كبارهم مُكرّمون وكبارنا مُتَجَاهَلون
بقلم : محمود حسونة
اخترعوا للموظفين في المؤسسات الرسمية تقليعة سن المعاش، وحددوا الستين أو الخامسة والستين عمراً للإحالة للتقاعد، وتحويل الإنسان من عنصر منتج إلى عنصر غير مفيد، وكأن هذا هو السن الذي يتوقف فيه العقل عن التفكير ويتحول فيه الجسم إلى جثة عاجزة، وتحال فيه قدرات الإنسان على العطاء إلى التقاعد.
ولأنها إرادة الماسكين بزمام السلطة والواضعين للوائح والقوانين والذين يرون التقاعد مصيراً حتمياً وإجبارياً لكل البشر ولا يستثنون في ذلك سوى ذواتهم وأهل الثقة، فقد أصاب العجز الستيني كل من كانت أقدارهم العمل تحت سطوتهم، ولم ينج من ذلك سوى الذين اختاروا العمل الحر وسيلة لكسب لقمة العيش، ومن أوائل المتحررين من قيود المعاش والتقاعد الإجباري والعجز المقنن المبدعين والفنانين، وتابعنا مسيرة الكثير من فنانينا ونجوم العالم الذين ازدادوا تألقاً بعد الستين، ومبدعينا ومبدعي العالم الذين قدموا الأفضل خلال مسيرتهم بعد الستين، ولم يمثل هذا العمر حداً فاصلاً بين رحلة العطاء ورحلة السكون والكمون.
لن ننسى أن الفنانة أمينة رزق ظلت تعمل بكل همة ونشاط وتألق لما بعد التسعين، وأن الفنانة نعيمة الصغير ازدادت لمعاناً بعد الكبر، وأن عمر الحريري ازداد نضوجاً عندما ازداد شعره بياضاً، وأننا عرفنا عبد الوارث عسر كهلاً، وأن نجيب الريحاني توفي عقب انتهائه من تصوير فيلم (غزل البنات) ولم تتح له فرصة مشاهدته، وعلى نفس النهج كان محمود المليجي وزكي رستم وغيرهم الكثير.. وأن فريد شوقي استمر نجماً وبطلاً حتى أقعده المرض.
في المقابل فإن بعض الفنانين شردهم وقتل معنوياتهم تجاهلهم بعد الكبر، مثل فاطمة رشدي التي تألقت مسرحياً وسينمائياً، ومارست التأليف والإخراج بجانب التمثيل وهو ما دفع نقاد عصرها لإطلاق عليها لقب (سارة برنار الشرق)، وبعد التقدم في السن اختفت نحو 30 عاماً لتظهر في التسعينات وهي تعيش حياة بائسة في غرفة متواضعة، ولا تستطيع تدبير نفقات علاجها، وزارها فريد شوقي ووفر لها مأوى يليق بها حتى الرحيل.
اليوم لدينا عدد من الفنانين الكبار الذين أحالهم المنتجون إلى التقاعد رغم قدرتهم على التمثيل ورغم أن أدوار كبار السن يحتكرها عدد محدود يطل في معظم الأعمال الفنية، وهذا التعسف مع الكبار والرواد لم يستهدف الممثلين فقط ولكن أيضاً كبار مبدعينا من المؤلفين والمخرجين، وجميعهم أسماء معروفة ملأوا حياتنا بهجة وقدموا عبر تاريخهم أعمالاً تباهينا بها جميعاً، ولكن يبدو أن أصحاب القرار لا يروق لهم التعامل مع المخضرمين إبداعاً وتمثيلاً، وهو ما كان سبباً في أن لا تخلو خريطتنا الإبداعية من كثير من الغث الذي لا يغني ولا يسمن، وكل ما يفعله أنه ينشر البلاهة الفكرية بين المشاهدين.
تجاهل المنتجين للكبار، وما تبعه من تقوقعهم بعيداً عن الشاشة والأضواء فسح المجال أمام صناع الشائعات لترويج سخافات عن كبارنا، مستغلين السوشيال ميديا التي أتاحت لكل من هب ودب أن يقول ما يشاء عمن يشاء بلا رقيب ولا حسيب ولا ضمير، ومنها ما يتعلق بالموت وهى الشائعة التي لم يسلم منها أي من الرواد، بجانب شائعات المرض والعوز وخلافه، وآخر هذه الشائعات ما تم نسبه للفنان أسامة عباس عبر حساب وهمي يحمل اسمه على أحد مواقع التواصل الاجتماعي ويظهره كمن يتسول من المنتجين فرصة عمل، وهو ما نفته نقابة المهن التمثيلية. ورغم أن الوقوف أمام الكاميرا حق للفنان أسامة عباس ولغيره من شيوخ التمثيل، فإن التسول ليس من شيمه ولا شيم غيره ممن تعرفنا عبر أعمالهم على قيمة الكرامة والاعتزاز بالنفس وبالوطن، ولن ننسى له الكثير من أعماله وبينها (رأفت الهجان، بوابة الحلواني، أوبرا عايدة، الدالي، سابع جار) وغيرها من الأعمال الخالدة في الوجدان.
ندرك جميعنا أن للزمن قوانينه التي لا يمكن الهروب منها، وان النجومية حق للنجوم الصاعدين، ولكن أيضاً للكبار حق التواجد وحق الاحساس بأنهم مكرمون بيننا وأنهم ليسوا من خيل الحكومة، وأن وجودهم فيه ثراء لأي عمل فني يشاركون فيه، وأن قانون الحياة يفرض المزج بين خبرات الكبار وحماس ولمعان الكبار وهو ما يمكن أن يفرز الأفضل والأجدى والأكثر تميزاً.
أسامة عباس مجرد نموذج، وما أكثر من يماثلونه والذين أطفأ المنتجون عليهم الأضواء، ورغم ذلك فإنهم أبداً لن يطفئوا أنوارهم في حياتنا، وسيظلون أيقونات نقدر إبداعاتها، ولكن قدرهم التواجد بين أناس لا يجيدون سوى إطلاق ونشر وترويج الشائعات عنهم، وفي المقابل لو نظرنا إلى الغرب فغير بعيد حصول الفنان الانجليزي أنطوني هوبكنز قبل أشهر على جائزة أحسن ممثل وهو البالغ من العمر 83 عاماً! هذا العمر لم يمنع شركات الانتاج العالمية من أن تسند إليه بطولة فيلم (الأب) ولم يعقه من أن يتألق فيه ويبهر مشاهديه حول الصزفيا لورين
عالم وأن تقرر لجنة الأوسكار منحه دون غيره من مختلف الأجيال أرفع جائزة سينمائية عالمية.
ليس أسامة عباس وحده الذي يتجاهله منتجونا، وليس هوبكنز وحده الذي يحترم ويقدر موهبته المنتجون، وخلال هذا العام أعادت منصة نتفليكس النجمة صوفيا لورين إلى الشاشة بعد أن أسندت إليها بطولة فيلم (الحياة المقبلة) والذي تم عرضه في نوفمبر الماضي، وقد حدث ذلك وهي تبلغ 86 عاماً. والنجم العالمي روبرت دي نيرو تم ترشيحه العام قبل الماضي لجائزة أوسكار أحسن ممثل عن بطولته لفيلم (الرجل الأيرلندي)، وغير هؤلاء الفنانين الكثير.
العالم يكرم نجومه الكبار، ويدرك أن الفنان كلما تقدم في العمر يزداد لمعاناً وبريقاً ويستحق من أصحاب القرار في المجالات الفنية كل التقدير والتكريم بإتاحة الفرص له ليظل موجوداً وليزداد تألقاً، ونحن هنا نحكم على بعض كبار فنانينا بالاعدام الإبداعي بتجاهلهم وإطفاء أضواء موهبتهم قبل الأوان، وذلك رغم أن قيادتنا السياسية لا تتوانى عن توفير الرعاية الصحية والتكريم لفنانينا الكبار.
أزمة أصحاب القرار في عالم الفن التعامل بمنطق الشللية التي تفشل أعمالاً وتهدم مواسم وتسيء إلينا جميعا غير مدركين أن الكبار سيظلون كباراً في أعيننا بصرف النظر عن مواقف شركات الانتاج منهم.
mahmoudhassouna2020@gmail.com