أمل عرفة .. موهبة فذة لم تنل حظها كاملا !
بقلم : محمد حبوشة
تعد الموهبة طاقة فطرية كامنة غير عادية في مجال أو أكثر من مجالات النشاط الإنساني؛ كما أن هذه الموهبة موجودة لدى الجميع، سواء كانوا من الأطفال أم الشباب أم الكبار من كل المجموعات الثقافية وعبر مختلف الطبقات الاجتماعية والاقتصادية وفي كل مجالات السعي الإنساني؛ والموهوبون هم الأطفال أو الشباب والكبار من ذوي الموهبة الفذة، والذين يظهرون القدرة على الأداء بمستويات عالية بشكل ملحوظ عندما تتم مقارنتهم بآخرين في نفس أعمارهم أو خبراتهم أو بيئاتهم، كما أن لهؤلاء الأطفال والشباب والكبار قدرات أدائية عالية في المجالات العقلية والإبداعية والفنية، ولديهم قدرة غير عادية على القيادة، كما أنهم قد يتفوقون في مجالات أكاديمية معينة، لكن الفن له شأن آخر يتطلب موهبة فذة.
وتجادل بعض الدراسات التي تتناول التمثيل بأنه ليس موهبة، وإنما عبارة عن نظريات يمكن تدريسها ومن ثم تطبيقها كما يجب، كما يتضمن التمثيل مجموعة واسعة من المهارات التي تعتمد بشكل أساسي على قدرة الشخص على تطويرها، مثل الخيال والتقمص العاطفي واستخدام لغة الجسد، بالإضافة إلى وضوح مخارج الحروف والقدرة على فهم الدراما، وفي المقابل، يجادل آخرون بأن ولادتك مع موهبة القدرة على عرض المشاعر وتقمص الأدوار، إلى جانب دراسة التمثيل والتدريب والممارسة، يزيد فرصك بأن تصبح ممثلًا بارعا ورائدا في هذا المجال.
وضيفتنا في باب (في دائرة الضوء) لهذا الأسبوع النجمة السورية (أمل عرفة)، تجسد كل معاني الموهبة الفذة بكل ملكاتها المبدعة، فهى ممثلة بارعة في لعب دورها بشكل طبيعي ودون اصطناع واضح، ومغنية تملك إحساسا عاليا في إدراك معنى الحرف والجملة الموسيقية، وكاتبة دراما تملك قدرات فائقة على التعبير برشاقة الجملة ونبض حروفها الذي يحلق في خيالات ملهمة نحو عوالم مغايرة، وهى تملك مهارة من أصعب المهارات المتوقعة من الممثل، والمقصود بها القدرة على (الانكشاف العاطفي)، أو كما يسميه البعض (التعري العاطفي)، فهى على استعداد دائم لعرض مشاعرها الإنسانية بشكلها الحقيقي في موقف درامي ما ضمن القصة التي تمثلها، إذ يكمن أن يكون سبب ضعف الأداء لدى العديد من الأشخاص في هذه النقطة.
وتختلف الأسباب الناتجة عن ذلك، منها أنهم لا يريدون رؤية أنفسهم ومشاعرهم الحقيقية في هذا المشهد أو هذه القصة أو عدم قدرتهم على خوض الجوانب المظلمة جدًا من النفس البشرية أو أنهم ببساطة لا يريدون الظهور بمظهر غير جذاب، وكل هذا يدفع الممثل إلى تزييف ردود فعله واختلاق مشاعر غير حقيقية وتقديمها للجمهور، مما يضع حاجزا بين الشخصية التي يؤديها والمشاهد، عوضا عن التأثير به وسحبه إلى عالم القصة، لكن (أمل عرفة) تملك قدرا كبيرا من الثقة التي يحتاجها الممثل أو الممثلة عند تأديته دوره وفقا لمزاجه الخاص، ومن ثم فهي تجبر نفسها على تمثيل انفعالات الشخصية بدقة محسوبة، وهذا ما يميز الممثل المخضرم عن الممثل الصاعد، إذ يساعد تراكم الخبرة لدى الممثل المخضرم بزيادة ثقته بعمله حتى إن أخطأ في بعض الأماكن أو تعرض للمعوقات في أثناء العمل، على عكس الممثل الصاعد الذي يمكن لأي مطب صغير أن يوقعه بالارتباك.
وكما نعرف فإن مهنة التمثيل تتضمن العمل ضمن قوالب عدة منها اللغات واللهجات، وأمل عرفة واحدة من الممثلين الذين لديهم قدرة مميزة على استخدام شتى اللغات أو اللهجات ببراعة، وبحكم أنها مطربة تجيد فن الغناء فإنها تملك طيفا واسعا من الأصوات التي يمكن إصدارها من الحنجرة، وهى تعمل جاهدة على تدريب حنجرتها ولسانها على أداء أكبر عدد ممكن من هذه الأصوات، خصوصا أن الصوت أداة رئيسية في مهنة التمثيل، وبالتالي القدرة على التحكم بالصوت تعني القدرة على ضبط إيقاع كلمات النص بما يناسب اللحظة الدرامية لكل منها.
واحد من أهم الأسباب التي تدفع الممثلين إلى تصنع أدوارهم عوضا عن تقمصها بشكل جيد، تمثيلهم الدور كما يرونه من دون تطبيق أي من نظريات التمثيل، وأشهرها نظرية (ستانسلافسكي)، وهى نظرية تحتوي على مجموعة من التقنيات التي تساعد الممثل على الانتقال بوعيه إلى الشخصية التي يؤديها، وبالتالي تفعيل أفكار وأحاسيس وانفعالات الشخصية عوضًا عن مشاعره الشخصية، وهو ما تطبقه (أمل عرفة) في كل أدوارها وحالاتها التمثيلية المختلفة، وبالتالي عند تأديتها لدورها وفقا لمزاجها الخاص، وهى في هذا لا تجبر نفسها على تمثيل انفعالات الشخصية عندما لا يكون بالمزاج الحقيقي لها، حتى لا يجعل انفعالاتها تبدو مزيفة ومصطنعة، وهذا هو ملمح رئيسي ومنهجا ثابتا في كل حالاتها التمثيلية.
يعتقد الكثيرون أن الممثل البارع من يلعب دوره بشكل طبيعي ودون اصطناع واضح، لكن الحقيقة، وفقا للمخرج والمشرف الفني (ماركوس)، فإن أداء الدور بعيدا عن الاصطناع أمر مفروغ منه، ولكن التميز يكمن باستطاعة الممثل على مفاجأة الجمهور بردود فعله وعدم قدرة المشاهد على التنبؤ بما سيقوم به، على سبيل المثال، وهو ما تفعله تماما (أمل عرفة) بحيث يمكنها تخيل ردة فعل الإنسان لدى فقدانه لشخص عزيز، هنالك عدد كبير من الانفعالات الإنسانية التي يمكن أن يتقمصها الممثل في هذه اللحظة، ولكنها كممثلة محترفة لديها فهم لهذا الطيف الواسع من الانفعالات وإدراك عمق كل منها وعلاقتها بالشخصية التي تؤديها، ومن ثم تقوم باختيار الأداء الأنسب لكل دور مختلف في مسيرتها الفنية على مستوى التمثيل والغناء، انطلاقا من ادراك دفين بداحلها أنه عدا ذلك يتحول الممثل إلى شخصية مملة تكرر انفعالاتها بشكل مبتذل.
ومن خلال متابعتي المتأنية لمسيرتها الفنية الطويلة أستطيع القول بأن (أمل عرفة) لديها العديد من المواهب التي قد تنتج عند الأشخاص الذين يتحلون بقدر كبير من الذكاء، منها القدرة على التمييز بين الأشكال المختلفة، والقدرة على الترتيب المنطقي والتسلسل في التفكير، فضلا عن الذكاء اللغوي – بحكم كونها كاتبة دراما – الذي يعبر عن قدرة الفرد على حسن اختيار واستخدام الألفاظ واللغويات، ويتمتع الشخص الذي يتميز بهذا الذكاء بالموهبة الأدبية، وحسن البلاغة وحسن تنسيق الكلمات لتخرج بما يشبه أبياتا شعرية مستحسنة، إضافة إلى الذكاء البصري المكاني عندها، بحيث يكون لدي الشخص الذي يتمتع بهذا النوع من الذكاء موهبة تخيل الأشياء ورسم أبعاد ثلاثية لها، مثل القدرة على إنتاج أعمال فنية تبقى في ذاكرة المشاهد كما يبدو جليا في كل أدوارها.
وفوق هذا وذاك تتمتع (أمل عرفة) بالذكاء الموسيقي، والذي يعني أن يكون للأشخاص الذين يتمتعون بهذا الذكاء القدرة على أن يقوموا بالتمييز بين محتلف الأصوات، وتنظيم وتأليف ألحان جديدة مميزة كما ورثتها عن أبيها المحلن الكبير سهيل عرفة، ومن ثم تملك القدرة على التمييز بين المقطوعات الموسيقية، وامتلاك حساسية عالية تجاه الأصوات، كما أنها في الوقت ذاته تتمتع بالذكاء الحركي، ويعبر هذا النوع من الذكاء على المواهب الجسدية أي قدرتها على تحريك أكثر من جزء في جسمها في نفس الوقت للقيام بأكثر من أداء بتركيز شديد للغاية، ولعل هذا النوع من الذكاء يرجع بالأساس إلى الذكاء الشخصي الذي تتمتع به بشكل وافر، أي أن يكون لحامل هذا الذكاء موهبة الإلمام بالكثير من وجهات النظر المختلفة وتحديد النتائج الخاصة بكل منها وعلى هذا الأساس تقوم بالتخطيط جيدا للدور الذي تؤديه بشغف شديد.
تبدو مسيرة الفنانة السورية أمل عرفة أشبه بمشوار فني يتضمن الكثير من المحطات الرئيسية المهمة، بدءا من دراستها في المعهد العالي للفنون المسرحية مروراً بأدوارها المتميزة في مسلسلات (الجوارح ـ خان الحرير ـ عيلة 5 نجوم ـ حمام القيشاني) وغيرها من الأعمال الدرامية الراتسخة في ذاكرة الدراما السورية والعربية، وليس غريبا بعد ذلك أن تتجه نحو الغناء على المسرح أو في ثنايا عمل درامي تلفزيوني كشخصية (فضة) الغجرية في (خان الحرير)، خاصة أنها قدمت العديد من الأغنيات العاطفية والوطنية التي قام بوضع ألحانها والدها الموسيقار (سهيل عرفة)، فقد ولدت أمل في دمشق العاصمة السورية، لأب هو الملحن والمؤلف السوري المعروف سهيل عرفة.
درست (أمل) التمثيل في المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق، وعرفت من أول عمل غنائي لها (صباح الخير ياوطنا)، وتعد بدايتها الحقيقية عام 1990 في (نجمة صبح، وشبكة العنكبوت)، ثم شاركت بعدها بعدد من الأعمال منها (سكان الريح)، لكنها حققت النجاح بشكل فعلي عام 1993 في (نهاية رجل شجاع، وعيلة 5 نجوم)، وفي عام 1994 شاركت في (حمام القيشاني، موزاييك، الجوارح)، كما ظهرت في (خان الحرير، والقصاص) في 1996، ولم يخل عام1997 من الأعمال الدرامية التي قدمتها، حيث مثلت في (خيط الدم، وبنت الضرة)، ثم عادت من جديد لتشارك أيمن زيدان في (إخوة التراب) بجزئه الثاني في 1998، وظهرت في 1999 في (آخر أيام التوت)، كما تألقت في دورها الكوميدي (دنيا) في مسلسل (دنيا) الذي كان من تأليفها، ويروي المسلسل قصة حياة فتاة بسيطة تأتي من الريف لتعمل في المدينة وتمر بمواقف طريفة وأحداث مختلفة مع صديقتها طرفة.
في عام 2000 ظهرت (أمل عرفة) في مسلسل (الخوالي، وأسرار المدينة)، وكانت بداية مشاركتها في لوحات المسلسل الكوميدي (بقعة ضوء) 2001 الذي استمرت بالظهور في أجزائه الثلاثة عشر التالية، وفي عام 2002 مثلت في (الوصية، وصقر قريش)، وظهرت في (امرأة في الظل، قبل الغروب، ذكريات الزمن القادم) عام 2003، أما في عام 2004 فقد ظهرت في مسلسل من تأليفها وهو (عشتار) وذلك بدور البطولة (عشتار)، حيث تميزت ببراعة تمثيلها وغنائها في هذا العمل الرائع شكلا ومضونا، وكان عام 2006 حافلا بالأعمال في مسيرة (أمل عرفة) منها (المارقون، حسيبة، ندى الأيام، شاء الهوى، كسر الخواطر، وغزلان في غابة الذئاب) والأخير يعد من أهم وأجمل الأعمال السورية المقترنة بالوجع الإنساني، والذي أدت فيه شخصية (غادة) التي تعيش حياة القهر والتهميش إلى أبعد الحدود في بيئة فقيرة، حتى أنها تتعرض لحادثة اغتصاب تغير مجرى حياتها نحو الأسوأ، وفي 2009 قدمت أبدع وأهم أعمالها الدرامية حيث حلت (أمل عرفة) ضيفة على مسلسل (صبايا) في جزئه الثاني، وشاركت في (تخت شرقي)، ولعبت دور البطولة في (أسعد الوراق) عام 2010 مع الممثل الموهوب (تيم حسن)، وظهرت في (كشف الأقنعة، الزعيم) عام 2011.
من أهم أعمالها في 2012 (المفتاح، ورفة عين)، وفي 2014 (الغربال)، وعادت بشخصية (دنيا) في 2015 في (دنيا) الجزء الثاني، وفي (جريمة شغف) بدور (هيفاء) عام 2016 و(الرابوص) عام 2017، وشاركت في (عزف منفرد) في 2018، كما شاركت في (سايكو) في 2019، و بدور انتصار في مسلسل (كونتاك)، وفي العام الماضي كان لها مشاركة متميزة في مسلسل (حارس القدس) بدور (ريما)، وبدور (سماهر) في مسلسل (شارع شيكاغو)، الذي أثار جدلا واسعا بسب مشهد تم إظهاره وبشكل مُتعمد محملاً بإيحاءات جنسية ومنفرّة – على حد قولها – وقد حققت نجاحاً من خلال تجسيد شخصية (سماهر) في هذا المسلسل ولاقت إعجاب الكثيرين من متابعي (السوشال ميديا)، وفي ذات الوقت لاقت انتقادات من آخرين كما هو الحال مع شخصيات أخرى تم تجسيدها في هذا المسلسل لم تخل تفاصيل أدوارها من بعض الجرأة.
ظهرت (أمل عرفة) على الشاشة الكبيرة في مجموعةٍ من الأفلام منها (شيىء ما يحترق) عام 1993، و(صعود المطر) عام 1995، و(مشروع أم) عام 2002، و(طعم الليمون) عام 2011، وإضافة إلى عملها في التمثيل والغناء، قامت بتقديم عدد من البرامج، ومنها (أمل بعد الإفطار، لو كنت مكاني) وبرنامج (ابتسامات) الذي بث في فترة من الفترات على قناة mbc1 وعلى ذات القناة قامت بمشاركة الإعلامي مصطفي الأغا في برنامج (صدي الملاعب) في فترة من الفترات، وبعد غيابها الطويل عن التقديم وانشغالها بالتمثيل عادت مجددا لتقديم البرامج في سبتمبر 2018 من خلال البرنامج الفني (فيه أمل) الذي بث على قناة لنا السورية الفتية في بدايات بثها.
كما ظهرت على المسرح في (روميو وجولييت، القراصنة، العنب الحامض، والملكة)، أما بالحديث عن مسيرتها الغنائية التي بدأتها بأغنية (صباح الخير يا وطنًا) وكانت من ألحان والدها سهيل عرفة، كذلك شاركت مع الفنانة (جوليا بطرس) في أغنية (وين الملايين، ويا حمام القدس)، وغنت أيضًا (على أحر من الجمر، إلى حبيبي، بلاك، وفاجأني هواك)، وأصدرت ألبومين غنائيين هما (أمانة ياسنين) 1986، و(على أحر من الجمر) عام 2000.
حصلت (أمل عرفة) على العديد من الجوائز منها: جائزة أفضل أداء غنائي عن أغنية (زادني) في تونس، كما حازت على جائزة أدونيا لأفضل ممثلة دور أول عن دورها في مسلسل (حسيبة، وزمن الخوف) عام 2007، وتم تكريمها في مهرجان دمشق السينمائي في 2009، كما حصلت على جائزة أفضل ممثلة دور أول في (مهرجان أدونيا) عن دورها في مسلسل (بعد السقوط ) عام 2010، وحصلت على جائزة أفضل أداءٍ غنائي في مهرجان أبو ظبي للأغنية العربية عن أغنيتها (بَلاك)، وجائزة أفضل ممثلة كوميدية في 2011 عن دوها في (بقعة ضوء)، وحصلت في العراق على جائزة أفضل مسلسل اجتماعي من تأليفها وبطولتها (رفة عين) في 2012، كما حازت على لقب أفضل ممثلة عربية في استفتاء المجلات العربية في لبنان عن دورها في (ذكريات الزمن القادم)، وجائزة تكريمية من إدارة (مهرجان سينما الشباب والأفلام القصيرة) عام 2018.
وفي النهاية لابد لي من تحية تقدير واحترام لتلك الموهبة الفذة في التمثيل والغناء والتأليف الدرامي، ومع ذلك لم تأخذ حظها الذي يليق بتلك الموهبة، فأن تولد لعائلة فنية أمر يجعل حياتك أسهل كثيرا، خاصة إذا كنت تتمتع بموهبة حقيقية قابلة للتطوير، هذا بالتحديد ما حدث مع الفتاة (أمل عرفة) ابنة الملحن السوري سهيل عرفة الذي عمل مع كبار نجوم الزمن الجميل، ومن هنا يمكن أن يطلق عليها لقب الفنانة الشاملة، فهي كاتبة وممثلة ومطربة وتمتلك ليونة عالية على صعيد الأداء الحركي، وهو ما مكنها من الخروج من دائرة السائد، ما يعني بالضرورة خوض مغامرة في اختيار الشخصيات التي تجسدها، أو في أدوات تجسيدها على مستوى تكنيك الحركة، وتلك مغامرة لا يمكن لأحد أن يدعي أنها محسوبة، إذ لا يمكن المراهنة على ردود أفعال الجمهور تجاهها، لكن في نجاحها ما من شأنه أن يرتقي بصاحبها حد توصيف أدائه التمثيلي لهذه الشخصية بالعبقري.