كتب : محمد حبوشة
الممثل هو صانع العلامات الحاضر في العرض المسرحي أو على شاشتي السينما والتليفزيون.. وعلامات الممثل المشتغلة في حقل الدلالة تشتمل على تركيب علاماتي مزدوج في البث والاستقبال، فهناك المستوى البصري في التشخيص العلامي الذي يتمثل بحركة وانتقالة وتشكيل جسد الممثل في الفضاء، أما المستوى السمعي في التشخيص العلامي فيشمل تصويت الكلمة والصوت الصادر من الممثل، وعليه فالممثل علامة مركبة تبث مدلولاتها المشتركة في آن واحد وفي لحظة العرض بوحدة فنية لتشكل معنى اللحظة، وعلية فأن فن التمثيل كعلامة ديناميكية فاعلة في العرض المسرحي أو التليفزيزني أو السينمائي تتطلب دراسته السيميولوجة وذلك بإخضاع هذه التوليدات إلى تركيب خاص من التوازن بين العلامة البصرية من جهة والعلامة السمعية من جهة أخرى وإدماجهما في وحدة تركيبية منضبطة تعبر عن الفعل المؤدى المرسل من قبل الممثل كدالة بهدف إيصالها للمتلقي في لحطة الحضور الجامعة لطرفي العملية الإرسالية.
وانطلاقا من هذا المبدأ يمكن تعريف فن التمثيل (هو التصوير المجسد للصورة الذهنية وهو إيصال محتوى و الانفعال والعاطفة إلى الجمهور)، أن ما يقوم به الممثل من عملية إبداع فني هو محاولة لتجسيد صورة ذهنية بهدف إيصال هذه الصورة على مستوى العلامات البصرية والعلامات السمعية إلى المتلقي ضمن مساحة التلقي الشاملة المتمثلة بالعرض المسرحي أو المسلسل التليفزيوني أو الفيلم السينمائي، المؤلف بالأساس من مجموعة مركبة من النصوص التي تتشكل بنياتها الإرسالية أو الاستقبالية لتنتج الخطاب الدرامي الكامل، وهو مالم ألحظه على الإطلاق في حالة الممثلة التونسية (درة) على مدار مسيرتها الفنية التي تقترب من عشرين عاما في مصر، فعلى الرغم من أنها حاصلة علي شهادة الدراسات المعمقة في العلوم السياسية من تونس العاصمة، ودخلت ميدان الفن إثر انضمامها لفرقة التياترو، حيث شاركت لأول مرة في مسرحية (مجنون) للمخرج توفيق الجبالي، ومثلت عدة أدوار في السينما التونسية، وشاركت في أفلام عالمية إلا أنها تفتقد لابسط مقومات الممثل الحقيقي عبر أدائها الباهت والذي لايمكن أن يلفت الأنظار إليها على الأقل بالنسبة لي كمراقب جيد لحركة الفن في عالمنا العربي.
درة من وجهة نظري – الشخصية طبعا – لا تملك حرفية التقمص، وأن تتلبس كممثلة شخصية مختلفة عن شخصيتها الحقيقية، وتعيشها بشكل يقنع المشاهد أن ما يحدث أمامه حقيقيا، وهكذا فلا يستطيع الممثل أن يقول أنه قد نجح في أداء دوره، إلا إذا استطاع إيصال رؤية الكتاب التي أرادها ورسمها للشخصية على الورق، ليتلقاها المشاهد مستعينا في هذا بكافة أدواته، بصوته ونبرته وارتفاعه، بملامح وجهه، بحركة جسده، وحتى في بعض المدارس التمثيلية بالانطباع النفسي الذي يتركه لدى المشاهد، فلابد لإتقان عملية التقمص للشخصيات الدرامية والعمل على محاكاتها، وتجسيد ملامحها وصفاتها وإظهار السيناريو المكتوب متلبسا في الشخصيات أن يكون نابعا من موهبة حقيقية يتمع بها الممثل أولا وقبل كل شيء.
ولقد شاهدت لدرة مؤخرا مسلسله المكون من خمس حلقات فقط (حكاية غالية) ضمن حواديت (زي القمر)، ولم ألمح في الواقع أي تطور أو تنوع ما في الأداء، بل على العكس تماما فقد تركت لدي انطباعا سلبيا يؤكد ذلك الحاجز النفسي الذي وضعته بيني وبينها من زمن بعيد، حيث لعبت شخصية غالية بطريقة باردة لاتنم عن إدراكها بأن التمثيل (أصبح علما والأداء فنا)، ناهيك عن أن القصة التي كتبها كل من (أحمد فرغلي وأحمد حسني) فشلت في إثبات حبكتها الدرامية، رغم أن فكرة معالجة (الزواج عن طريق الفيس بوك) تعتبر جديدة إلى حد ما على الدراما في موضوعها، إلا أنها افتقدت لحرارة القضية ولوت عنق الحقيقة بطريقة ساذجة تنم عن (سلق) واضح ومتعمد في صناعة الدراما الجديدة بطريقة رديئة للغاية، فطريقة الزواج التي عالجها المسلسل هى طريقة تقليدية (زواج صالونات) بحسب تعبير (غالية) نفسها، فقط كان الفيس بوك لربط العريس بالعروس بعد الاتفاق على الخطبة، وليس قناة نمى من خلالها الحب والتجاذب حتى تصبح علاقة زواج على الطريقة (الفيسبوكية) بحسب زعم صناع العمل.
ولا أنكر أن هنالك أداء جيدا للغاية من جانب كل من (أحمد حلاوة، مراد مكرم، فراس سعيد، وهشام إسماعيل، فرح يوسف)، بفضل توجيهات المخرجة شيرين عادل ، والتي على مايبدة قد أعيتها الحيل في توجيه (درة) على نحو أفضل لتتناغم مع باقي طاقم العمل، وخاصة أنها تجسد شخصية فتاة تحب الفن لدرجة كبيرة، وبالأخص الموسيقي، ورغم أنها تتمتع بدرجة كبيرة من الجمال، إلا أنها لم تتزوج إلا في مرحلة متقدمة من العمر وبمرور الأحداث سوف تتعرض (غالية) لحادث ينتج عنه استئصال الرحم، وبعدها يحاول والدها إقناعها بالزواج وبالفعل تتزوج من مراد مكرم في النهاية بعد فشل زواجها الأول بعد أن تكتشف أنها لم تدرس شخصيته بطريقة كافية فتطلب الانفصال.
حاولت التقاط مشهد واحد يميز أداء (درة)، لكني لاحظت سيرها على وتيرة واحدة سربت بالضروة حالة من الملل، فلم يكن حتى لديها أدني إحساس بعزفها المزيف على آلة (الكلارينيت) التي تتطلب التحليق عاليا في أحواء روحانية مستمدة من طابع الشجن الذي يقترب في فعله من أنين الناي، ومن ثم ينعكس على وجه يعبر عن جوهر المعاناة أو الحزن النابع من طبيعة تلك الآلة، لكن للأسف لم يصل إحساسها المفقود تماما لمشاهد كان يتمنى أن يرى حكاية من خمس حلقات بإيقاع سريع ويحوى إثارة مطلوبة في مثل تلك الأعمال، بحيث تترك أثرا ما ولو نفسيا لدى مشاهد اعتاد الترهل والمط والتطويل في مسلسلات الثلاثن والستين والتسعين حلقة، والتي أتعبتنا كثيرا في رمضان وغيره من المواسم الموازية، في تقليدها الأعمي للدراما التركية وغيرها من درامات الملل الأسيوية والأسبانية وغيرها.
والحقيقة أن حاولت جاهدا أن أفتش في طريقة أداء (درة) ليس في هذا المسلسل بعينه ولكن على مدار مسيرتها التي تمتد لعقدين عن أي مدرسة تمثيلية تنتمى هذه الممثلة التي تحظى باهتمام شركات الإنتاج والمخرجين في مصر، رغم أنها لم تتطور في طريقة أدائها النمطية منذ بداية وقوفها أمام الكامير وحتى اليوم – وهو ما يفجر لدي علامة استفهام كبيرة – ولكني عبثا فشلت في تصنيفها، فلاهي تتبع مدرسة (ستانسلافسكي) الذي يعنى بالخيال، حيث قدرة الممثل على تخيل الشخصية التي سيؤديها، وكيف يمكنها أن تتصرف في الواقع، والارتجال في أسلوب الشخصية في التعبير عن نفسها، وكذلك تحليل السيناريو والشخصية للوصول لجوهرها والتعبير عنها، ولاهى تتبع مدرسة (لي ستراسبيرج) الذي يعتمد في منهجه على الذاكرة الشعورية، حيث يرى ضرورة امتلاك ذاكرة شعورية قوية واستحضارها عند الأداء، فيجب على الممثل أن يستحضر موقفا وشعورا قويا حدث له في الواقع مقارب أو شبيه لحالة البطل، أو على الأقل قادر على بث مشاعر مشابهه لما يجب أن يظهر على الشاشة، ليقوم الممثل باستحضار هذه الذكرى وتلبث مشاعرها، ثم تطويع الأداء في المشهد المطلوب باستخدام مشاعره وانفعالاته من هذه الذكرى الواقعية، وهكذا فإن حضور المشاعر والعاطفة وزيادة التأكيد على نفسية الأبطال، والتعبير عنها بملامح الوجه ولغة الجسد والصوت، وهى كلها علامات وميزات لا توجد عند (درة).
وحتى لم ألمح أي تشابه يذكر في طريقة أدائها تقترب من أسلوب (ستيلا أدلر)، الذي قام بالدمج بين فكرة الخيال القائمة عليها مبادئ ستانيسلافسكي، وبين الذاكرة الشعورية لستراسبيرج، ففي منهجها يمكن للممثل أن يعمل خياله لتخيل كيف كان الشخص في الواقع سيتصرف في هذا الموقف مع استدعاء مشاعر من ذاكرته تساعد الممثل على الأداء وتقمص الدور، وأيضا لم تقترب في أسلوب أدائها الرتيب من مدرسة (سانفورد ميسنير)، الذي اعتمد أيضا على مبادئ ستانسلافسكي، ولكن ميسنير دعا الممثل إلى (الخروج من رأسه) فلا يجب أن يحيك الممثل الدور والمشاعر والأفكار للشخصية التي يلعبها في رأسه ليتقمصها، بل ركز على خروج هذه المشاعر، وتفاعلها مع الممثلين، لذا، فإن ميسنير دعا متبعي مدرسته في الأداء لتركيز على الممثل الآخر في المشهد، أن يكونوا رد فعل، وهذا التكنيك نابع من إيمان ميسنير أن التمثيل فعل ينتج من التفاعل مع الآخرين ومن ردود أفعالهم على الأداء نفسه، وهو مالم تفعله درة أبدا مع الآخرين الذين يشاركونها نفس العمل.
باختصار شديد ودون الخوض أكثر في التفاصيل، أصبحت الممثلة التونسية (درة) لغز محيرا بالنسبة لي، حيث يسند لها أدوار وبطولات لا تستحقها جراء إنعدام الموهبة، اللهم إذا كانت هنالك أسباب أخرى لدي المنتجين والمخرجين لايعلمها إلاهم، ومن ثم نقول لهم يا سادة: رحمة بنا من فرض أذواقكم التي تخاصم الإبداع الحقيقي في التمثيل، فالأداء التمثيلي لابد أن تتوفر فيه خصائص شخصية الممثل الإنسان الموهوب، والذي يملك القدرة على عملية التحول إلى الصدق والإيمان، بحيث يتحول فعل الأداء التمثيلي على الشاشة، ويتطابق مع الحقيقة العامة بهدف تحقيق فعل الإيهام، فعندما تصل هذه الرسالة الأدائية بوعيها بالإيهام، فإن هذا يعني إن سلطة القراءة التأويلية قد هيمنت عليها دالة الاندماج بحيث تحول المتلقي إلى مستقبل متعاطف مندمج مع مستوى الأداء التمثيلي المتقمص الذي تفتقده درة للأسف .. أليست تلك هى الحقيقة الدامغة في فعل الأداء التمثيلي السليم وعلى نحو صحيح يؤكد صدق الموهبة؟