كتب : محمد حبوشة
السماء تأتينا أصوات ملائكية حفرت مكانها في ذاكرتنا، وظلت هذه الأصوات تصدح حتى اليوم رغم رحيل معظم أصحابها منذ سنوات طويلة، أصوات خاشعة ترتل القرآن الكريم وتنشد بأرق كلمات المديح، فتحلق بالقلوب إلى أعلى السماء، ومن أجمل هذه الأصوات صوت الشيخ سيد النقشبندي – أستاذ المداحين – ذلك الصوت الملائكي الرنان الذي يأسر قلب كل من يستمع إليه، خاصة في شهر رمضان الكريم وقبل مدفع الإفطار بالتواشيح والابتهالات الرائعة، وهو واحد من أبرز من ابتهلوا ورتلوا وأنشدوا التواشيح الدينية في القرن الكريم، فكانت تنبع من قلبه قبل حنجرته، وكان ذا قدرة فائقة فيها حتى صار صاحب مدرسة ولقب بالصوت الخاشع والكروان.
لم يكن الشيخ سيد محمد النقشبندي مجرد مداح، أو صاحب مجموعة من التواشيح أضحت الأشهر في تاريخ المدح الديني، ولكنه كان صاحب مدرسة متميزة في عالم الإبتهالات، جعلته أحد أشهر المنشدين والمبتهلين في تاريخ الإنشاد الديني، خاصة وأنه يمتلك صوتا رآه أكبر الموسيقيون أحد أقوى، بل وأوسع الأصوات مساحة في تاريخ التسجيلات، وهو واحد من أجمل شيوخ الطرب الذين لم يخشوا أو يرتعدوا من فتاوى (التكفير والانغلاق) بتحريم الفن وبأن الموسيقى والغناء رجس من عمل الشيطان، فقد حفظ القرآن الكريم بموسيقاه وتجويده وترتيله ومقاماته واتسعت حنجرته ليشدو ويمدح بما هو آت من القرآن وجوهر الإسلام.. فليس منا من لم يتغن بالقرآن كما روى البخارى وأحمد وأبوداود وغيرهم وكما قال الرسول الكريم أيضا (زينوا القرآن بأصواتكم).
وفي ظل سطوته وجبروت صوته النواراني حسم شيخنا الشيخ سيد النقشبندى، الجدل العقيم (لشيوخ الغبرة والنكد) حول علاقة القرآن بالموسيقى والغناء مثلما فعل أقرانه من المشايخ فى نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين وحتى الآن.. فالإشكالية بين الموسيقى والقرآن قديمة ومثيرة للجدل دائما، لكن كثرة ظهور قراء وحفظة القرآن وهم يمدحون وينشدون ويتغنون بالألحان وبالتواشيح الدينية والابتهالات، ومن هنا ترجل شيخنا الجليل وحسم الجدل مثلما فعل باقى الشيوخ فى نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين فغنوا وتغنوا بأجمل الألحان فى المدح والإنشاد والتواشيح وأمتعوا السامعين بأعذب الأصوات الواعية والدارسة والجميلة أيضا، ولعل كثير من خبراء الموسيقى، أثبتوا أن القرآن هو مصدر المقامات، ولذلك كان التغنى به وفقا لقواعد الموسيقى والغناء المتعارف عليها وهو ما أكده بالتطبيق العملى الموسيقار الراحل عمار الشريعى فى حلقاته الرمضانية قبل عام 2010 عن المقامات الموسيقية فى القرآن واستشهد بأصوات مشهورة مثل الشيخ محمد رفعت والشيخ مصطفى إسماعيل.
يتمتع النقشبندي بصوت يراه الموسيقيون أحد أقوى وأوسع الأصوات مساحة فى تاريخ التسجيلات، فصوته الأخاذ القوى المتميز طالما هز المشاعر والوجدان بأحلى الابتهالات التى كانت تنبع من قلبه قبل حنجرته فتسمو معه مشاعر المسلمين، يا رب وتجعلهم يرددون بخشوع الشيخ سيد النقشبندى، بل ونستشعرالفتوة والعذوبة معا فى تواشيحه، وفى الأذان الذى درجنا على الاستمتاع به عبر الإذاعة والتليفزيون، وأيضاً من كلمة واحدة فى غنائيته (مولاى إنى ببابك) تأمله بأذنيك وهو يفتتح الغنائية بصوته الرائع، المستغيث بالمولى: (مولاى… يامولاى)، التى تجمع بين التضرع والثقة فى المولى، وأجاد بليغ حمدى القبض على مواطن الفتوة والعذوبة والدفء فى صوته، فكانت موسيقاه كاشفة لكل طاقاته، لذا وصفه الدكتور مصطفى محمود في برنامج الشهير (العلم والإيمان) بقوله (إنه مثل النور الكريم الفريد الذي لم يصل إليه أحد).
وأجمع خبراء الأصوات وقتها على أن صوته من أعذب الأصوات، وهو ما بدا واضحا جليا في ابتهاله الأشهر (مولاي إني ببابك قد بسطت يدي.. من لي ألوذ به إلاك ياسندي)، هذا الابتهال الديني والذي يزيدنا إحساسا بروحانيات شهر رمضان الكريم، كتب كلماته الشاعر عبدالفتاح مصطفى، ولحنه الموسيقار بليغ حمدي في أول تعاون بينه وبين النقشبندي، فقد استطاع النقشبندي بهذا الابتهال تحديدا أن يصافح قلوب الملايين قبل آذانهم، وكان خشوعه مع تلك الكلمات التي تخرج من فمه تأثير السحر في أن تخترق القلوب دون رادع، فلم تكن (أستاذ المداحين، قيثارة السماء، صوت الصفاء والنقاء، الصوت الخاشع، صوت الكروان) مجرد ألقاب اقترنت باسم الشيخ سيد النقشبندي، بل تحولت ابتهالاته وإنشاداته إلى واقع تغنى به ممن عاصروه والأجيال التي تلته وأصبحت مكونا رئيسًا من مكونات الحالة الروحية التي يتمتع بها كل محبيه، رغم رحيله عن عالمنا مذ ما يزيد على 45 عامًا.
نادى النقشبندي الإله في رائعته (مولاي .. يامولاي إني ببابك)، لكن (شب جديد) استبدل نداء الله إلى نداء (مروان .. يامروان إني بابك)، ومن ثم انقلبت صفحات مواقع التواصل رأسا على عقب ما بين مؤيد ومعرض، وتبارات الفضائيات و(اليوتيوبر) في استهجان مافعله هذا الشاب الفلسطيني في حفل (الرابر) – الذي يقولون عنه أنه شهير، غير أني لا أعرف عنه سوى أنه شخص مطرب نفسيا كما يبدو من تصرفاته على المسرح – والذي يدعى (مروان بابلو، ولقد أثارت تلك الأزمة غضب المنشدين، ونقابة الإنشاد طالبت باعتذار رسمي.
فقد وصل الأمر لمستوى من البجاحة التي لا تليق – بحسب النقيب محمود التهامي – الذي أكد أنه لن يسمح بالمساس بالتراث الإنشادى ورموزه الكبار من المدارس العريقهواستهجن كل أعضاء النقابة ما فعله زميل المطرب الشاب مروان بابلو مغني الراب، بعد أن بدل لفظ الجلالة الله بذكر اسم مروان صديقه مكانه في ابتهال (مولاي)، ومن ثم أقدم على إهانته للابتهال الشهير للشيخ سيد النقشبندي، الأمر الذي أثار غضبًا شديدًا عند قطاع عريض من المنشدين والمبتهلين، واستنكر الشيخ محمود التهامي ما حدث من قبل مروان بابلو مغني الراب، من تحريف لأنشودة الشيخ سيد النقشبندي “مولاي إني ببابك”، قائلًا “انتظروا ما هو أسوأ من انحطاط في الأخلاق والقيم).
وقال التهامي في تصريحا له لصدى البلد : حذرنا مرارا وتكرارا ومنذ سنوات من الانحطاط الثقافي ومن أغاني المهرجانات التي تسيء للذوق المصري وتدمر الثقافة المصرية، وناشد التهامي جموع المصريين لعدم الانسياق لهذه الثقافات التي وصفها بالهدامة ولا تليق بشعبنا المصري العظيم، وأعرب التهامي عن غضبه الشديد لحدوث مثل هذه الأمور، وقال: (لقد وصل الأمر لهذا المستوى من البجاحة التي لا تليق)، وفي هذا السياق قال إسلام السرساوي المبتهل بالإذاعة والتلفزيون، إن المساس بالتراث الإنشادى ورموزه الكبار من المدارس العريقه التى يتعلم منها الجميع حول العالم؛ لن يسمح به أي منشد أو مبتهل، ولا بد من وقفه تجاه كل من تسول له نفسه بهدم القيم الاخلاقية التى تربينا عليها منذ سنوات عديدة وأزمنة مديدة، مشيرًا إلى أن ما فعله بابلو ناقوس خطر يدق من جديد، وأضاف السرساوي لـ صدى البلد: أتمنى أن لا تتكرر مثل هذه المهاترات غير الأخلاقية وأن لا ينساق بعض الشباب ورائها مثلما يقلد البعض دون وعي، وهذا ما كنا نخشاه، وناشدنا كثيراً بوقفات للتصدى ولمنع مثل هذه الأمور، ولكن لنا الله.
طالب الجميع مطرب الراب (مروان بابلو وشاب جديد)، بتقديم اعتذار بشكل رسمي، بالإضافة إلى عدم نشر الفيديو المسيء فيه لابتهال الشيخ النقشبندي مولاي، وأعلنت نقابة المهن الموسيقية، خلال بيان صحفي، وقف التعامل مع مروان بابلو، باعتباره أحد مؤديي الراب، حيث إنه ليس عضوا بالنقابة وكان يحصل على تصريح اليوم الواحد، مضيفة أنه تم إخطار كل الجهات والهيئات والمتعهدين بهذا القرار، وذكرت النقابة أن سبب الإيقاف (الاستهانة بالدعاء وإفراغه من محتواه الأخلاقي، وجعله وكأنه عن ذات المؤدي، إضافة إلى ما احتواه فيديو الحفل على ألفاظ خارجة عن الأخلاق الحميدة).
ومن جانبه أعلن أحمد ممدوح حفيد النقشبندي، خلال مداخلة هاتفية له مع الإعلامية بسمة وهبة ببرنامج 90 دقيقة، استعداد أسرة النقشبندي لرفع دعوى قضائية ضد مروان بابلو، وقال حفيد النقشبندي: (أنا مستاء جدا من الفيديو الذي شاهدته، وهذا تراث يورث من جيل إلى آاخر، لا يصح ما حدث ولا ينفع السكوت عليه، وأناشد من خلال البرنامج كل الجهات المسئولة، بالوقف أمام أي شخص يحاول تحريف التراث أو يقلل من صورة النقشبندي وتاريخه، مضيفا: سنلجأ للقضاء لأننا كأسرة النقشبندي مستائين جدا مما حدث، الشيخ النقشبندي قيمة وقامة كبيرة ويجب الحفاظ عليها.
عند هذا الحد هدأت العاصفة التي اجتاحت عش مغني الراب (مروان بابلو) قليلا، خاصة أن (شاب جديد) قام ببث فديو اعتذر فيه للجمهور المصري، حيث كتب عبر خاصية الـ (ستوري) على موقع تبادل الصور والفيديوهات انستجرام، قائلًا: (أولًا كل الشكر والتقدير للجمهور على الحفلة الجامدة.. ثانيًا أنا أعتذر بشدة على سوء التفاهم الذي حصل وكل الحب والاحترام لأخوي مروان بابلو)، وأضاف: (واضح إني أسأت التقدير في العبارة اللي قلتها ولو أني كنت أعرف إنه هالشيء حساس ومسيء لجمهوري المصري الحبيب كان مستحيل يطلع منى.. بتمنى إنكم ما تزعلوا مني.. نيتي كانت صافية والله ولي التوفيق.. ومروان مالوش دعوة خالص).
لكنه اعتذاره على مايبدو غير مقبول من وجهة نظر بعض رواد التواصل الاجتماعي، وبحسب رأي بعض أعضاء نقابتى المنشدين والموسيقيين، لأنه من وجهة نظرهم (عذر أقبح من ذنب)، فالابتهال أمر ديني وروحاني ولا يجب الاستهانة به، ومن ثم جرى وقف (بابلو) تماما من جانب نقابة الموسيقيين التي أكدت: (إننا لسنا في فوضى، بل نحن في ما هو أكثر من ذلك، فنحن نعاني من العشوائية وعدم الاحترام، ولم نسمع من قبل عما يحدث اليوم، وكل يوم لدينا مشكلة من هؤلاء.. الناس دي فجأة طلعت بدون إنذار ومنطق وبيلاقوا اللي يشجعهم، وتوهموا إنهم فنانين وبيشتموا وبيقولوا كلمات بذيئة على المسرح).
ولفت نظري أن المحامي سمير صبري، تقدم ببلاغ للنائب العام برقم 102768 لسنة 2021 ضد مغني الراب مروان بابلو، لاستهانته بابتهال الشيخ النقشبندي (مولاي) والحط من شأن هذا الابتهال، وقال صبري، في بيان صحفي، إن مغني الراب، تناول في الحفل ابتهالا دينيا للمبتهل سيد النقشبندى، الذي يحمل العديد من المعاني الروحية والقيم السامية لدى قلوب المسلمين، والمصريين خاصة، واستهان بهذا الدعاء بكل ابتذال وتبجح وأفرغه من محتواه الديني، وأورده على الموسيقى الصاخبة، وغير كلام المهرجان وقال به: (مروان إني ببابك) بدلا من (مولاي إني ببابك).
والسؤال الذي يفرض نفسه الآن: كيف قبل جمهور الشباب من الحضور هذا التجاوز من جانب الرابر (شاب جديد) في إطار الحفاظ على صورة مطربهم (بابلو) على الأقل؟، ثم ألم يكن بمقدور هؤلاء إجباره على التوقف فور تغييره لكلمات الابتهال؟، لكن سكرة الغناء الردئ أعمت بصيرتهم، وعلى مايبدو أن النقشبندي لايمثل أي قيمة روحية لجمهور اعتاد تعاطي الكلمات المسفة والركيكة والمسيئة التي غالبا ما يكون تأثيرها لحظيا مثل تعاطي المخدرات، ما يؤكد بالضرورة إن انحدار الذوق العام، الذي لم يعد مرتبطا بالفن والأغاني المصرية الشعبية أو المهرجانات والراب وغيرها فقط، بل تعدى لكونه انحدارا خطيرا في الفهم والأدب أو ما يسميه أصحابه (أدبا) في الشعر والنثر والمسرح والرواية، وفي المحتوى التلفزيوني والإذاعي والصحافة المكتوبة وفي تصميمات البيوت الداخلية، وترى هذا الانحدار في البرامج الكوميدية والتعاملات اليومية والألفاظ النابية في الشوارع وفي لباس الشباب والفتيات وطبيعة الأغاني التي تجذب الجمهور والأفلام التي يرغبون بمشاهدتها والأماكن التي يخططون لزيارتها والنشاطات التي يمارسونها وطريقة التعامل بين الأصحاب ومع الأهل.
كما أنه يمكنك أن يمكنك الآن أن ترى انحدار الذوق العام بشكل واضح في معظم الأماكن التي تزورها وتدخلها ابتداء من سيارة الأجرة وطريقة تعامل السائقين، مرورا بالجامعات التي لا تخلو من معاكسات جارحة بين الجنسين، وليس انتهاء بأطفال الجيران الذين تؤذيك طريقة تعاملهم مع بعضهم ومع الجيران أنفسهم. صار نادرا أن تشاهد مقطعا ثريا يحمل رسائل إنسانية أو اجتماعية مفيدة، صارت الأفلام الجميلة أقل بكثير من الأفلام التجارية والمستهلكة، صار الحسابات الهابطة تمتلك مساحة أكبر ومتابعين أكثر على معظم وسائل الإعلام التقليدية والجديدة.
ظاهرة انحدار الذوق العام تنم عن مشكلة واضحة في طريقة عرض المحتوى الجيد والثري وتنبئ بوجود خلل في الوسائل المستخدمة وآليات العرض للمحتويات التي ترفع الذوق العام إذا صح التعبير، كما لا يوجد عدد كافي ومناسب من المصادر التي تتبنى الجودة في المحتوى والإبداع في ترويجه، كما أن التقليد المباشر لبعض المحاولات الناجحة أفرز نماذج ضعيفة في معظم المجالات مما زاد من كمية المحتوى الضعيف التقليدي وقلل من كمية المحتوى الجيد.. وتلك كلها أسباب تستدعي إفاقة جديدة من جانب المعنيين بالإبداع في مصر، وذلك تماشيا مع أفكار الرئيس السيسي التي أكد فيها على ضرورة الاهتمام بالوعي خاصة للشباب الذي يصنع الأمل والمستقبل لهذه الأمة.