في الذكرى الـ 28 لرحيل (بليغ حمدي) .. تعرف على الأغنية التى أبكته هو ووردة
كتب : أحمد السماحي
إذا كان (زرياب) تلميذ (إسحاق الموصلي) قد زاد في أوتارعوده وتراً خامساً فاكتسب به ألطَفَ معنى وأكمل فائدة، وأدخل على الموسيقى مقامات كثيرة لم تكن معروفة قبله، فإن (بليغ حمدي) الذي نحيي اليوم الذكرى الـ 28 لرحيله، استطاع أن يستوعب كل ذلك ويضيف آلاف من الأوتار التى تعزف على إيقاع المشاعر الإنسانية الرقيقة والغالبة على كل معنى وقيمة، فتميزت ألحانه للأغنية المصرية بالشكل القومي، وتميز عن جيله وكل من سبقوه باستلهام الألحان من التراث، وإعادة تقديمها في شكل مبتكر يناسب العصر وإيقاعه ، ولم يكن الإيقاع بالنسبة له هو الميزان الإيقاعي التقليدي بل إنه ذلك الذي يمثل نبض الموسيقى الخفي .
وعلى صغر سنه في بداياته الموسيقية فقد تعددت منابعه، حيث أعطى اهتماماً بالغاً للموسيقى التركية والفارسية وموسيقى الخليج العربي وموسيقى بلاد المغرب العربي وكذلك موسيقى بلاد الشام ، وليس هذا فحسب بل إنه اهتم بدراسة آلات هذه البلدان وإيقاعاتهم ومقاماتهم وأساليبهم في الغناء والتطريب والتأليف الموسيقي، وأقام مزجا حيا بين كل تلك الموسيقات، وهو الذى أدخل التوزيع الآلي في ألحانه، وطور في أسلوب أداء المجموعة الصوتية (الكورال)، فقد أعطى للمجموعة الصوتية المصاحبة للمطرب دوراً بارزاً بعد أن كان دورها ثانوياً ووظف بعض الآلات الجديدة على التخت العربي بطريقة مبتكرة مثل (الساكسفون والجيتار والأورج) ، كما أدخل الموسيقى الإلكترونية في ألحانه ليستوعب في النهاية كل أدوات عصره.
بليغ حمدى لم يكن ملحنا موهوبا فحسب بل ملحن مفكر يلحن لكل مطرب ما هو مناسب لصوته، اليوم فى باب (صحافة زمان) نتوقف مع كواليس آخر ألحانه وهو (بودعك) الذي كتبه ولحنه، وقامت بغنائه أميرة الغناء العربي (وردة)، فقد كان من أهم الأحداث الفنية فى آخر أيام عام 1990 اللقاء الفني بين (ورده) وزوجها السابق والملحن لأكبر عدد من أغانيها الجميلة الموسيقار العائد إلى وطنه بعد غياب أربع سنوات (بليغ حمدي)، ورغم أن الطلاق حدث بينهما قبل عودتهما الأخيرة بعشر سنوات، إلا أنه لم لم يمنع اللقاء الفني بينهما والتعاون.
فبعد سنوات قليلة من حدوث الطلاق وبالتحديد عام 1983 لحن لها قصيدتين من كلمات الدكتور (مانع سعيد العتيبة) هما (حب الحبيب، ووعد الحبيب)، وفى عام 1984 لحن لها (من بين ألوف) كلمات منصور الشادي، وقام (بليغ حمدي) بقيادة الفرقة الموسيقية التى عزفت مع (وردة)، وكان اللقاء الثالث بينهما من خلال أغنية (بودعك) وبدأ بالفعل (بليغ) تلحين الكوبليه الأول من الأغنية، لكن أثناء ذلك هزت حياته أزمة انتحار الفتاة المغربية (سميرة مليان) من غرفة شقته.! مما جعله يهاجر من مصر ويبقى بعيدا عنها خمس سنوات.
وأثناء ذلك لم يهمل أغنية (بودعك) بل كانت هى التى تؤنسه فى الغربة، وينسى مأساته وهو يلحنها، وكان يجري عليها التعديلات تلو الأخرى حتى بلغ عدد التعديلات التى أدخلها على لحن الأغنية أكثر من عشرة، وكان يرسل النوتة الموسيقية الخاصة بالتغيير بواسطة الفاكس إلى (محسن جابر) صاحب ومدير شركة (عالم الفن) التى كانت تحتكر تسجيل أغنيات (وردة)، والذي يسلمها بدوره إلى الموسيقار (أحمد فؤاد حسن) قائد الفرقة الماسية، والموزع الموسيقى (ميشيل المصري) اللذين كلفا من قبل (عالم الفن) بإخراج وتنفيذ اللحن موسيقيا.
وقد سجل لحن أغنية (بودعك) عشر مرات، وفى كل مرة كان (بليغ حمدي) يرسل تعديلا أو تغييرا، فيعاد تسجيل اللحن، إلى أن (فُرجت) أزمة الموسيقار الموهوب، وعاد إلى مصر مكللا بالبراءة، ومحاطا بالتكريم والحب من جانب زملائه وأصدقائه، وكانت المطربة الكبيرة (وردة) فى مقدمة المرحبين بعودة الموسيقار إلى أهله وبيته.
وبعد أن هدأت موجة احتفالات التكريم، وخف الزحام من حول (بليغ حمدي)، فإنه هرع إلى حقيبة يده وأخرج منها النوتة الموسيقية الخاصة بأغنية (بودعك) التى كانت آخر أغنية بدأ بتلحينها قبل أن يغادر مصر، وأراد أن تكون هى أول لحن يسمعه الجمهور منه بعد عودته إلى مصر، وبدأت الجلسات تعقد لدراسة كل التفاصيل الخاصة بالأغنية، كانت المناقشة بين (بليغ حمدي) والموسيقار (أحمد فؤاد حسن) والموسيقي (ميشيل المصري) تدور حول التفاصيل الموسيقية، ومع (محسن جابر) نوقشت تفاصيل تقديم الأغنية إلى الجمهور في إطار يليق بأهميتها، وتحديد الموعد الذي سيستقبلها به سوق الكاسيت على أشرطة عالم الفن.
ونترك (محمد بديع سربيه) صاحب مجلتي (الموعد، ونورا) يستكمل اللقاء كما جاء فى مجلة (الموعد) في شهر يناير عام 1991 فيكتب قائلا: حملت آلة التسجيل وشهدت ولادة لقاء القمة (بودعك) فى ستديو 35 بمبنى إذاعة القاهرة، وهناك فوجئت برؤية أكثر من أربعين عازفا يرافقهم (ميشيل المصري وبليغ حمدي)، وكانت (وردة) تتابع بترقب واهتمام كل ما يدور داخل الاستديو بينما يقوم الموسيقار (أحمد فؤاد حسن) بالإشراف الكامل على تنفيذ ما يتم الاتفاق عليه.
وانتهزت فرصة دقائق راحة طلبها العازفون وكانت عقارب الساعة تشير إلى حلول منتصف الليل، فاقتربت من الموسيقار (بليغ حمدي).
* وسألته كما أغنية لحنتها لوردة بعد أن تم انفصالكما كزوجين؟
قال بليغ: أغنية (من بين ألوف)، وقصيدتين هما (وعد الحبيب، وحب الحبيب).
* لماذا اخترت صوت وردة بالذات لأداء هذه الأغنية؟
عندما أقوم بتلحين كلمات جديدة أتخيل أثناء عملي أنسب صوت يغنيها، ومن يستطيع أن يتعايش مع معانيها، ولم يكن لدي أي شك فى أن هذا اللحن ينطبق على صوت (وردة) وليس غيرها.
* هل صحيح إن تسجيل هذا اللحن بدأ في باريس حيث كنت تقيم؟
بدأ تسجيل هذا اللحن فى القاهرة قبل مغادرتي لها بأيام، ثم أكملته في باريس واليونان، ثم عدت لأجري عليه بعض التعديلات في القاهرة حيث مكان ولادته الأصلي.
* نسمع عن التعديلات الكثيرة التى تدخلها على هذا اللحن حتى هذه اللحظة، فهل هذا هو أسلوبك في تنفيذ أعمالك، أم ينطبق ذلك على هذا اللحن فقط؟
هذا شيئ طبيعي جدا بالنسبة لجميع ألحاني، فعندما أجري البروفات واستحسن إجراء أي تعديل فى مقطع أو آخر فلابد من أن أقوم به وأظل كذلك حتى تظهر الأغنية للجمهور، وهذه التعديلات بدون شك تضفي رونقا جذابا على العمل في صورته النهائية.
* ماذا تمثل لك وردة؟
هى أعظم شيئ في حياتي.!
وتبتسم (وردة) لهذا الإطراء وتقول قبل أن أسألها: بليغ هو بليغ لم يتغير منذ عرفته لأول مرة، رغم الغربة والاغتراب والسنين، إنه كما عهدته وكما عهدناه فنان كبير يحمل الخير للجميع، وأعتبر نفسي أسعد الناس بعودة (بليغ) فهو مكسب ليس لي فقط، بل للفن والأغنية العربية بشكل عام، فلا يمكن أن ننكر دوره السابق والحالي، ودوره المنتظر أيضا في تطوير الأغنية العربية فهو عملاق فني متجدد دائما.
* وأسأل وردة وهل هناك مشروعات فنية أخرى مع بليغ حمدي؟
قالت وردة وهى تبتسم: (بودعك) هى أول حبة وبعدها سوف تكر (المسبحة)، فقد اتفقنا على عدة أعمال منها أغنية للشاعر سيد مرسي بعنوان (بلا سبب)، سوف أسجلها بمجرد الانتهاء من إطلاق (بودعك).
ويبدو أن الاستراحة قد طالت أكثر من المتوقع، فبادر المايسترو (أحمد فؤاد حسن) إلى دعوة (وردة) إلى البدء بالغناء و(بليغ حمدي) إلى متابعة ما يحدث، ووقفت المطربة الكبيرة أمام الميكرفون، وبدأ اللحن ينساب من بين أصابع عازفي الفرقة الماسية، وما أن قالت المطربة الكبيرة (بودعك وبودع الدنيا معك، قتلتني، جرحتني، وغفرت لك قسوتك، باسم الآلام، إرحل قوام، قلبي الكبير حيحرسك فى سكتك، الله معك).
حتى انهارت فى البكاء، وتوقف التسجيل، وفوجئت بـ (أحمد فؤاد حسن، ميشيل المصري، ومحسن جابر، وأعضاء الفرقة الموسيقية) يهرعون إلى حيث تقف (وردة) ورأينا مشهدا هو أقرب إلى المشاهد السينمائية، وإن كان حقيقيا، وجدنا (وردة) باكية بصوت عالي، وإلى جوارها (بليغ حمدي) يشاركها البكاء فى صمت!