كتب : محمد حبوشة
إلى وقت قريب جدا كانت المشكلة الكبرى في صناعة الدراما السعودية هى في عدم وجود آلية تكفل لها التطور والاستمرار وباستثناء من وجدوا لهم مساحة في قنوات أخرى على خارطة الأعمال ذات الأجزاء والتي استمر بعضها لسنوات لجودته بينما استمر عدد آخر لرداءته (وتلك مفارقة عجيبة لا نجد لها أي تفسير)، فقد بقي المنتجون في حيرة دائمة فهم كالبدو الرحل يبحثون عن الكلأ والماء من مكان لآخر ولهذا قد تمطر عليهم في عام وتجدب أعوام أخرى، ورغم أن التلفزيون السعودي المؤسس الحقيقي للدراما السعودية والداعم الأول لها قدم ولا يزال يقدم لها ما تسمح به إمكاناته إلا أنها حتى وقت قريب ورغم ما ضخ فيها من أموال لم تؤسس لصناعة ذات استمرارية ونمو وتطور.
وظل هنالك دوما سؤال: لماذا بقيت المشكلة دون أي حلول رغم أن الدراما السعودية سلعة مطلوبة ويتنامى الطلب عليها في هذا الوقت أكثر من أي وقت مضى ومع ذلك فصناعتها الاحترافية مفقودة؟، ما هي الحلول التى يمكن أن نقدمها لكي نخرجها من أزمتها ونحولها إلى صناعة يتم الاهتمام بها والاستفادة من مواردها وتطوير قدرات العاملين فيها؟، خاصة وأنها صناعة مربحة في جميع أنحاء العالم متى ما وجدت التنظيم والتخطيط السليمين لها، وذلك بتطوير آليات هذه الصناعة من حيث إعداد الكوادر الفنية وتطوير قدارت العاملين الحاليين سواء كوادر التلفزيون أو غيرهم عبر الابتعاث وإقامة الدورات والندوات والورش، وخلق شراكات استراتيجية مع العديد من الجهات لتطوير البنية الإنتاجية من حيث إنشاء الاستديوهات وتأسيس شركات للدعم الفني.
لكن على مايبدو فإن رياح الانفتاح والتغير التي تشهدها المملكة العربية السعودية من خلال رؤية ولي العهد الأمير (محمد بن سلمان) انعكست خلال السنتين الآخيرتين على صناعة الدراما التي أصبحت تسابق الزمن بتطلعاتها المستقبلية، بناء على القرارات التي تدعو لإثراء المحتوى الفني ضمن رؤية (المملكة 2030)، إذ استطاعت أن تقتحم أعقد المشكلات على جناح (دراما الجرأة الاجتماعية) التي تميزت بها الدراما السورية في العقدين الآخيرين من الألفية الثانية، وهى نفسها التي كانت قد حققت الدراما انتشارا محليا كبيرا لكنه لم يكن ملموسا عربيا إلى الحد المطلوب مع ظهور الفضائيات السعودية في بداية تسعينيات القرن الماضي.
كان قد تم إنتاج العديد من الأعمال الدرامية الاجتماعية والكوميدية، والتاريخية التي نالت صدى واسعا في السنوات الأخيرة، من أبرزها (أسوار، أبو الملايين، حصاد الزمن، حارة الشيخ، المجهولة، السلطانة، لعبة الشيطان، لعبة المرأة رجل، هوامير الصحراء)، بالإضافة إلى المسلسل الاجتماعي الكوميدي (سيلفي) الذي لعب بطولته ناصر القصبي، وقدمت 3 أجزاء منه محققا نجاحا فاق التوقعات في حينه، لكن القصبي نفسه هو الذي قاد مسيرة تطور صناعة الدراما السعودية بتقديمه أعمالة تاريخية تجنح نحو النوستالجيا في العاصوف بجزئيه، ثم أتبعهما بمسلسلي (مخرج 7، وممنوع التجول) من نوعية (الجرأة الاجتماعية) التي أثارت جدلا كبيرا داخل المجتمع السعودي، وهو ما دشن عهدا جديدا في صناعة دراما سعودية تحاكي الدرامات العربية وتصبح منافسا قويا في كعكة الدراما الخليجية.
ولعله يبدو ملحوظا أن النقلة النوعية التي فتحت الباب لظهور نخبة كبيرة من النجوم السعوديين، بدأت من خلال المسلسل الكوميدي (طاش ما طاش) الذي بدأ عرضه عام 1993، ويعتبر من أنجح الأعمال التلفزيونية في السعودية والعالم العربي، وطلبت مكتبة الكونجرس الأميركية بعض أجزاء العمل لوضعه في أرشيف المكتبة، والذي استمر 20 عاماً حتى عام 2010 بعدد حلقات 540 على مدار 18 موسما، وتوالى إنتاج الأعمال السعودية التي حققت نجاحاً كبيراً، وكان أبرزها ما عرض في السنوات الخمس الأخيرة، وأغلبها ثمار تعاون بين الإمارات والسعودية من ناحيتي الإنتاج والتصوير، من خلال تعاون مع (twofour54) في أبوظبي، على تنفيذ بعض الأعمال الدرامية السعودية، ونالت صدى كبيراً من أبرزها مسلسلا (حارة الشيخ، العاصوف)، وعملت هذه المسلسلات على عودة الدراما الحجازية بعد غيابها عن الساحة لفترة طويلة للشاشة الفضية من جديد.
حاكى (حارة الشيخ) الذي عرض عام 2016، واقع مدينة جدة في أواخر القرن الـ 19، وكتبه بندر باجبع، وأخرجه المثنى صبح، وشارك فيه أكثر من 60 ممثلاً من أبرز نجوم الدراما السعودية والخليجية هم (محمد بخش، وجميل علي، وعبد المحسن النمر، ويوسف الجراح، وخالد الحربي، ومجدي القاضي، وسناء بكر يونس، وجنات الرهبيني)، أما العاصوف فقد عرض قصة مدينة الرياض للجيل الجديد فى حقبة السبعنيات، من حيث الشكل والبيوت والمواصلات وطريقة التواصل بين الناس فى الحارة بعد التغييرات الاقتصادية التى حدثت، فيما مايشى بأنه عبارة عن مسلسل متعدد الأجزاء يعنى بـ (البيئة السعودية) القديمة على طريقة (باب الحارة)، وقد بدا ملحوظا في حلقاته احتفاءه كثيرا بالثقافة المصرية طوال الحلقات، فقد امتلأت جدران البيت الذى تسكنه (عائلة الطيان) العمود الفقرى للأحداث بصور (عبد الناصر وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش)، وغيرهم من فنانى مصر الذين على ما يبدو قد أثروا وجدان جيل السبعينيات الذى تنصب عليه أحداث المسلسل، والتى تهتم كثيرا بتلك التطورات التى طرأت على المجتمع السعودى آنذاك.
وبعد أن اختفت الأعمال الدرامية السعودية التي تحاكي المجتمع السعودي لفترة طويلة، عادت أكثر قوة في السنوات الأخيرة، في ظل القرارات والنهج والسياسي التي تتبعها السعودية نحو التطور والانفتاح على كافة الصعد، سيجعلها تشهد طفرة في المجالات الفنية أو التكنولوجية، وهذا ما بدا واضحاً في الفترة الأخيرة، وهو ما يؤكد أن السعودية تشهد في هذه المرحلة نقلة كبيرة على صعيد الفنون، وأن ما يحدث الآن يعد مرحلة جديدة ستعمل على إيجاد سوق فني كبير، يتنافس فيه كل أطياف الفن السعودي، بدءا من الفنانين الكبار والشباب، وكذلك من المنتجين والمخرجين وقطاعات الإنتاج الكبرى، وظني أن الحركة الدرامية في المملكة ستشهد تطورا كبيرا في الفترة المقبلة، وأن الجميع سيتنافس على تقديم أعمال تعبر عن الحياة الاجتماعية في السعودية، وهو ما يعد إنجازا حقيقيا على أرض الواقع.
ولاشك أن السعودية تمر بلحظة تاريخية ونقطة تحول هائلة، تشهدها على كافة الصعد والمجالات، منها إنتاج المحتوى والصناعات الثقافية والإبداعية، التي تشمل المحتوى التلفزيوني والرقمي والسينمائي، وكل الفنون التي تظهر عبر وسائل الإعلام والسوشيال ميديا وإنتاجاتها، وقد بدأت مساعي حكام المملكة العربية السعودية بـ (رؤية 2030)، أن تتحقق وهى خطة ما بعد النفط، والاتجاه نحو التنوع الاقتصادي والمعرفي، وعدم التركيز فقط على عائدات النفط، بالمزيد من الإنتاجات في كافة الميادين، وهى في هذا تواكب لحظة بلحظة التطورات التكنولوجية والمعرفية في العالم، ما جعلتها جزءا من منظومة تواكب ما يحدث في عالم الثورة التكنولوجية والذكاء الاصطناعي، فمثل هؤلاء القادة قادرون على تغيير واقع شعوبهم، وإحداث نقلة نوعية في بلادهم.
وعليه فإن الدراما السعودية تعيش طفرة نوعية وباتت أكثر جرأة في تناولها لمشاكل المجتمع في سبيل تسليط الضوء عليها وعلاجها، إنطلاقا من أن دور الدراما الأول هو تسليط الضوء على المشكلة التي يعاني منها المجتمع وليس البحث عن حلول لها لأن هذا الأمر من اختصاص المسؤولين، ومن ثم بات للدراما صوتا مسموعا أقوى بكثير من السابق، مثل مسلسل (الساكنات في قلوبنا) الذي سلط الضوء بشكل جرئي على مشاكل المرأة السعودية المغلوبة على أمرها، وكانت الدراما السعودية شهدت طفرة كبيرة من خلال بعض المسلسلات التي خرجت من عباءة الكوميديا والتي كانت ذات الغلبة في الساحة الفنية.
ونجحت مسلسلات مثل (أسوار، الساكنات في قلوبنا، أيام السراب) في جذب اهتمام المشاهدين بطرحها لقضايا مهمة تمس المجتمع وتسلط الضوء عليها مما حرك المياه الراكدة، حتى باتت الدراما السعودية مؤثرة بشكل كبير في علاج قضايا المجتمع، ويبدو واضحا أن ما يقدم ليس من باب المبالغة غير الجيدة، بل يأتي تحت تصنيف (الجرأة الاجتماعية) فهي تطرح القضية بكل صراحة لتسلط الضوء عليها، وهذا هو المطلوب، فالعمل الفني الدرامي تجاوز حاليا مرحلة التطبيل أو معالجة أمور سطحية وبشكل ساذج، وبات هناك نقلة كبيرة في نوعية المسلسلات السعودية وباتت أكثر قوة في تصوير مشاكل المجتمع وهذا هو الدور الحقيقي لها، وربما المشاكل التي تطرحها هذه المسلسلات قد لا تكون موجودة في كل بيت، لكن تلك المشاكل تبقى عامة وشائعة في المجتمع، ولا ننسى أنه يجب على الأعمال الدرامية أن تكون أكثر شمولية وتعالج القضايا العامة بكل جرأة وشجاعة في ظل أن هناك الكثير منها وهى أكثر استحقاقا للمعالجة والطرح.
ومؤخرا شاهدت ثلاثة مسلسلات هى (وساس، رشاش، اختطاف) والأول كان يعرض على منصة (نتفلكس) ببصمة إخراجية للسعودية الواعدة والقدمة بقوة (هناء العمير)، وهو يلقي الضوء على بعد جديد بإيقاع سريع مقارنة بالأعمال الدرامية الأخرى، حيث تقدم كل حلقة لغزا جديدا يجعل المتابع متشوقا لمتابعة المسلسل ليكتشف جميع الأسرار في النهاية، أما (رشاش) فقد جاء بتوقيع المخرج البريطاني (كولن تيج)، وينتمي إلى نوعية الأكشن المخلوط بالرعب والإثارة وهو نوع جديد تماما على الدراما السعودية، أما الثاني فينتمي إلى (الدراما الاجتماعية) بتوقيع المخرج البريطاني (مارك سلبيبرز)، ويعالج قضية شائكة في مجتمع متحفظ يرفض عرض مشاكله على الشاشة، وهنا تصبح الدراما صوت المجتمع ولا بد أن تصور كل مشاكل المجتمع ولو بالتضخيم كي يركز الضوء على ما يحدث فعلا، فالدراما لا يجب أن تصور المجتمع كما هو بل لا بد أن يكون هناك مبالغة محمودة كي يجذب الانتباه لحل المشكلة.
وفي النهاية يطيب لي القول: بأن الدراما السعودية تخلصت من كثير من عيوبها التي تتعلق بالكتابة المتحفظة الصورة غير الجاذبة، والتحول نحو فتح آفاق أوسع من باب التكنولوجيا التي تضفي مزيدا من الأبهار في الصورة وجرأة المحتوى، بحيث تناسب رؤية المملكة (2030) لتصبح رافدا من روافد الثقافة والوعي وبالتأكيد ستصبح في وقت قريب جدا قوة ناعمة تسوق للملكة ثقافيا سياسيا واقتصاديا وسياحيا، فما زال كثيرون يطرحون تساؤلات عريضة ومحقة عما إن كان الدراما السعودية يمكنها أن تلعب هذ الدور، على الرغم من الإقرار أنها في بعض إنتاجاتها، وعلى الأخص تلك التي تقودها تجارب شبابية اتخذت من اليوتيوب والأفلام طريقا للتعبير عن أنفسها، نجحت في بعض الأحيان في نقل صورة السعودي للخارج، كما يليق بالحراك والتطور الذي تشهده المملكة في مختلف الجوانب .. أعتقد أن الإجابة على تلك التساؤلات أجابت عليها كثير من الأعمال التي عرضت مؤخرا، وهو ما يؤكد أن الدراما السعودية قادمة للمنافسة في كعكة الدراما العربية قريب جدا.