كتب : محمد حبوشة
صحيح أن مسلسل (شقة 6) أثار جدلا واسعا في الشارع المصري على أثر تغيير نهايته من جانب المخرج (محمود كامل) التي فتحت الباب إلى ساحة القضاء بسبب خلاف بينه وبين المؤلف، إلا أن هذا المسلسل في صناعته الجديدة على الطريقة المصرية الصرفة استطاع تخطي مشاكل أعمال الرعب الفنية بسهولة عبر مزيج من الإثارة والغموض، ما أحدث منذ بدء عرضه ضجة كبيرة بين المشاهدين وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، وربما يرجع السبب في ذلك بالأساس لأنه مثل عودة تلفزيونية جديدة للفنانة (روبي) التي أصبحت مؤخرا (ترندا) صيفيا على مواقع التواصل الاجتماعي بأخبار حفلاتها، ولكن سرعان ما انفصلت سمعة المسلسل التي اكتسبها من (روبي)، وأصبح عملا مثيرا بحد ذاته للمشاهدين المتشوقين لهذا النوع المختلف من المسلسلات التلفزيونية بعيدا عن الدراما العائلية وقصص الحب والزواج والثأر والميراث.
(شقة 6) ومن خلال 15 حلقة فقط ينتمي إلى نوع الرعب، وهو النوع المحدود للغاية في إنتاج التليفزونات العربية على الرغم من كونه ذا شعبية واسعة بالفعل لدى المشاهد العربي الذي يتجه إلى المسلسلات والأفلام الأجنبية لتعويض هذا الغياب من خلال المنصة الشهيرة مثل (نتفلكس) وغيرها التي جذبت عددا كبيرا من الشباب العربي، وخاصة أن الأزمة الحقيقية وراء غياب مسلسلات الرعب العربية هى ضعف الإمكانات اللازمة لصناعة دراما رعب متقنة إلى حد كبير، مثل المؤثرات البصرية والمكياج، مما يؤدي إلى ظهور الأعمال في النهاية بشكل هزلي مضحك، مثل مسلسل (ساحرة الجنوب، وكفر دلهاب) على سبيل المثال وليس الحصر، وقد سبب الأول حالة سخرية واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي عند عرضه في إبريال 2016، أي قبل خمس سنوا تقريبا، أما الثاني فقد دخل في إطار السذاجة الدرامية.
وظني أن أهم ما يفتقده صناع هذه الأعمال من المخرجين والمؤلفين وشركات الإنتاج العربية هى بوصلتهم في تحديد ماهية الرعب الذي يمكن تقديمه للمشاهد العربي، هل الرعب المستلهم من الأساطير الشعبية الشرقية، مثل (أبو رجل مسلوخة والنداهة والغولة والجن)، أم الرعب القادم من الثقافة الغربية مثل (مصاصي الدماء والزومبي)؟، فنجد لدينا أعمالا مثل فيلم (خط دم) الذي عرض العام الماضي من بطولة نيللي كريم وظافر العابدين وظهر كأنه ترجمة ركيكة لأفلام مصاصي الدماء الأجنبية، فضلا عن أن هذا الفيلم قدم بالأساس نموذجا ضعيفا من أفلام الرعب على الطريقة المصرية التي يمكن أن تنافس الأحنبية.
ومن هنا أستطيع القول أن مسلسل (شقة 6) استطاع تخطي مشاكل هذا النوع من الرعب بسهولة عبر صناعة تعد مزيجا خاصا من الرعب والإثارة والغموض، فنجد لدينا (إنجي) بطلة المسلسل التي تجسد شخصيتها (روبي) تسكن في شقة جديدة مخيفة، وتبدأ أحداث مرعبة تقع لها، مثل ظهور أطياف أشخاص آخرين تشاهدهم خلال لحظات عنيفة من حياتهم، وتبدأ في اكتشاف الروابط بين ساكن الشقة السابق وسكان باقي العمارة، ومع ذلك لم يلجأ المسلسل إلى استخدام تيمة الأشباح العائدة أو المنازل المسكونة فقط، بل يغوص عميقا لاكتشاف السر وراء هذه الرؤى عبر ربطها بجرائم قتل وعنف، وقد لعبت روبي الشخصية ببراعة عبر حالاتها من التوتر وإبداء الخوف والفزع والصراخ جراء الكوابيس التي تعترضها في نومها.
ولعل هذا الربط هو إحدى الوسائل الشهيرة لكتاب (الرعب حول العالم) لتفسير الأسباب وراء المنازل المسكونة والعنيفة، مثل اكتساب المنزل طاقة شريرة لحدوث جرائم عنف، أو لطبيعة السكان السابقين له، أو قيام المنزل بالكامل على إحدى المقابر القديمة، وهى الأفكار التي استخدمها مؤلفي مسلسل (شقة 6) للبعد عن التقليدية في عملهم الذي يتعرض لنوعية من الدراما التي كتب لها الفشل من قبل في أعمال سابقة، وهو ما يشير إلى محاولة اقتباس كثير من المشاهد من أعمال أجبنية تقترب في ملامحها من تلك البيئة التي جرت فيها الأحداث على الطريقة المصرية.
ويبدو لي ذكاء المخرج المتميز (محمود كامل) في استخدم فكرة انقطاع التيار الكهربائي بشكل متكرر في العمار التي تسكنها (إنجي) ليستعيض عن استخدام المؤثرات البصرية، فالظلمة والإضاءة على ضوء الشموع ساهمتا إلى حد كبير في إحداث التأثير المطلوب في مشاهد الرؤى التي تراها البطلة في نومها ويقظتها، وكذلك ساهمتا في إضفاء طابع بصري مميز على المسلسل بميزانية أقل، ومع ذلك فقد تميز المسلسل بقدر معقول جدا من الإثارة وتصاعد في الأحداث بشكل مستمر بفضل جهود المخرج، وكما لاحظنا فإنه في كل حلقة نتجه نحو اكتشاف جديد لسر الشقة رقم 6 في تلك العمارة العتيقة في مبناها وسكانها المثيرين للدهشة، وتتكشف لنا من خلال حلقة بعد الأخرى جوانب من قصتها وقصة (إنجي) ومفارقات أهل العمارة كذلك، مما يجعل المشاهد يطرح طوال الوقت أسئلة حول ماهية الأمر: هل هذه العمار في حد ذاتها آثمة؟ أم إنجي مصابة بمرض عقلي يجعلها تتوهم أشياء تبعد عن القل والمنطق؟.
وعلى الرغم من أن جودة التجربة كبرهان عملى على صناعة الرعب على الطريقة المصرية إلا أن أحداث المسلسل كان يمكن اختصارها في أقل من 15 حلقة إلى 10 حلقات على سبيل المثال، لزيادة الإثارة بدلا من تكرار مشاهد بعينها مثل مشاهد (صباح/ سماء إبراهيم) في مستشفى الأمراض العقلية أو حتى في بيتها قبل إيداعها المستشفي، ومع ذلك فإن المسلسل في النهاية امتلك قدرة على الحفاظ على اهتمام المشاهدين الحلقة تلو الأخرى، لكن المشكلة الكبرى في المسلسل كانت في جانب المؤلفين اللذين لم يكونا على نفس الدرجة من إتقان الأداء والإخراج.
ومن هنا أستطيع القول أن كلا من من (روبي وأحمد حاتم) برعا إلى حد معقول في أدائهما للشخصيتين، وظهر نوع من الانسجام بينهما رغم التناقض الذي بدا منذ أول وهلة التقيا فيها، لكنهما عملا بمبدأ (ستانسلافسكي) في القدرة على التقمص والدخول في أهاب الشخصية وتفعيل الذاكرة الانفعالية في إظهار المشاعر الداخلية والخارجية على نحو يضعهما في خانة الثنائي المتوافق، حيث قدما مشاهد رائعة بينهما وبدا نوع من الدفء العاطفي الذي غلف المسلسل بنوع من النعومة والرومانسية رغم عدم التلويح أو التصريح بعلاقة الحب التي نمت بينهما في ظل أجواء مفعمة بالإثارة والرعب، وقد نجح هذا الثنائي الذي أرشحه لأعمال قادمة سويا في إيصال المشاعر والأحاسيس لكل من (إنجي والدكتور يوسف) بشكل احترافي وبطريقة السهل الممتنع، تلك الصفة التي يتمتع بها كل من (روبي وأحمد حاتم) في الأداء الفطري الخالي من شوائب التشنج والمبالغة.
حتى الأدوار الأصغر مثل (هاني عادل ورحاب الجمل وملك قورة) كلهم قدموا أداء تمثيليا معقولا إلى حد ما رغم ظهور بعض حالات الانفصال بين الانفعالات والحوارفي كثير من الأحيان، مما يعطي انطباعا طوال الوقت أن من أمامنا ما هم سوى ممثلين يقرؤون النص المكتوب لهم بصوت عال، مع أقل القليل من التماهي مع الشخصيات الخاصة بهم، وهو ما يعود بالضرورة إلى الورق الذي أخذ عن أعمال أجنية تفتقد لحرارة الشرق بأجوائه الموحية أكثر من الغرب، وعلى جانب آخر بدا لي بعض الممثلين الأكفاء الذين يحسبون من الصف الثاني والأكثر خبرة في الحقيقة، حيث قدموا أداء ممتازا وتماهيا مع شخصياتهم المركبة والغامضة.
وعلى رأس من تميز بالأداء الجيد الفنان المتمكن محمود البزاوي في دور (زاهي) صاحب البناية، والذي أخرج دوره من تنميط الشخص البخيل وأخذه إلى منطقة أكثر غموضا وإثارة بأدائه للشخصية كشخص متلاعب وهادئ ذي عين منكسرة، ولكن في الوقت ذاته يعلم الكثير ويخفيه، وهو مايشير إلى قدرته العجيبة على اللعب في منطقة الخطر، كذلك صلاح عبد الله في دور الجار (ماهر) شقيق (زاهي) اللدود، والذي يبدو طوال الوقت شخصا ألطف من اللازم، مما يستدعي لدى المشاهد الريبة والحذر، لتتكشف حقيقته الشريرة في نهاية الحلقات، وكذلك وظهرت عارفة عبد الرسول في دور قصير لكنه مؤثر للغاية وبأداء مميز كعادتها في تلبّس الشخصيات حتى لو كانت بسيطة وفي مشاهد قليلة.
وعلى قدر الهنات التي اعترت مسلسل (شقة 6) من ناحية الكتابة، إلا أنني أعتبره واحدا من الأعمال الجيدة على مستوى الأداء والإخراج بحيث استطاع اجتذاب انتباه الجمهور في غير الموسم الرمضاني، ويحسب له في النهاية أنه سعى إلى الخروج قليلا من دائرة تنميط النوع الدرامي الذي تقدمه الشاشات المصرية، وعلى الرغم من بعض المشكلات التي طرأت على جوه العام فإنه يبقى عملا مسليا ومثيرا يستقطب شريحة واسعة من المشاهدين الذين يتعطشون لمثل هذه الأعمال بحيث تدخل (شاهد) كمنصة عربية واعدة في حلبة المنافسة مع المنصات الأجنيبة التي تنتج أعمال الرعب والإثارة بطريقة احترافية تجذب شبابنا العربي المتطلع إلى هذا النوع من الدراما.
ورأي الشخصي في النهاية أن الضجة المثارة حول تغيير النهاية من جانب المخرج لاترقي إلى مستوى صناعة أزمة تصل إلى النائب العام بهذا القدر من التشنج والعصبية، فكان ينبغي أن يكون هناك حوار حضاري بين المؤلفين والمخرج للاتفاق على الشكل النهائي للعمل لأن نهاية الحلقات تشير إلى العقدة في العمل الدرامي وكيفية حلها بطريقة يقبلها العقل والمنطق، ولكن على ما يبدو لي أنه نتيجة ضعف المؤلفين في كتابة مادة تكفل صناعة حبكة درامية متقة تجبر المخرج وفريق العمل على الحفاظ على الخط الدرامي من بداية الأحداث حتى نهايتها قد فشلا فيها، مما اضطر المخرج المخضرم (محمود كامل) بحكم خبرته إلى وضع نهاية تتفق مع رؤيته، وربما لم تكن (إنجي) فعلا مريضة نفسية لكن الظروف القاسية والضغوط النفسية التي تعرضت لها تستدعي وضعها في النهاية بمصحة للأمراض العقلية.