رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

(نسمة عبد العزيز) تسعد جمهور الأوبرا ليلة أمس بعزف شجي على (الماريمبا)

عزفها يعكس احساسا راقيا بجوهر الموسيقى

كتب : محمد حبوشة

في لية أمس الصيفية التي تمتعت بنسمات حانية من الهواء المنعش أبدعت عازفة (الماريمبا) نسمة عبد العزيز، في تجوالها الحر في ساحة الموسيقى، وبدت لنا نحن جمهور مسرح (النافورة) بدار الأوبرا المصرية، كفراشة وهى تحلق بنا عاليا في عنان السماء لتسمو بالروح وتنتقل بخفتها ورشاقتها المعهودة من بستان الموسيقي الغربية بإيقاعها السريع إلى بستان النغم الشرقي الأصيل في عذوبة تعكس براعة اللحن الذي يشنف الآذان ويستعيد الذكريات مع موسيقى: (البخيل وأنا ، ماريمبا فيوجن، قرقشندي دبح كبشه، بتونس بيك، تيكو تيكو، على اللى جرى، ماريمبا فلامينكا، قلبي ومفتاحه، وليم تل، سواح، أنت عمرى، ديسباسيتو، حارة السقايين، سواى (غناء علي الحريري)، 3 دقات، أنا كل ما اقول التوبة).

لقد أثبتت لنا (نسمة عبد العزيز) في تلك الليلة الرائعة أن الحياة بلا موسيقى خطأ فادح، وأكدت بعزفها الشجي والشقي في آن واحد أن الموسيقى أسمى من أن تكون أداة للهو والسرور، فهي تطهير للنفوس وراحة للقلوب، وكأن لسان حالها مع حركة كلتا يديها ممسكة بعصاتها الخشبية المنتهية بطرف صلب أسود أو أحمر يقول: أيتها الموسيقى، إن في أنغامك الساحرة ما يجعل جميع لغتنا عاجزة قاصرة عن التعبير عما يجيش بصدرورنا في حالتي الحزن والفرح على حد سواء .. عجيب أمر هذه الموسيقى، إنها لا تمس شيئا إلا جعلته صافيا نقيا، ومن لا يستطيع أن يتجاوب مع الموسيقى فلا قلب بين ضلوعه، خاصة مع عزف (نسمة عبد العزيز) على آلة الماريمبا في بهاء ودعة تخطف القلوب وتنعش الروح.

في هذا الجو المنعش من ليلة أمس الجمعة، عشنا لحظات روحانية صافية مع أنامل نسمة الذهبية، فعندما كان السكون يخيم على كل أرجاء المكان (مسرح النافورة) تتردد أصداء الموسيقى في النفس، كما كانت موسيقاها التي تعبر عن جوهر اللحن الشرقي والغربي تؤكد حب الطبيعة، وتقفز على التضاريس لتؤكد أنها لغة مشتركة يمكن أن تتجاوز الحدود السياسية أو الاجتماعية، لأنها كما شعرنا في لحظات المتعة تلك أن عزفها يعرض جهازنا الحسي لوابل مستمر من الصور السريعة الحركة، ولعل الموسيقى، والمؤثرات الصوتية المصاحبة لها، تؤدي بنا في نهاية المطاف إلى أن تصبح قدراتنا على إتخاذ قرارت عقلانية إزاء أي شيء هينا.

عزفها يعكس احساسا راقيا بجوهر الموسيقى

ظني أن نسمة عبد العزيز من خلال دراساتها الموسيقية أدركت بحسها الفطري أن الموسيقى تعطيك المجال لتهرب من الحياة من ناحية، وأن تفهم الحياة بشكل أعمق من ناحية أخرى، وأن الموسيقى دم يتدفق فى عروق الحياة، بل زهرة تنمو في القلب و الروح، وتزهر في الأفكار ورائحة الحياة،، وفوق هذا وذاك الموسيقى سفر من السماء إلى القلب وهى اللغة الوحيدة التي تخاطب جميع الأمم، ومن ثم هى أجمل هدايا السماء للبشرية الهائمة في الظلام، تنقي وتنير أرواحنا ، وتصبح كطائر يرفرف بجناحين في عنان السماء، وكلما عزفت الموسيقى أو سمعتها تعاظمت فيك الحياة أكثر ولم تعد بركة صغيرة، بل تصبح بحجم المحيطات.

ومع عزف نسمة عبد العزيز على تلك الآلة القادمة من أمريكي اللاتينية بجذور إفريقية تشعر بنبض الطبيعة بإيقاعها الصاخب في الفيافي والأدغال وهى تصاحبك عبر رحلة طويلة في قلب القارة السمراء، وحتما ستشعر مع أياديها الساحرة أن الموسيقى تخلق الإنسان من جديد في هيئة سوية مع كل انعطاف، أو انحراف، أو تملل أو انكسار، هناك شيء عجيب في الموسيقى بصفة عامة، بل لعلني أقول أن موسيقى (الماريمبا) هى أعجوبة بحد ذاتها، في فطريتها ونقائها، ومقامها يكمن ما بين الفكر والعالم الظاهر، أجل لقد شعرت ليلة أمس مع إيقاعات (ماريمبا نسمة) أن هذا النوع الموسيقي بلتقائيته هو وسيط مشع بين العقل والمادة، فهي تقترن بهما وفي نفس الوقت تختلف عنهما، هي روحية لكن يعوزها الإيقاع، ومادية لكنها غير مقيدة بمكان، لذا عليكم في أثناء سماعها أن تخففوا من أجسادكم قليلا ، تماما كما حدث لنا نحن جمهور تلك الليلة.

إبداع من نوع خاص في مزج الموسيقى الغربية بالشرقية

نسمة عبدالعزيز ليست مجرد عازفة على آلة الماريمبا، بل عاشقة لها، بدأت موهبتها الموسيقية منذ نعومة أظفارها، وأصقلت هذه الموهبة بالدراسة بالتخرج في معهد الكونسرفتوار ثم الالتحاق بفرقة الموسيقار عمر خيرت لتصبح أكثر مهارة في العزف على آلة الماريمبا، وبعدها ذهبت في بعثة دراسية إلى الولايات المتحدة الأميركية بجامعة (UCCA) لتصبح بعدها أشهر عازفة لآلة الماريمبا في العالم العربي، وعلى الرغم من أنها كانت تتوق للعزف على آلة غربية ذات إيقاع غربي، وكانت البداية بآلة الماريمبا التي سعت جاهدة لتعريف متذوقي الموسيقى بها بعد أن سمحت لها إدارة المعهد بالعزف عليها، ورغم المشقة الكبيرة في جذب الجمهور إلى تلك الآلة فإنها استطاعت خلال فترة وجيزة استمالتهم من خلال تقديم أعمال غربية لها مذاق شرقي والعكس، دون إخلال بروح ودفئ الموسيقى الشرقية بالطبع.

وربما كانت دراستها بمعهد الكونسرفتوار هو من ساعدها في فهم جوهر الموسيقى حيث أدكت منذ صغرها أن الموسيقى فن كالشعر والتصوير تمثل حالات الإنسان المختلفة وترسم أشباح أطوار القلب وتوضح أخيلة ميول النفس وتصوغ ما يجول في الخاطر وتصف أجمل مشتهيات الجسد في سكينة الليل يحيي عاطفة الأمل، وهى لون من ألوان التعبير الإنساني، فقد يتم التعبير فيها وبها عن خلجات القلب المتألم الحزين، وكذلك عن النفس المرحة المرتاحة؛ و في الموسيقى، قد يأتي المرء بشحنة من الانفعالات التي فيها ما فيها من الرموز التعبيرية المتناسقة في (مقاطع) معزوفة يحس بها مرهف الحس أو من كان (ذواقة) ينفعل ويتفاعل سماعيا ووجدانيا وفكريا، يحس بها إحساسا عميقا وينفعل به انفعالا متجاوبا، مثله مثل أي من الكائنات الحية، فالموسيقى و بخاصة الموسيقى الراقية والروحانية تساهم في علو وسمو الروح.

استوعبت الموسيقى الغربية جديدا ومزجتها بالموسيقى الشرقية بسحر لايقاوم

ولأنها استوعبت كثير من الدروس بأن الموسيقى ليست مجرد أنغام؛ بل هي وسيلة تواصل لالتقاء الذهن والروح عند الشخص الواحد؛ وهى أيضاً وسيلةٌ فاعلة اجتماعية وتربوية تساهم في عمليات التفاهم وفي تنمية الحس الشخصي؛ وتعمل على إدخال البهجة على النفوس وفي تجميل العالم من حولنا، فقد حرصت على مزج الغربي بالشرقي في سياق واحد يسمو بالروح ويحلق بها في الآفاق على جناح السحر، ولعلها نجحت في تفسير مفهوم أن الموسيقي تعتبر لغة العالم الوحيدة التي تفهم من خلال السمع، بدون تلقين أو تعليم، بالإضافة للمتعة التي نحصل عليها وتتركها في النفس جراء سماعها، فهي تساهم في تزكية النفس وتهذيبها.

عرفت (نسمة عبد العزيز) جوهر الموسيقى كما عرفها الكثير من العباقرة والمهتمين بها، وأجادوا في وصفها بما تمنحه للإنسان، وخير قول هو لـ (جبران خليل جبران): هي ابنة الملامح الصامتة، ووليدة العواطف الكاشفة عن نفسيّة الإنسان، الواعي لحقيقة ما، كما قال عنها بأنها لغة النفوس والتي تطرق أبواب المشاعر، إضافة إلى أنها تنبه الذاكرة، وذكر بأنها ليست فقط لغة العواطف، وإنّما هي أيضا لغة لكل من الفهم والفكر، وأيضا قال: الموسيقى كالمصباح.. تطرد ظلمة النّفس.. وتنير القلب.. فتظهر أعماقه، والألحان في قضائي.. أشباح الذات الحقيقية أو أخيلة المشاعر الحية، والنفس كالمرآة المنتصبة تجاه حوادث الوجود وفواعله تنعكس عليها رسوم تلك الأشباح وصور تلك الأخيلة، ومن هنا يمكنني القول بأنه من لا يستطيع أن يتجاوب مع الموسيقى فلا قلب بين ضلوعه، فعندما يخيم السكون تتردد أصداء الموسيقى في النفس لتجلب لها سكونها والروح لتكون غذائها.

تحيى جمهورها الذي ساندها طوال رحلتها

يذكر أن نسمة عبد العزيز موسيقية مصرية، تعزف على آلة الماريمبا وتخرجت من معهد الكنسرفتوار، وألتحقت بفرقةعمر خيرت، ونالت مرتبة الشرف من معهد الكونسرفتوار عام 1997، ومنحها الرئيس المصري محمد حسنى مبارك بعثة دراسية في الولايات المتحدة الأمريكية في جامعة  UCCA، وبدأت في العمل بمفردها في عام 2001 وصورت عدة كليبات مصورة لها منها (تيكو تيكو وفوجا)، وأطلت نسمة على الناس منذ أكثر من 20 عاما تقريبا، وجالت كل محافظات مصر، تعزف قائدة لآلات الإيقاع ضمن الفريق الذي التحقت به، ثم صارت تعزف منفردة، إلى أن تكللت خطواتها بالنجاح، فاشتركت في حفلات الأوبرا كثيرة داخل مصر وخارجها، وصولا إلى الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية، ثم ازدادت نجوميتها لاحقا، خصوصا بعدما أصبح لها فرقتها الخاصة.

عشق نسمة لآلة (الماريمبا) على حد قولها: يعود إلى الطفولة، حتى أنني لم أفكر في دراسة أي شيء غيرها، إذ حلمت منذ دخلت معهد الكونسرفتوار أن أعزف على آلة غربية أو ذات إيقاع غربي، وكانت الدراسة من شقين: دراسة ثقافية عادية، وهى الدراسة المنتظمة في المراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية، ودراسة موسيقية، ومنذ بداياتنا في المعهد اشتركنا في الأوركسترا، فالمعهد كان يقيم دائما الكثير من الحفلات، ومنذ الصف الأول الثانوي، تحقق ما كنت أحلم به وبدأت أعزف على هذه الآلة، فقد كان هدف نسمة أن تقدم الآلة إلى الجمهور، لأنها غريبة عليه، وكانت تسعى جاهدة إلى تعريف الناس بها، وحتى تجتذب الجمهور إليها، راحت تعزف عليها ألحانا شرقية، وبدأت تصنع توليفة موسيقية تجمع بين دراستها الغربية (المودرن) وبين عزف الألحان الشرقية.

وعن تقديمها ألحانا شرقية على آلة (الماريمبا) الغربية التي تخلو من (الربع تون) المميز للون الشرقي، تقول: أنا لم أعزف الربع تون، بل عزفت بإحساس مع فرقة مصاحبة، فكان هناك انسجام وتداخل، ومن سمعني، لم يشعر بفارق، لعمق إحساسي وقدرتي على صناعة هذا المزج، وتضيف: عندما عزفت المختارات الشرقية، فكرت في تقديم أعمال غـربية لها مذاق شرقي، لكن بتقنيات غربية، وساندني فنانون كبار مثل (عمر خيرت والدكتور جمال سلامة وراجح داود وعمار الشريعي)، وقدموا لي مقطوعات موسيقية من أعمالهم ومقطوعات كتبت خصيصا لعزفها على (الماريمبا)، ما ساعد أكثر على تعلّق الناس بالآلة، إلى درجة أنهم كانوا يطالبون بإحياء (ريستال) خاص بي إلى أن وافقت إدارة الأوبرا على الأمر، فكانت أول حفلة (ريستال شرقي وغربي) عام 1999.

طافت أقاليم مصر لتعريف جمهوره بآلة الماريمبا

وكما هو معرف فإن (نسمة عبد العزيز) راحت تطوف بآلتها ومزيجها الفني الشرقي والغربي دولا عربية وغربية حتى ذاع صيتها ولمع نجمها، وعلى الرغم من ذلك لم تنتج إلى اليوم ألبوما موسيقيا خاصا، وفي هذا تقول: جاءتني عروض كثيرة من شركات إنتاج عدة، إلا أنها غير مناسبة لي، لأنهم يريدون في هذه العروض أن أمزج بين الفن وأشياء أخرى لا تناسبني، وأنا لا أستطيع ان أقدم أية تنازلات، وكثيرون قالوا لي يمكنك الغناء والعزف في الوقت ذاته، أو الغناء فقط أو ننتج لك أعمالا بالاشتراك مع فتيات أخريات، فرفضت هذه العروض أيضا، خصوصا أنها لا تتلاءم مع احتفائي الخالص بالموسيقى.

تحية تقدير واحترام لهذه الفنانة الراقية التي تضفي مزيدا من البهجة والسعادة عندما تطل على جمهورها عازفة على آلة (الماريمبا) التي أصبحت تقترن باسمها في كل أنحاء عالمنا العربي.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.