من خلال لغة نظيفة تحمل مضمونا هادفا، ولاشك أن الموسيقى تلعب دورا مهما في الأعمال الدرامية؛ حيث تزيد الإثارة والتشويق، وهذا ما يتطلب مراعاة الجودة في اختيارها كي تكون صادقة ومعبرة عن جوهر العمل الدرامي.