جنازة تليق بأسطورة السينما الفرنسية
بقلم : محمد حبوشة
هل تابعت مثلي جنازة النجم الفرنسي الراحل (جان بول بلموندو) قبل أسبوعين تقريبا، والذي توفي عن عمر ناهز 88 عاما؟
إذا كنت قد تابعت فلابد أنك لاحظت الاحتفاء الكبير بهذا النجم في أثناء رحلة وداعه الأخير، في جنازة مهيبة تليق بفنان يعد أحد أبرز أعلام السينما الفرنسية، حيث يحفظ سجله الفني أكثر من ثمانين فيلما، وتبقى الكثير من أدواره محفورة في ذاكرة الفن السابع.
ومن أهم مظاهر الاحتفاء بأسطورة السينما الفرنسية أنه قد أعلن قصر الإليزيه أن فرنسا ستقيم الخميس 9 سبتمبر الجاري تكريما وطنيا للممثل الراحل (جان بول بلموندو) أحد أبرز نجوم السينما فيها وأوسعها شعبية، في مجمع (ليزانفاليد) في باريس، على أن يشيع جثمانه صباح الجمعة بالعاصمة الفرنسية، وأعلن محاميه في وقت لاحق من النهار أن مراسيم تشييعه ستقام في الحادية عشرة من صباح الجمعة في كنيسة سان جرمان دي بريه في باريس.
ولعل الشعب الفرنسي كله سواء من حضر الجنازة أو شاهدها عبر شاشة التليفزيون قد بكى هذا النجم الأسطوري جراء تغريدة الرئيس (إيمانويل ماكرون عبر (تويتر) حين قال بأنه (كنز وطني)، وإنه سيبقى إلى الأبد (لو مانيفيك) الرائع، وهو اسم أحد أفلامه في السبعينيات، وأشاد الرئيس الفرنسي بذكرى (بطل رائع وشخصية مألوفة)، قائلا عنه إنه كان بدون منازع الأقرب إلى قلب الجمهور (بين ممثلينا الكبار)، وكان ماكرون قد منح بلموندو وسام جوقة الشرف برتبة ضابط كبير خلال مراسم أقيمت في الإليزيه في نوفمبر 2019.
ولابد أنك لاحظت عزيزي القارئ أيضا كيف تودع الدول الكبرى فنانيها بمزيد من الاحتفاء، ففي باحة الشرف بمجمع (ليزانفاليد)، وفي تمام الساعة الرابعة والنصف بالتوقيت المحلي لباريس، انطلقت مراسم وداع الممثل الفرنسي الراحل جان بول بولموندو، بحضور مئات الأشخاص على رأسهم رئيس الجمهورية إيمانويل ماكرون، الذي وصف الممثل الراحل (بالكنز الوطني)، وقد سمح لنحو ألف شخص من الدخول من دون دعوة مسبقة شريطة إبراز تصريح صحي، كما ألقى ماكرون كلمة رثاء في هذه المراسم.
وأظن أنك شاهدت مثلي كثيرا من المفارقات في جنازة (بلوموندو) غداة مراسم الوداع الوطنية التي خصصت لنجم السينما الفرنسية، وأول تلك المفارقات أن اجتمع أفراد عائلته وأصدقاؤه وبينهم الممثل آلان ديلون، في جنازة أقيمت في إحدى كنائس باريس، وصفق الحاضرون لديلون وهتفوا باسمه فيما كان مبتسما وممسكا عكازا، وبات ديلون آخر الكبار الأحياء من الجيل السابق للسينما الفرنسية، وهو كان لمدة طويلة يصور على أنه منافس لـ (بيبيل) ذلك اللقب الذي أطلقه الشعب الفرنسي على (جان بول بلموندو)، والمفارقة الثانية وهى تجمع مئات الأشخاص خلف الحواجز الأمنية التي نصبت في محيط كنيسة (سان جيرمان دي بريه) في قلب باريس، أو جلسوا على شرفات المقاهي الشهيرة في المنطقة، وصفقوا لدى وصول نعش بلموندو.
أما أكثر المفارقات التي هزتني فعلا، هى مشهد خروج نعش الممثل بعد مراسم الوداع على وقع عزف أوركسترا الحرس الجمهوري الفرنسي مقطوعة (شي ماي) وهى الموسيقى التصويرية الشهيرة التي وضعها (إنيو موريكوني) لفيلم (لو بروفيسيونال – المحترف)، وهذا دليل على ذكاء مخرج الحدث، أيضا هزتني كلمة حفيده التي جاءت من القلب تصف عملاقا من عملاقة زمن الفن الجميل، وهو تأكيد على أن القيمة ستبقى دائما طالما حرص نجم سينمائي مثل (بلموندو) على التأكيد عليها في كل أعماله، رغم أنها كانت تميل إلى العنف إلا أنها عبرت بصدق عن القضايا التي تشغل الشارع الفرنسي في فترة عرض تلك الأفلام.
وقد أسرني ذلك المشهد المهيب حين غطى العلم الفرنسي نعش الممثل الراحل في وسط الباحة أمام بضع مئات من الأشخاص المدعوين للمشاركة في المناسبة، وهم أفراد من العائلة والأقارب، إضافة إلى الرئيس إيمانويل ماكرون وزوجته بريجيت ووزراء وسياسيين وشخصيات من عالم السينما والثقافة والرياضة، وبعد استعراض للقوات، ألقى ماكرون كلمة رثاء في الممثل الراحل، قال فيها (نحب بلموندو لأنه كان يشبهنا، فكان الشرطي حيناً، والبلطجي حينا آخر، لكنه كان الرائع دائما) ، وتلت كلمة ماكرون دقيقة صمت، واختتمت المراسم بأداء النشيد الوطني الفرنسي (لا مارسييز).
وفي إطار تكريم الراحل وبسبب الشعبية الكبيرة للممثل الأسطوري (جان بول بلموندو)، قررت الرئاسة الفرنسية والعائلة فتح أبواب مجمع (ليزانفاليد) قرابة الساعة السابعة والنصف مساء، بعد انتهاء المراسم، أمام جميع الراغبين في التأمل أمام النعش الذي سيبقى في الباحة، و هو تقليد سبق أن اعتمدته الرئاسة الفرنسية في إجراءات مشابهة بعد وفاة الرئيس السابق جاك شيراك في 26 أيلول/سبتمبر 2019 عن 86 عاما، ما سمح لآلاف الأشخاص بإلقاء نظرة الوداع أمام النعش، وعادة ما يصدر قرار رئاسي بإقامة مراسم تكريم وطنية عن رئيس الجمهورية بالاتفاق مع عائلة المتوفى، وكان يحصر هذا الشرف سابقا بالعسكريين وبعض المدنيين الذين كان لديهم (ماض مقاوم أو الحائزين رتبة عالية في جوقة الشرف).
ومنذ بدء ولايته الرئاسية سنة 2017، ترأس إيمانويل ماكرون في مجمع (ليزانفاليد) إحدى عشرة مرة مراسم تكريم لشخصيات بارزة بينها الوزيرة سيمون فاي (2017)، والكاتب الفرنسي جان دورموسون (2017)، والمغني شارل أزنافور (2018) إضافة إلى الجنود الذين سقطوا في مالي سنة 2019، وهذه دلالة رمزية على أهمية (جان بول بلموند) ضمن الشخصيات البارزة في فرنسا لذا كان الاحتفاء بجنازته بطريقة تليق بمشوار الطويل في الفن، والذي أثرى فيه الشاشة الفرنسية بأروع الأدوار.
أعجبني جدا تعليق رجل الأعمال المهندس نجيب ساويرس، على مراسم وداع النجم الفرنسي الكبير جان بول بلموندو، حيث نشر ساويرس، مقطع من جنازة (بلموندو) عبر حسابه بموقع (تويتر)، وعلق قائلا: (جنازة جان بول بلموندو، كيف تودع الدول الكبرى فنانيها وترسل رسالة قيمة لمعني الفن للعالم.. لقد كان ممثلا عظيما وكان مع آلان ديلون رموز السينما لدينا في جيلنا).
جدير بالذكر أن جان بول بلموندو، الملقب (بيبيل) يعتبر أحد أبرز أعلام الفن في فرنسا، حيث انطلق صاحب الكاريزما العالية والابتسامة المشرقة، في مسيرته التمثيلية على خشبة المسرح، قبل أن تحمله عطاءاته على مر العقود إلى قمة شباك التذاكر الفرنسي، مع حصيلة تراكمية لأعماله بلغت 130 مليون مشاهد في صالات السينما.
وقد شكّل لقائه مع السينمائي البارز (جان لوك جودار) تأكيدا للموجة الجديدة ونقطة فاصلة في مسيرة الممثل، فقد قال جودار لبلموندو بعد مصادفة جمعتهما في الشارع (تعال إلى غرفتي في الفندق، سنصوّر معا وسأعطيك 50 ألف فرنك)، وولد عن اللقاء فيلم (أبو دو سوفل) سنة 1960 حين لم يكن بلموندو قد بلغ الثلاثين من العمر، وتواصل التعاون بين الرجلين في أعمال لاحقة بينها (أون فام إيتون فام) سنة 1961 و(بييرو لو فو) عام 1965، وراكم جان بلموندو بعدها النجاحات، ومن جان بيار ميلفيل (ليون موران، بريتر) إلى فرنسوا تروفو (لا سيران دو ميسيسيبي)، مرورا بلوي مال (لو فولور)، و تنافس السينمائيون على التعاون مع الممثل الذي شكّل طويلا المنافس الوحيد للنجم آلان دولون.
واتسمت أدوار بلموندو المعروف لدى الجمهور بلقب (بيبيل)، بصعوبتها على صعيد المتطلبات البدنية، فيما ساعده قوامه الرياضي الشبيه بأجسام الملاكمين في تحقيق نجاحات جماهيرية في أفلامه، وتقاسم بلموندو الحائز جائزة (سيزار) عن دوره في فيلم (إيتينيرير دان انفان جاتيه) الشاشة مع بعض من أبرز الممثلات (بينهن كاترين دونوف وكلوديا كاردينالي)، كما ارتبط بقصص حب مع البعض منهن، من أمثال (أورسولا أندريس ولورا أنتونيلي)، وقد عرف الرجل بحبه للحياة، وله أربعة أبناء (بينهم ابنة متوفاة تدعى باتريسيا) من زواجين.