بقلم : محمد حبوشة
الممتع في الممثل المجتهد، هو قدرته على عرض وإضافة أفعال بشرية، وتوليد مشاعر إنسانية محددة وواقعية بالتأكيد (سلوك/ فعل)، بواسطة مهاراته الفنية، وضمن ظرف حياتي معطى، والموهوب من الممثلين، هو ذاك الذي يمتلك القدرة على فهم وخلق طبيعة بشرية حقيقية، وتوليد مشاعر وأحاسيس صادقة، وإعادة إنتاج شخصيات وأنماط إنسانية لا حدود لها، ومن هنا فليس من السهل تعريف فن التمثيل، لا لأنه فن مركب (جسد/ نفس/ شعور/ لاشعور) فحسب؛ بل لأنه جامع لفنون متنوعة ومختلفة، فثمة ما هو حي يجري فوق خشبة المسرح، أمام المشاهدين، وما هو إذاعي يتم بواسطة الميكروفون، بغياب الصورة؛ إذ نسمع فيه صوت الممثل ولا نرى جسده، وثمة فن آخر هو التمثيل السينمائي أو التلفزيوني الذي يحدث أمام الكاميرات، ويشاهده الناس صوتاً وصورة، عبر الشاشة، بعد إكمال العمليات الفنية اللازمة.
وضيفنا في باب (بروفايل) لهذا الأسبوع الفنان الكبير والقدير (محمود حميدة) من النوع المجتهد والموهوب معا وما يؤكد ذلك أنه احترف التمثيل السينمائي والتليفزيوني من خلال فطرة أو سليقة، ولدت وتطورت معه ويبدو لي أن اللعب والتقليد والإشارة والبوح والهمهمات التي استخدمها كطفل، قبل اللغة والعقل، هى من أوصلته إلى (قمة الصدق) التي تعني (قمة الكذب) – بحسب قسطنطين ستانسلافسكي – الذي يعني أنك تكذب كي تكون مقْنعا، ويصدقك المشاهدون.! والكذب هنا ليس أخلاقيا أو محرما، بل هو كذب مهني مشروع لمن امتلك المهارة الفنية، فـ (أعذب الشعر أكذبه) كما قال العرب، وهذا ما نطلق عليه مصطلح (الصدق الفني) أو (الإيهام) وجعل الآخر/ المشاهد، يتورط في لعبتك ويصدق ما يراه ويسمعه، كما لو كان حقيقة لا شك فيها؛ لهذا، يخلط الناس بين التمثيل كفن إبداعي، و(التمثيل) الذي يعني الكذب، كسلوك أخلاقي ديني واجتماعي!
الروح والأحاسيس والخيال
لكن (محمود حميدة) في حالته التمثيلية لا يخلط التمثييل كفن إبداعي بالسلوك الأخلاقي، ومن ثم لايبدو مقلدا بل يعتمد كليا على تقنية الجسد وحركاته (التقليد، الرقص الإيماء)، وفن التمثيل لديه كما يبدو لي ولغيري لا يعتمد على الرشاقة والتقنية البدنية، ولا على الاستعراض، أو التقليد المتقن للأشخاص (علما أنها كلها، تدخل في باب المهارة الفنية)؛ بل يعتمد بالأساس على الروح والأحاسيس والخيال والعوالم الداخلية، التي يعيد الممثل إنتاجها على الشاشة، وقد يكون التقمص هو أقرب المفاهيم لمهنة الممثل (محمود حميدة) للدخول تحت جلد الدور الذي يؤديه، معتمدا على الذاكرة الانفعالية، التي تعني الخبرة الشخصية والمعاناة الحياتية والمشاهدات والصور المخزنة في ذاكرته ممثل، والتي يتم الاستعانة بها للقيام بالدور.
وهنالك عوامل بالتأكيد ساعدت (محمود حميدة) في أدائه ومنها (الكاريزما) التي ربما استمدها من طوله الفارع، والذي يجلله وقار ممزوج بشعور زهو، يراه الناس (غروراً)، خاصة أنه فنان حاد النظرات بطبعه وقليل الكلام، وتظل صراحته واحدة من أبرز سماته الشخصية، مما يجعل آراءه الفنية والسياسية محل جدل واهتمام كبير بين متابعيه، كما أن ملامحه تكسوها جدية صارمة، ورغم اقترابه من سن السبعين يظل محمود حميدة فرس الرهان فى السينما المصرية، وذلك لأن كل خلجاته بحب الفن تنبض بحيوية طوال الوقت، وهو الذى وهب حياته من أجله، ومن ثم قام بتقديم سلسلة من الأعمال المميزة، بحيث ترك بصمته الفنية عليها بفضل موهبته وخبرته الواسعة، كما أنه يفيض حبا للشباب سواء فى مجال التمثيل أو خارجه.
ومن خلال متابعتي لمسيرته الفنية أستطيع القول بأن من أهم مكونات الممثل المتميز في الأداء (محمود حميدة) تلك الصفات التي تتوزع بين المرونة الجسدية والصوت المعبر والحركة والتعبير والخيال والإحساس بالصدق في تقديم الشخصية الدرامية لخلق صورة مؤثرة لكي يستطيع التأثير الناجح على المتلقي، فعندما يقدم الممثل أداءا متماسكا لابد وأن تكون هناك تجربة مستقاة من دراسة أكاديمية يتفهم كل عناصر التمثيل ونظرياته لكي يستطيع الممثل أن يقدم دوره بمساعدة المخرج الناجح، لكن (حميدة) على الرغم من عدم انتظامه في دراسة أكاديمية اعتمد على موهبته في أدائه الاحترافي كما يبدو لنا من خلال أعماله السينمائية والتليفزيونية على عناصر مؤثرة ومثيرة من خلال معرفته لأبعاد الشخصية وتحليلها كالبعد الطبيعي والنفسي والاجتماعي لكي يكون أداءه بمهارة مقنعة للمتلقي، ويقدم أفضل ما لديه على مستوى الأداء.
تنشيط الذاكرة الانفعاليه
(حميدة) في كل تجربة فنية جديدة يدخلها يعرف أين يكون موضع شخصيته بالنسبة للظروف الزمانية والمكانية وظروف الشخصية التي تسبق أحداث الشخصيات الأخرى ومواقفها، وهو في كل حالاته يبدو ذلك الممثل الذي يكون قادرا على الإفادة من تجربته الحياتية الماضية في تنشيط الذاكرة الانفعاليه لديه، ليستطيع اختيار الموقف والانفعال المناسب لدوره، وليس ذلك من فراغ بل إنها مهاراته التمثيلية تلك هى عبارة عن حصيله تجاربه الحياتية والارتقاء بها على مستوى جمالي ليؤثر على المشاهد، وتساهم أيضا في أعطائه قوة دافعة تساهم في إعادة الخلق وتحديد الأهداف الصغيرة والكبيرة في تجسيد الدور على نحو خاص ووفقا للدقة المطلوبة في الأداء.
وهنالك ملمح آخر سوف تلاحظه في أداء (محمود حميدة) الذي يبدو كالسهل الممتنع في إبداعه، فهو يتقن التواصل الوجداني الحقيقي على ذلك النحو الذي يراه (سيرجي راديلوف) في تعريفه للممثل (وهو جسد يتحرك وصوت ينطلق، وشيء ما ينمو في الداخل من خلال الفعل الدرامي، وهو عبار عن تصرف نفسي وعضلي أي أنه ذو جانب عضلي نفسي، مع أن الجانبين مرتبطان ببعض، ويشكلان وحدة متكاملة، فالفعل العضلي هدفه إحداث تغيير في الوسط المحيط بالانسان، وتحققه يتطلب صرف طاقة عضلية بالدرجة الأولى، كما يفعل ذلك (حميدة)، ولعله هنا يأخذ الصفة الرياضية فكل الأفعال التي يقوم بها تجاه زميل له من (الدفع، والعناق، والجذب، والجلوس، والطرد، والمداعبة، واللحاق، والعراك الخ) تعتمد على لياقة بدنية عالية، ويبدو أنه يخضع نفسه لتدريبات قاسية قبل الإقدام على تجسيد أي دور يتطلب ذلك.
ولأنه على الممثل أن يمتلك القدرة على تهيئة نفسه للفعل، كما يقول ستانسلافسكي: (الشيء المهم ليس في الفعل ذاته، ولكن في الولادة الطبيعية لدواعي الأفعال)، لذا يحرص (محمود حميدة) في مراحل تحضير الدور عدم تنفيذ الأفعال عضليا بل الوصول للفعل النفسي ثم الانتقال من مهمة وفعل آخرين إلى الاكتفاء بإيقاظ الدوافع للفعل وترسيخ هذه الدوافع بالتكرر، لذا فإن (حميدة) يمتلك القدرة على البحث وإيجاد العلاقات التي يتطلبها الدور، وذلك بالقدرة على التصرف والنظر الى كل ما يقع ويحدث على الشاشة، حسب قواعد اللعبة، كما أنه يمتلك القدرة على تقبل المفاجآت وتقدير هذه الواقعة بشكل سليم، انطلاقا من وقائع الحياة، ولا ننسى أنه يجب على الممثل أن يمتلك القدرة على الوصول بنفسه إلى الفعل العضوي بمساعدة الانتباه (التركيز) من خلال الإيمان بالفن الحقيقي.
الصوت – الحركة – العاطفة
ثلاثة أشياء تشكل ملمحا رئيسيا في أداء (محمود حميدة (الصوت – الحركة -العاطفة)، وقد يعترض أحد ما على فكرة العاطفة بالقول: إن نبضات القلب المصحوبة بالتأثر العاطفي هى الحركة المعبرة عن الاحساس العاطفي، فالجبين البارد واليدان الساخنتان التي هى نتيجة للتأثر ليست بالتأكيد صوت ولا حركة.. هى تحتاج الى اللمس كي ندركها، وقضية اللمس مزعجة للممثل، لكن (حميدة) ممثل يعرف بأن جهده الحقيقي الخلاق ينقل للمشاهد رسالة تتجاوز نطاق صوته وحركات جسده، لهذا يصر على العاطفة التي تبدو واضحة في أدائه خاصة الأدوار التي تميل إلى الصبغة الاجتماعية كما لاحظنا ذلك في أفلام ومسلسلات عديدة له.
نشأ (محمود حميدة) معلقا بين طبقتين اجتماعيتين، فهو ينتمي من جهة الأم إلى الأرستقراطية بغناها الفاحش وتقاليدها العريقة في كل ما يتعلق بالطقوس اليومية، وينتمي من جهة الأب إلى عائلة من الفلاحين بإحدى قرى محافظة الجيزة بمصر، ولأن حجم الاختلاف والتناقض بين الطبقتين كبير جدا فقد انصرف إخوته الأربعة عن الريف بكل ما فيه، وانطلقوا من المدينة حيث ولدوا بمنطقة مصر الجديدة في القاهرة، بينما عاش محمود كل تقاليد الطبقتين فقد كان يعمل في الزراعة كأي فلاح أجير حين يحل في منزل عائلة والده أسبوعيا، ويجلس على مائدة العشاء بكل طقوسها الأرستقراطية في منزل عائلة والدته، ورغم ذلك كان تلميذا منضبطا ومتفوقا في دراسته.
كان محمود هو الابن الأكبر لابن وحيد لواحد من أعيان ريف الجيزة، وكان منبهرا بجده إلى حد التوحد معه، رآه قويا وغنيا فقرر أن يكون مثله فبدأ العمل فلاحا منذ سن التاسعة، وأصبح تاجرا خبيرا في سن الخامسة عشرة، لكن وفاة جده أعادته إلى والده الذي علمه أن قيمة الإنسان ليست في كونه غنيا بل في كونه يعمل فيما يحب، ومنذ طفولته كان الولد الصغير جادا في استخدام تفاصيل البيئة المحلية في قرية جده لبناء مسرح، وممارسة هوايته المفضلة وهى التمثيل إلى جوار القراءة، وبعد التحاقه بكلية الهندسة ظهرت مفارقة العيش بين طبقتين، وبدأ محمود معها البحث عن ذاته، لكنه وعبر مشواره الفني والحياتي جمع المتناقضات في شخصه وفي اختياراته بشكل فاجأه أحيانا وفاجأ الآخرين دائما.
فشل في الهندسة
ورغم التحاقه بكلية الهندسة في عام 1970، إلا أنه فشل فيها، والتحق بكلية التجارة، ولكن رغم ذلك كان حريصا على الانضمام لفريق التمثيل بالجامعة، وعمل في إحدى الشركات العالمية في إدارة المبيعات بعد تخرجه، ورغم ذلك فإن حلم وعشق الفن لم يهدأ بداخله، حتى مارس التمثيل والرقص في فرق للهواة، إلى أن جاءت له الفرصة بعد نحو خمس سنوات، بدور في مسلسل تلفزيوني، أسنده له المخرج التلفزيوني أحمد خضر، وبعدها انطلق في عالم الفن والتمثيل.
ومع بداية التسعينيات بدأ حميدة أولى خطواته نحو النجومية من خلال مشاركته في مسلسل (الوسية) الذى حقق نجاحا كبيرا أثناء عرضه وجعل الجمهور يتعرف على حميدة كممثل شاب متمكن من أدواته التمثيلية، وهو ما أهله للمشاركة في أولى بطولاته السينمائية مع الفنان الراحل أحمد زكى من خلال فيلم (الامبراطور) الذى حقق نجاحا كبيرا وارتبط به الجمهور حتى وقتنا الحالي.
ومنذ نجاح (الامبراطور) وميلاد حميدة الفنى كنجم سينمائي، استمرت نجوميته وموهبته الطاغية تتجلى مع كل عمل يقدمه، فقدم خلال مشواره الفنى المستمر أكثر من 80 عملا فنيا بين السينما والتليفزيون والإذاعة، حيث قدم للإذاعة مسلسلات (الكنز، أيام الحب والجنون، ما وراء النهر) وللدراما التليفزيونية قدم مسلسلات (الأزهر الشريف منارة الإسلام، حارة الشرفا، أبيض وأسود، خمسة خمسة، للعدالة وجه آخر، الخروج من الدائرة، ميراث الريح، الأب الروحى، لما كنا صغيرين)، أما في السينما فكان لحميدة نصيب الأسد من حيث عدد الأعمال ومن حيث النجومية الكبيرة والأدوار التى لا تنسى، ومنها أفلام (المساطيل، عصر القوة، شمس الزناتي، صراع الزوجات، امرأة آيلة للسقوط، رغبة متوحشة، الباشا، الغرقانة، حرب الفراولة، أبوزيد زمانه، جنة الشياطين، امرأة هزت عرش مصر، دانتيلا، ملك وكتابة، آسف على الإزعاج، ليلة البيبى دول، بحب السيما، احكى يا شهرزاد، دكان شحاتة، كيد العوالم، فوتو كوبي، من ضهر رجل، حرب كرموز، ورد مسموم).
روائعه مع يوسف شاهين
هذا بالإضافة إلى الروائع السينمائية التى قدمها مع المخرج العالمى يوسف شاهين في أفلام (المهاجر، المصير، الآخر، إسكندرية نيويورك)، كما شارك حميدة في السينما كمنتج، فقدم أفلام (جنة الشياطين، جمال عبدالناصر، جلد حي)، كما شارك في الإنتاج أيضا في أعمال (ملك وكتابة، ورد مسموم)، ورغم البداية المبكرة في عالم التمثيل فإن دوره في الفيلم الذي أنتجه بنفسه عن رواية البرازيلي (جورج أمادو) وسيناريو مصطفى زكريا يستحق أن يكون في مقدمة ما يمكن رصده عنه، إلى جانب كتابته السيناريو والحوار لمسلسل (ميراث الريح)، وأسس حميدة (ستوديو الممثل) كمركز تدريب يقدم الورش الفنية للمواهب الصاعدة لصقل مواهبهم، كما أسس مجلة فنية باسم (الفن السابع) متخصصة في صناعة السينما.
ولعل بداية (محمود حميدة) السينمائية كانت من القوة بمكان مما سمح له فيما بعد من فرض طريقة أداؤه ومن ثم إثبات وجوده في الوسط السينمائي، فبالرغم من أن فيلمه الأول (الأوباش) الذي قدمه فيه المخرج الراحل (أحمد فؤاد) 1986 لم يحقق له النجاح المأمول، ولم يلفت إليه الأنظار كثيرا، إلا أن فيلمه التالي (الامبراطور) – مع المخرج العائد من أمريكا – (طارق العريان – 1990) كان بمثابة الانطلاقة الحقيقية لفرض وجوده في السينما المصرية ومن ثم إثبات كونه ممثلا بارعا يستطيع الوقوف أمام ممثلين آخرين لهم تاريخ طويل في الأداء القوي، بل يمتلكون (كاريزما) مميزة مثل الفنان الراحل (أحمد زكي).
ولربما كان أداء (محمود حميدة) أمام (أحمد زكي) في فيلم (الامبراطور) هو شهادة انطلاقه الفعلية بل واعتماده كفنان كبير بالرغم من أنه كان لم يزل ثاني فيلم له، ولكن قدرته على الوقوف أمام (أحمد زكي) ومحاولة التباري معه في فن الأداء، بل ومحاولة إثبات ذاته كممثل له قدراته التمثيلية الخاصة والتي لا تقل كثيرا عن امبراطور تمثيل مثل (أحمد زكي)ـ وهذا كله أدى إلى أن رأينا مباراة رائعة في فن الأداء وكأن كل منهما يقول للآخر أنا هنا، ولكن الأمر مع (حميدة) كان مختلفا؛ لأنه مازال في بداياته ومن ثم فهو يحاول إثبات جدارته كفنان.
أدوار لاتنسى في مسيرته
هناك أدوار لا ينساها عشاق السينما، ومنها دوره كزعيم عصابة أمام الفنان عادل إمام في فيلم (شمس الزناتي)، ودور المواطن المصري الذي لديه الكثير من الأبناء في فيلم (دكان شحاتة)، ودور البلطجي المحبوس في فيلم (حرب كرموز)، حيث أبدع (حميدة) في أداؤها جميعا، رغم تغيير الشخصيات.
ويسجل تاريخ التمثيل في مصر بأنه لم يجرؤ ممثل في تاريخ السينما المصرية والعربية على تمثيل دور (جثة) لشخص ميّت عبر فيلم كامل سوى (محمود حميدة) في فيلم (جنة الشياطين) من إخراج أسامة فوزي، وحصل محمود الذي قدم دورا يخشى الإقدام عليه أي ممثل مهما كانت نجوميته على أربع جوائز في التمثيل عن الدور، وطبقا لمنظري فن التمثيل فإن العنصر الأهم في تأثير الممثل على المشاهد هو تلك (الطاقة الكامنة) التي تطلقها عينا الممثل فتتسرب إلى روح ووجدان ومشاعر المشاهد، لكن تلك العيون كانت مغلقة لدى (طبل) بطل فيلم (جنة الشياطين) الميّت، ورغم ذلك فقد أجاد محمود التعبير بملامح ساخرة أحيانا ونزقة أحيانا وفرحة أحيانا أخرى، وكل ذلك طبقا لما يتطلبه الأداء الحي في الفيلم.
ولم تقتصر معارك محمود حميدة على تحديات المهنية المختلفة في أدوار مثل دور (طبل) في فيلم (جنة الشياطين)، لكنه خاض معركة كبرى أخرى في فيلم (بحب السيما) الذي يعد دوره فيه واحدا من علامات السينما المصرية في التمثيل، فضلا عن الفيلم الذي يعد حالة فنية مدهشة ومتجددة، وجاء التحدي في الفيلم من أنه يتناول لأول مرة التطرف الديني المسيحي من خلال أب يحكم بيته بالحديد والنار، بينما يحاول ابنه الموهوب الخروج ببراءة من دائرة التحريم التي لا تنتهي، وحين يصطدم الأب بسلوك الشرطة ويتعرض للإذلال يكتشف ضعف إيمانه وزيف استقامته فيعيد صياغة أفكاره ليرحل راضيا.
وكانت تجربة فيلم (بحب السيما) ثرية للغاية رغم أنه رفعت عليه فيه 145 دعوى قضائية تتهمه بازدراء الدين المسيحي، واتهم مخرجه وكاتبه (المسيحيان) بالكفر حينها، وبالطبع لا يمكن أن ننسى فيلمه (ملك وكتابة) تمثيلا يرقى لمرتبة (الممثل الفيلسوف) عبر دور أستاذ أكاديمي يعيش حياة روتينية خشنة لا مكان فيها للإنسانيات كنتيجة مباشرة لتعرضه لخيانة زوجة سابقة، لكن تلميذته في الجامعة (قامت بدورها الممثلة التونسية هند صبري) تعيده إلى الحياة عبر كشف الوجه الآخر لها، ليؤكد الفيلم أن الحياة أيضا عملة ذات وجهين.
محب كثيرا للسينما
ولكن ربما كان ما يحيرنا بشكل جدي مع الفنان (محمود حميدة) هو طريقة خياراته لأفلامه ومن ثم نقف حياله دائما موقف المندهش من تلك الخيارات، فمما لا شك فيه أننا جميعا واثقين من كون الفنان (محمود حميدة) من الفنانين القلائل المثقفين والمحبين كثيرا لفن السينما، بل هو يحرص تماما على النهوض بها والاهتمام بقضاياها، ولعل الدليل على ذلك مجلته السينمائية (الفن السابع)، وإنتاجه لبعض الأفلام الهامة والتي لم يكن ليقبل على إنتاجها من المنتجين سواه، بالإضافة إلى تقديمه العديد من الوجوه السينمائية الجديدة، والوقوف إلى جانبهم حتى أثبتوا أنفسهم في تيار الفن السينمائي.
ولعلنا إذا ما تأملنا هذه المسيرة الفنية لالتمسنا له العذر في البداية؛ حيث كان لم يزل بعد في فترة البداية والانتشار ومن ثم الرغبة في إثبات وجوده وقدرته الجيدة على الأداء؛ مما جعله يشترك عام 1993 في أحد عشر فيلما يتفاوت فيهم المستوى السينمائي الجيد من أفلام جيدة جدا وعلامة من علامات السينما المصرية مثل (حرب الفراولة) للمخرج خيري بشارة، (فارس المدينة) للمخرج محمد خان، (الغرقانة) للمخرج محمد خان أيضا، إلى أفلام أخرى تجارية متوسطة القيمة الفنية مثل (بوابة إبليس) للمخرج عادل الأعصر، (الذئب) للمخرج عبد الحليم النحاس، (الثعالب) للمخرج أحمد السبعاوي، ولكن بعد مرور حوالي سبع سنوات على بدايته وبعد تقديمه 25 فيلما سينمائيا نراه لم يزل بعد على نفس القدر من عدم القدرة أو التشوش في خياراته السينمائية.
ومما يجعلنا في حيرة حقيقية حينما يشترك مثلا عام 1994 في فيلم بديع مع المخرج محمد خان مثل (يوم حار جدا)، و(المهاجر) مع المخرج يوسف شاهين، (ديسكو..ديسكو) مع المخرجة إيناس الدغيدي، ثم لا يلبث أن يشترك في نفس العام مع المخرج أسامة الكرداوي في فيلمه (كارت أحمر) الذي لا يمكن أن يرقى إلى مستوى ذات الأفلام التي شارك فيها في نفس العام.
لا يوجد فرق بيني وبين روبرت دي نيرو
وجدير بالذكر ونحن نتحدث عن محمود حميدة أن نقول: كثيرا ما أثار محمود الصحافة الفنية برفضه مقولة (الممثل العالمي) مبررا ذلك الرفض بقوله (لا يوجد فرق بيني وبين روبرت دي نيرو، أنا أمثل في العالم وهو يمثل في العالم، لا يوجد ممثل عالمي وآخر نصف عالمي)، كما يرفض تقديم العلماء على الفنانين قائلا (لا يستطيع العالم الكيميائي أو الفيزيائي أو غيره أن يعمل على فكرة اختراع إلا إذا جاءت من حلم الفنان، الفنان يحلم والعالم يحقق الحلم).
ولعل كل مامضي من إنجاز فنى وإبداعي هو ما أهل (محمود حميدة) إلى حصوله على العديد من الجوائز في مختلف المهرجانات الفنية ومنها جائزة أفضل ممثل عن أعمال (جنة الشياطين، بحب السيما، إسكندرية نيويورك، ملك وكتابة)، كما حصل على جائزة أفضل إنتاج عن فيلم (جنة الشياطين) من مهرجان القاهرة السينمائى وجائزة أفضل فيلم عن (جنة الشياطين) أيضا من مهرجان الإسكندرية، وما زال نهر العطاء الفنى لمحمود حميدة متدفقا ليروى التاريخ الفنى بأعماله الناجحة، ويروى الممثلين الجدد من فيض موهبته الغزيرة التى يتعلمون منها فن التمثيل (السهل الممتنع).
أشهر أقواله :
** أبى حبب إلي القراءة، منذ صغرى كان يمنحنى كتبا مهمة، ويناقشنى فيها بعد انتهائى منها، ويمنحنى جائزة، فقرأت رواية (الحرب والسلام) مثلا فى سن الثانية عشرة، وقرأت أيضا فى الفقه والتفسير.
** لم أعرف أشعار فؤاد حداد إلا بعد وفاته، لكنى صرت من مريديه، ذات مرة، كنت أجلس مع الأديب (خيرى شلبي) على مقهى، فقال لى اسمع هذه القصيدة لعمك فؤاد حداد، كنت أعشق الشعر، وكل أصحابى يعرفون ذلك.
** أنا أقرأ للمتعة فقط، أقرأ فصلا من رواية إذا استمتعت أعيد قراءته مجددا، أو أقرأ بتمهل، لم تعد القراءة للتحصيل كما كان قديما، إلا قراءات قليلة مثل مراد وهبة.
** أنا مسئول عن تسلية السيد المتفرج، وأجده هدفا عميقا، وأعلى إحساس بالمسئولية أن تجد المتفرج يتلقاك عبر خطابك، لأنه أهم منك ومن خطابك، وهذا لا ينفى أهمية ما أقدمه وقدراتي!
** محيي إسماعيل مبدع حقيقي، وهو نوع من الممثلين غير الموجودين بكثرة في العالم، فهو ملفت للنظر وصادق جدا وليس مجنونا كما يطلق عليه البعض.
** على الشباب تعلم اللغة العربية والتفريق بين علم التذوق وعلم البيان، لأن (تذوق) اللغة هو أساس الثقافة، بل وهو الطريق لـ (أن يحكم العرب العالم، وإذا تعففنا عن فعل ذلك جاء إلينا العالم رغم أنفه).
** (المثقف كلمة يصعب تعريفها)، فالمثقف ليس من يقرأ كثيرا، ولكن هو من يتخذ من الحياة موقفا، ومن الممكن أن يكون أحد الأميين لا يقرأ أو يكتب وأكثر ثقافة من من يحملون أعلى الدرجات العلمية.
تحية تقدير واحترام
وفي النهاية لابد من تحية تقدير واحترام لصاحب الكاريزما (جان السينما السهل الممتنع) محمود حميدة، الذي يحمل كل هذا القدر من الثقافة والاهتمام الحقيقي بالسينما، بل ويحلم دائما بتقديم كل ما هو مخلص للسينما كفن، وأجمل ما يميز محمود حميدة كممثل أنه لا يشعرك بأنه يمثل، فكان غاية في التلقائية وعدم التصنع على الشاشة، وتلك هي أقصى درجات الاتقان، فضلا عن أنه دائما ما يضفي مسحة طريفة على أدائه، والذي يدعك تتساءل حقا: كيف لإنسان يواظب على القراءة طوال حياته، ويمتلك وعيا عميقا هكذا، أن يكون متعاليا!!.. وهى صورة مغايرة لما وصفه البعض بها، بل تبعد تماما عن صورة هذا (الفنان المثقف) و(الإنسان المهذب)، بمنطق (الباطنية) الذين يأخذون بحقائق الأمور، لا قشورها الخادعة.