(حكايات من زمن فات) .. دموع علي الكسار !
بقلم : سامي فريد
لم يصدق تلميذ الشهادة الابتدائئية عام 1951 نفسه وهو يقرأ الإعلان في لوحة العرض عن أنه يوم الجمعة بعد القادم تقدم فرقة وزارة المعارف المعمومية عرضا مسرحيا في المدرسة مدرسة (المجلس)، أو مدرسة إمبابة الابتدائية على ترعة السواحل وسط حقول إمبابة.. وأن بطل العرض المسرحي هو الفنان الكبير على الكسار!
أسرع التلميذ إلى البيت وكانت الأسرة من عشاق فن علي الكسار.. وهم من وراد مسرحه في عماد الدين.. أو على مسرح روض الفرج في الصيف.
قال التلميذ والفرصة توجه أنهم في المدرسة قد أعلنوا عن عرض مسرحي يقدمه مسرح الوزارة في مدرستهم ويرأس فرقة الوزارة الفنان الكبير الأستاذ علي الكسار.
تسبق هذه الحكاية حكاية أخرى حزينة عاد بعدها الأستاذ علي الكسار من رحلته مع فرقته في لبنان وقد أصابته كارثة مالية عصفت بميزانية المسرح وإيراداته فاضطر إلى إغلاق مسرحه.. ثم تقدم بطلب إلى وزارة الشئون الاجتماعية لتقدم له معاشا شهريا يستعين به على حياته.. فقامت الوزارة بإلحاقه بمسرح وزارة المعارف.. ثم كانت زيارة الفرقة لتقديم عرضها المسرحي على جمهور المدرسة في إمبابة.
وشاهد تلميذ الابتدائي عمال الفراشة وهم يضعون الطاولة الخشبية التي ستكون المنصة المسرحية في وسط الفناء وارتفاعها لا يزيد على نصف المتر مع درجتين خشبيتين لصعود الممثلين لتقديم عرضهم ثم حاجزا من قماش يقوم المملثين من ورائه بالاستعداد للصعود إلى المسرح..
ثم جاء يوم العرض..
وحتى اللحظة الأخيرة لم يكن أحد في كل إمبابة.. ولا كل من بلغه خبر العرض المسرحي يصدق ما يحدث حتى اقتنع رب الأسرة أخيرا بكلام ابنه فحجز تذكرتين قيمة التذكرة عشرة قروش.. وقال الأب لنفسه إنه حتى ولو لم يكن الفنان على الكسار في الفرقة فلن يحرم ابنه من رؤية العرض أيا كان.
جلس الأب بكامل حضوره بطربوشه وبذلته وكل هيئته في الصف الأول يترقب العرض.
ثم بدأ صعود الممثلين وكلهم من الهواة لتقديم العرض المسرحي حتى جاء دور الفنان علي الكسار الذي صعد إلى المسرح فلم يقابل بأي اهتمام لأن أحدا إما لم يعرفه.. أو لم يصدق أنه بالفعل الفنان علي الكسار صاحب الفرقة المسرحية الكبيرة والأفلام السينمائية المعروفة وكان فيها (على باب والأربعين حرامي)، أو (نور الدين والبحار الثلاثة) أو (سلفني 3 جنيه)، وغيرها حتى أفلامه الأخير بعد إفلاسه وكان على الكسار يقبل فيها أدوارا بسيطة لا تليق به كفنان كبير مثل أدوار في فيلم (آخر كدبة أو أمير الانتقام) أمام انور وجدي أو (رصاصة في القلب) مع محمد عبدالوهاب.
لم يصدق أحد من الجمهور أنهم يشاهدون بالفعل على الكسار أمامهم .. لكن والد التلميذ وكان واحدا من جهور علي الكسار في مسرحه في ذروة نجاحه وتألقة شاهد على الكسار فقام ينهض واقفا دون يهتف وكله دهشة: الله .. ده صحيح يا ناس.. ده الأستاذ علي الكسار فعلا.
سمعه الفنان علي الكسار فترك دوره في العرض وتقدم منه يسأله:
إنت حضرتك تعرفني يا أفندي؟!
ورد الرجل:
يا خبر يا أستاذ علي ده أنا والأسرة كلها ما سبناش ولا مسرحية لك إلا وشفناها.. وشفنا معاك الست عقيلة راتب والأستاذ حامد مرسي.. والأستاذ إبراهيم حمودة.. وكمان إسماعيل يس وهو بين الفواصل بيقدم المونولوجات.. وبعدين كما كان في الست زكية إبراهيم اللي بتمثل دور حماتك أه ومرتك.. و.. آه.. وكمان صباح ونعيمة ولعة في استكشاتهم الفكاهية.. وما ننساش كمان يا أستاذ علي لما كنت بتنزل الصالة تتكلم مع الجمهور.
قالها علي الكسار وهو يلتفت إلى الممثلين الهواة من خلفه:
قول لهم يا أفندي أنا مين.. لكل الناس أنا مين والناس مش مصدقة إن أنا دلوقتي بأخد معاش من وزارة المعارف.. الكسار بقى بياخد معاش زي العاطلين!!
قالها على الكسار وقد ملأت الدموع عينيه.
ووقف من خلفه واحد من الممثلين يستعجله ليعود إلى العرض لكن الكسار لم يرد واستدار نازلا من فوق الخشبة وهو يسمح دموعه قاصدا الخروج من المدرسة حتى أسرعوا من خلفه ليعيدوه إلى العرض.. لكنه عاد ولم يتكلم وظل يقاوم الدموع حتى انتهي العرض.. وكانت هذه ربما آخر مرة يقدم فيها على الكسار عرضا يتقاضي فيه من وزارة المعارف معاشا لا يليق به بحسب معاشات الموظفين عام 1951م!!
ثم تمضي الأيام أو الشهور حتى يضطر ماجد الكسار ابن الفنان على الكسار إلى إدخال والده مستشفى قصر العيني القديم لإجراء جراحة لاستئصال سرطان البروستاتا.. ويظل على الكسار طريح سريره في العنبر المجاني الذي يضم عشرين سريرا حتى يلاقي نهايته الحزينة ولم يترك لابنه ماجد سوي عصاته التي كان يتوكأ عليها في أيامه الأخيرة.
رحم الله الفنان الكبير وجزاه كل الخير بما أسعدنا وملأ به حياتنا بالفرحة والابتسام.