كتب : محمد حبوشة
تعد لغة العيون من أهم أدوات الممثل التي ينقل من خلالها أحاسيس ومشاعر الشخصية التي يجسدها، وتظهر قدرة الفنان التمثيلية بشكل احترافي حينما يجسد دورا يفتقد لهذه اللغة، فالعين مرآة النفس، تعكس الحب، البغض، الهدوء الاحتراز، الرؤية، الحزن، الفرح، الأمل، اليأس، الرضا، السخرية، الحيرة، التمنع، إن الكلمات التي تقولها المرأة بعينها تحتاج إلى عدة قواميس، لأن هناك لغة خاصة في عينيها وفي كل إيماءة تشير بها، فالعيون هى مرآة الكلام، والعيون عندما تتكلم بدون كلمات تبدو الحقيقة في العيون، والكذب وراء العيون.. العيون لغة الاتصال غير اللفظي عندمـا تتخاطب العيون تكون أبلغ من أي كلام، العين تعشق قبل القلب أحيانا، والعيون نوافذ إلى الروح والجسد، والعيون الجريئة عالم من السحر والخيال فحديث العيون يكشف الكثير من الأسرار، والعين في النهاية هى بريد القلب، وعين المرء عنوان قلبه.
لذا تعد شخصية (الكفيف) تحديا كبيرا لأى ممثل مهما كانت مهارته وأدواته في التعبير الطبيعي عـن الانفعالات ويشمل جميع الأمور الفطرية غير المقصودة التي تصحب مختلف الانفعالات السارة والأليمة، كالصراخ والضحك، والبكاء، واحمرار الوجه وارتعاد الجسم، وما إلى ذلك من الظواهر الفطرية التي تبدو بشكل غير إرادي في حالات الفرح والحزن والألم، والفنانة الكبيرة (صابرين) خاضت هذا التحدى الكبير في تجسيدها لشخصية (ضريرة) فى حكاية (1%) ضمن حكايات مسلسل (زى القمر)، واستطاعت أن تبث من خلالها رسالة مفادها ألا تفقد الأمل والتفاؤل فى الحياة حتى لو كان نسبته (واحد فى المية)، وبذلك تنضم صابرين لقائمة النجوم الذين جسدوا شخصية فاقدى البصر ببراعة مطلقة من خلال تجلياتها المبدعة كما جاء في تجسيدها لسخصية (أمل).
قدرات هائلة على التكيف أبدتها (صابرين) من خلال عملية المرونة العصبية التي أبدتها في أدائها العذب مع قدرة المخ على التكيف بشكل طبيعي، حتى في حالة كونها مصابة بعمى عميق، فإن مخها سرعان ما يعيد توليف مكوناته بطريقة تستخدم المعلومات المتاحة لها حتى تتمكن من التفاعل مع البيئة بطريقة أكثر فعالية، لذا لعبت (صابرين) شخصية (أمل) بعذوبة منقطعة النظير، وقد بدت منذ إطلالتها الأولى كبرتقالة طازجة تشتم فيها أريج عطرها الفواح في خريف هذه الأيام برونق وبريق آخاذ في كل مرة تطل علينا فيها، وقد برزت بأدائها لدور الكفيفة ممثلة من وزن ثقيل، تترك أثرا يدوم طويلا مع كل شخصية تؤديها، وهو ما ينم عن حب الشخصية في العمل من جانبها، وهو الأمر الذي يحقق – التقمص أو الاندماج – بين نفس الممثل والشخصية التي يمثلها، وهو ما يقودها في نفس الوقت إلى التمييز بين كل ماهو عرضي غير هام وبين ما هو يشكل جوهر الانسان ذاته، وهذا الجوهر الذي يبنى عليه الفعل المتداخل في الدور، ويبدو أن التمثيل لدى (صابرين) يأخذ بحرفية عالية طريقة التقمص والتخيل في حبل القيادة في الوعي وفي الإيهام.
مشاهد شخصية (أمل) كانت بمثابة واحة أمان حقيقية تبعث الدفء والحنو على كل من حولها من الشخصيات النسائية الأخرى (الأم – الأخت – الطبيب المعالج، وغيرها من شخصيات تحيط بعالمها المظلم) بحيث ظلت طوال الوقت بمثابة (عمود الخيمة) الذي يظلل بمشاعره الفياضة على الجميع، وحائط الصد الذي يقى بعضهن من الشطط وإلحاق الأذى، ربما تعرضت لمواقف قاسية كالطلاق جراء رفضها إجهاض نفسها والتخلص من طفل سيحمل جيناتها التي تحكم عليه بالعيش في الظلام الذي تعانيها هى نفسها، لكن عبق أداءها وعذوبة حديثها لم يغادر ذاكرة المشاهد لحظة واحدة حتى الوصول لخط النهاية السعيدة بنجاح عملية إعادة الإبصار لابنها، الأمر يجعلني أقف حائرا أمام عمى بصيرة بعض المخرجين والمنتجين عن هذه الممثلة القديرة عن جدارة واستحقاق. في لعب الشخصيات المركبة.
ومن هنا يبدو لي طبيعيا جدا براعة صابرين في دور الكفيفة، والتي اعتمدت من خلاله في أدائها على الرشاقة والحيوية في الإلقاء السليم، فضلا عن الإيقاع السريع والتنوع الصوتي، والنكات والمفارقة الكوميدية اللفظية والحركية، وتدريبات حركية مذهلة، وعلى الرغم من تقيدها بفعل عمى العين إلا أنها لاتفتقد لبصيرة أخاذة تلفت الأنظار، ومن هنا فقد تنوعت في محاولات العزف على الأوتار الإنسانية طبقا لمواصفات الشخصية، وهكذا اعتادت النحمة (صابرين) الارتجال الحر لمشاهد من الحياة اليومية في لعب الأدوار عبر الارتجال الجسدي والانفعالي، من خلال ارتجال فكر دون حوار، والارتجال المركب فردي، وجماعي، والأخير تبدو فيه بارعة وهى ترتجل كلمات وجمل وانفعالات والباقون يجسدون الحركة والانفعالات.
معلوم أن مكونات الممثلة المتميزة (صابرين) في الأداء تتوزع بين المرونة الجسدية والصوت المعبر والحركة والتعبير والخيال والإحساس بالصدق في تقديم الشخصية السينمائية أو التليفزيونية لخلق صورة مؤثرة كي تستطيع تحصيل التأثير الناجح على المتلقي، فعندما يقدم الممثل أداءا متماسكا لابد وأن تكون هناك تجربة مستقاة من دراسة عميقة للشخصية تجعله يتفهم كل مفاهيم التمثيل ونظرياته، وحتى يستطيع أن يقدم دوره بمساعدة المخرج الناجح بعناصر مؤثرة ومثيرة من خلال معرفته لأبعاد الشخصية وتحليلها كالبعد الطبيعي والنفسي والاجتماعي لابد أن يتمتع أداءه بمهارة مقنعة للمتلقي، ولابد أن يعرف الممثل الشخصية التي يحاول أن يقوم بها أو يحققها على شاشتي السينما والتليفزيون كدأب صابرين مع كل الشخصيات التي تقدمها.
ولقد بدت صابرين في تجسيدها لشخصية (أمل) على أنها تعرف أين موضع شخصيتها بالنسبة للظروف الزمانية والمكانية وظروف الشخصية التي تسبق أحداث الشخصيات الأخرى ومواقفها، وهى هنا تستند إلى قاعدة أنه يجب على الممثل أن يكون قادرا على الإفادة من تجربته الحياتية الماضية في تنشيط الذاكرة الانفعاليه لدية ليستطيع اختيار الموقف والانفعال المناسب لدوره في الدراما التي هى عبارة عن حصيله تجاربه الحياتية والارتقاء بها على مستوى جمالي ليؤثر على المتلقي وتساهم في إعطاءه قوة دافعة تساهم في إعادة الخلق وتحديد الأهداف الصغيرة والكبيرة في العمل الفني، وتثبيت الحركات الضرورية كالدخول والخروج والجلوس التي يعتمدها الفعل في المشهد، إلى جانب القيم الجمالية من خلال المجاميع أوالكتل التي تتعامل معها في (اللوكيشن).
وعلى عكس كل نظريات الدراما وتجسيدها لشخصية الكفيف ففي درامتنا العربية نجد أن الشخص الكفيف إما إنه رجل شيخ (بركة)، أو أنه شخص سيئ الخلق والطباع، حاد المزاج، عنيد يرى نفسه دائما على صواب، وليس هذا فحسب بل إن الثقافة المجتمعية صدقت هذا التصور، واستمدت نظرتها عن الشخص الكفيف من الدراما، وهذا التصور للأسف بعيد كثيرا عن الحقيقة ويناقض بعضه بعضًا، لذا فإنها تجاوزت ببراعة أبرز الصعوبات التي يواجهها الأكفاء في عالمنا العربي!، بل إنها نفضت الغبار عن أفكار المجتمع تجاه المكفوفين، بحيث أصبح يراها الناس والمجتمع بأعين منصفة، ويصدقون أن لها ما للآخرين وعليها ما عليهم؟!
في حقيقة الأمر كانت (صابرين) في كل مشهد من حكاية (1%) ضمن حكايات (زي القمر) تؤكد لنا في كل مرة إن هذا الأمر لا يحتاج لتكاتف الجهود على كافة الأصعدة فحسب، ولكن الأهم هو خروجنا نحن المكفوفين من هذه الشرنقة، وتغيير وجهة نظر المجتمع فينا بأنفسنا دون الاعتماد على الآخرين، وأن نؤمن أن من حقنا العيش مع الآخرين دون تقليل منا، أو من دورنا وقدراتنا في هذا المجتمع، ومن ثم أخذت بيد المكفوفين وسندت طوال الوقت ارتعاشتهم وكانت تعينهم على طريق الحياة الشائك، وكأن لسان حالها يقول: من يتضامن معهم ويدعمهم وهم جزء منا ويحتاجون إلينا لنكون عونا لهم في ظروفهم؟ إنها صرخة ألم من يبصرها ومن يبصر آلام هذه الشريحة الكبيرة من ذوي الاحتياجات الخاصة.
خلال الحلقات الخمس من حكاية (1%) سوف نلحظ أن هنالك أكثر من مشهد (ماستر سين)، لكني أتوقف أمام مشهد طلب زواج الدكتور(حاتم/ مدحت صالح) من (أمل/ صابرين)، والذي أدخل السرور على قلبها بعد أن حاولت زميلته إبعادها بدعوى أنه كان بينهما مشروع خطوبة لم يتم بعد، حيث دخل عليها بيتها في ساعة متأخرة من الليل طالبا يدها، وقد جاء المشهد على النحو التالي :
دخل الدكتور (حاتم) على (أمل) في بيتها قائلا: تتجوزيني يا أمل؟! .. ثم أكمل بعد أدرات ظهرها له : على فكرة مش حنعرف نهرب من بعض بعد كده.
أمل : لما أهرب منك دلوقتي أحسن ما تهرب مني بعدين.
الدكتور حاتم : ليه بتقولي كده؟
أمل : مفيش رجل في الدنيا يستحمل يعيش مع واحدة زيي!!.
الدكتور حاتم : ايه رأيك بقى اني مبقتش استحمل أعيش من غيرك.
أمل : الراجل بيتجوز الست علشان تخلي بالها منه.. مش العكس.
الدكتور حاتم : بس ده يبقى رجل أناني قوى.
أمل : ما أني خايفة أكون أنانية .. علشان اتجوز رجل واتسند عليه.
الدكتور حاتم : أنا عاوز اتجوزك علشان أنا وفريد اللي حنتسند عليكي.
أمل بابتسامة حزينة : فريد ؟ .. هى فريدة عارفة انك عندي؟
الدكتور حاتم : فريدة بتتمنى اني أكون عندك حالا.
أمل : أنا خايفة يا دكتور نتجوز.. وبعدين ترجع تندم.
الدكتور حاتم : شكلك انتي اللي حتندمي علشان حتشيلي مسئولية رجل وبنته؟!
أمل : الرجل وبنته دول كانوا أحسن حاجة حصلتللي في حياتي .. من ساعة ما فقدت ابني ونور عينيه.
الدكتور حاتم : ياريتني كنت سجلتلك الاعتراف ده دلوقتي.
أمل : انته عارف يادكتور الحالات اللي زيي بتشوف بس لما بتحلم .. أنا دايما باحلم بيك .. وباشوف صورتك دايما اللي في خيالي !!.
الدكتور حاتم بابتسامة تعكس لمعان عينيه : ياترى شكلها حلو؟
أمل : أرجوك يا دكتور .. أرجوك .. خليني عايشة في الحلم اللي مش حاقدر أحققه .. أحسن ما انته تعيش في كابوس مش حاتقدر تتخلص منه.
الدكتور حاتم : يا أمل أنا وانتي حلم واحد .. حلم جميل جدا وحانقدر نحققه بإذن الله .. مستني ردك؟
ترتسم ابتاسمة فرح وأمل على وجه أمل.
الدكتور حاتم : تصبحي على خير.
أمل وانته من أهله .. !!
عندئذ ينتهي المشهد الذي بث طاقة أمل مبيرة في نفسها، حيث تألق فيه كل من (صابرين ومدحت صالح) بأداء رومانسي أقرب إلى معذوفة جميلة صنعت على أوتار الإنسانية في سموها وعلو شأنها.