كتب محمد حبوشة
أكثر الأفلام التي تجذب المشاهدين هى أفلام الأكشن على اختلاف أنواعها، من أفلام الأكشن القتالية، أو الجاسوسية، أو الرعب أو الخيال العلمي، فالتشويق والغموض والإثارة لا تترك خيارا أمام المشاهد سوى المتابعة حتى انتهاء الفيلم وانتظار فيلم جديد، وأفلام الأكشن – كما هو معروف – هى نوع من الأفلام السينمائية التي تعتمد على الحركة، وتصل أحيانا إلى العنف والقتل، مطاردات وتحديات ومبارزات وتجسس، سواء في الأفلام الأكشن الجديدة أو القديمة، كما يعتمد تصوير هذا النوع من الأفلام على المؤثرات الصوتية والبصرية باستخدام التكنوجيا.
و من أهم أفلام الأكشن التي لفتت أنظري ونظر كثير من المشاهدين مؤخرا هو الفيلم المشوق والمثير (العارف)، لرجل المهام الصعبة في السينما والتلفزويون (أحمد عز)، والذي تدور أحداثه حول حرب العقول في التكنولوجيا المعاصرة، من خلال قصة (يونس) الذي يعيش مع زوجته وطفلته وسط البلد، ويلجأ إلى سرقة أحد البنوك عن طريق الإنترنت، ويدخل في صراع مع إحدى العصابات الخطيرة.
وأول ما يتبادر إلى الذهن بالطبع وأنت تشاهد فيلم (العارف) هو مقارنته على الفور بأفلام الأكشن الأمريكية الضخمة، خاصة تلك السلاسل التي تمزج بين المعارك والمطاردات والحرب التكنولوجية والجاسوسية، من (جيمس بوند) إلى (مهمة مستحيلة)، وظني أنه ليس في هذه المقارنة أي تعسف أو ظلم لأن هذا يبدو واضحا كما قصده فريق عمل فيلم (العارف) من أن يصنعوا (أسطورة شعبية وطنية) على غرار السينما الأمريكية.
من ناحية الشكل والمضمون يمكن أن تقول إنهم نجحوا بالفعل في مهمتهم، فالفيلم متقن الصناعة السينمائية على مستوى جودة الصورة والهدف الوطني من وراء الأحداث، كما أنه يحتوي على معظم عناصر الإبهار المعتادة: بطل جذاب (يونس/ أحمد عز) يعطي انطباعا بأنه قادر على هزيمة أعنف رجال العصابات المدججين بالسلاح، كما لو أنك منهمك في لعبة فيديو جيم على طريقة (كيانو ريفز) في سلسلة أفلام (الماتريكس)، وعلى القفز من ناطحات السحاب كما لو كان (سبايدرمان)، وعلى فهم واستخدام أحدث ما وصلت إليه تكنولوجيا التجسس كما لو كان توم كروز، وهو فوق كل ذلك يبدو (عز) أنيقا وهادئا وجذابا للنساء على غرار شخصية جيمس بوند.
وبجانب (البطل الشعبي الأسطوري) الذي قصده صناع (العارف)، هنالك التنفيذ الجيد للمعارك والمؤثرات الخاصة، انفجارات وحرائق وألعاب بهلوانية ومطاردات بالسيارات والطائرات، وهنالك أيضا شخصية الشرير (راضي/ أحمد فهمي) الذي لا يقل كفاءة وعبقرية عن البطل، باستثناء أنه مخيف ومنفر على عكس البطل الباسم الوسيم، وكذلك هنالك الفتاة الخارقة، الجميلة (مايا/ كارمن بصيبص) التي تجيد القتال وتفهم في التكنولوجيا في آن واحد، والتي دخلت في الأحداث على طريقة (جيمس بوند، ومهمة مستحيلة)، حيث تتمتع بغموض والتباس مريب من خلال أداء متقن، حيث لا يعرف البطل ولا الجمهور طبيعة انتمائها وولائها لفترة طويلة من الفيلم.
وقد لاحظت أن المؤلف محمد سيد بشير إلى كل ذلك لمسة (عائلية) استمدها على ما يبدو من بعض أفلام الأكشن الأمريكية الأخرى، حيث يعاني البطل من مشاكل عائلية بسبب عمله السري العنيف، فهو لديه زوجة تشكو ابتعاده ومنفصلة عنه، وابنة يعشقها لا يجد الوقت الكافي ليقضيه بصحبتها، والاثنتان يصل إليهما رزاز معارك البطل، فتكادان تلقى مصرعهما أكثر من مرة، وفوق ذلك هناك (ثأر شخصي عائلي) مع الشرير، الذي حاول أن يقتل البطل وعائلته من قبل، غير أنهم نجوا بمعجزة ولكن الجد والجدة راحا ضحية الانفجار.
ورأي الشخصي أنه بجانب القصة والإخراج اللذين يسيران على النهج الأمريكي، هناك استخدام إنتاجي موفق للنجوم: (أحمد عز، أحمد فهمي، محمود حميدة، مصطفى خاطر، محمد ممدوح)، بجانب اللبنانية (كارمن بصيبص والأردنية ركين سعد)، فضلا عن أن التصوير في عدة مدن أوربية، ذات طبيعة خلابة، وشوارع تصلح لتنفيذ المعارك، وهنا لابد من الإشادة بالمخرج أحمد علاء الذي تحكم بطريقة احترافية في طاقم العمل التمثيلي، وساعده في هذا مدير التصوير أحمد المرسي الذي بذل جهدا كبيرا لتوظيف كل ذلك في عمل مشوق جيد الصورة ومتزن الإيقاع في كافة مشاهد الفيلم.
ربما يرى البعض أنه لا شيء جديد في (العارف)، فكلها شخصيات وحكايات وحبكات ومشاهد أكشن سبق أن شاهدناها من قبل، وبشكل أفضل، لكن تبدو براعة الفكرة في أنك تشاهد هذا في فيلم مصري، كما لو أن القائمين على الفيلم يريدون أن يقولوا: نحن أيضا نستطيع أن نفعل ذلك، وعلى الرغم من أن أسطورة البطل الخارق الذي يجيد كل شيء ويستطيع أن ينقذ العالم بمفرده هي فكرة أمريكية نابعة من ثقافة تؤمن بأن الفرد هو الأصل والمنتهى، ومن إيمان له ما يبرره في الواقع، بأن أمريكا أقوى بلد في العالم، وأنها شريك أساسي في صناعة الحضارة الحديثة من علوم وتكنولوجيا وفنون وإعلام إلى آخره، لكن (العارف) كمنتج محلي خالص نجح في تقديمها على الطريقة المصرية بذات الإيقاع وروعة الصوت والحركة وجاذبية الصورة.
فمثلا: عندما نجد بطلا أمريكيا عبقريا في تكنولوجيا المعلومات فنحن نصدق ذلك لأنه ليس حالة استثنائية، وعندما نجد شخصا أمريكيا تم تدريبه لكي يصبح ماكينة قتل، يهزم عشرات الأفراد المدججين بالسلاح بقبضة يده، فنحن نعلم أنها مبالغات تعبر عن حلم أمريكي بمستقبل يتحول فيه الإنسان إلى سوبرمان، هذا الحلم الذي يتغذى عليه الأفراد يوميا ليعملوا ويبدعوا ويصنعوا أحلامهم الخاصة، ولكنه نفس المضمون في (العارف) يبدو واقعيا على الطريقة المصرية التي تخلوا من تعقيدات السينما الأمريكية على جناح المبالغة، ومن ثم فإنك تصدقه رغم حالات الشطط والانكسار التي أصابت البطل في بداية الفيلم والتي ربما نالت من الأداء بعض الشيء، وخاصة أنها تتشابه في ظروفها النفسية والمجتمعية مع شخصية (سيف العربي) في مسلسل أحمد عز أيضا (هجمة مرتدة) في رمضان الماضي.
على أية حال يحسب للمؤلف محمد سيد بشير أنه الفراغ الفني في هذه الزاوية من أفلام الأكشن والجاسوسية بمصر، حيث لم تحظ باهتمام كبير يليق بخطورتها، ومن هنا فقد قدم نموذجا حقيقيا مصحوبا بخيالات تنسجم مع الواقع أو تتقاطع معه، خاصة في طرحه الواعي لمحاولات سيطرة إرهابيين ومتطرفين في ليبيا على كميات كبيرة من الأسلحة الفتّاكة التي تركها نظام حكم العقيد الليبي الراحل معمر القذافي، واستعانتهم بقراصنة معلومات وعصابات عابرة للحدود في تتبّع عدد من الضباط الليبيين الذين يملكون إحداثيات للأماكن التي جرى إخفاء الأسلحة فيها، وهذا بالطبع يمثل خطورة كبيرة على مصر في حال دخولها إلى أراضينا.
كما قدم المخرج أحمد علاء الديب في (العارف) سيمفونية من الإثارة والأكشن ولم يكن تعدد مواقع التصوير وانتقالها من بلد إلى آخر حائلا أو مانعا دون نجاحه في ذلك، أيضا قدم (الديب) مشاهد متنوعة وجذابة من مصر وبلغاريا وإيطاليا وماليزيا، وهو ما يؤكد أن الشركة المنتجة (سينرجي) لم تبخل في الإنفاق بسخاء لخروج العمل في صورة متكاملة تعكس براعة الصناعة المصرية، بل على العكس تماما فقد تعاملت الشركة المنتجة برئاسة المنتج (تامر مرسي) مع العمل على أنه جزء مكمل لأعمالها السابقة الدرامية والسينمائية في مجال الدفاع عن الدولة المصرية والتركيز على الجهود الخفية التي يبذلها رجال الأمن المنتمون للجيش والشرطة.
ولا يعد النجم أحمد عز هو رجل المهام الصعبة فحسب في هذا الفيلم، بل إنه من أبرز الوجوه التي شاركت في هذه النوعية من الأعمال التي تحظى باهتمام كبير، وتحولت إلى أداة من أدوات القوة الناعمة لتعزيز الرؤية السياسية الرسمية في بعض قضايا البطولة والإرهاب ومكافحة التجسس وكشف ألاعيب الخصوم كما جاء آخر أعماله في فيلم (الممر) ومسلسل (هجمة مرتدة)، ولقد برع (عز) في فيلم (العارف) في تقمص أدوار (رامبو) الشهيرة على غرار سلسلة الأفلام التي قدمها الممثل (سلفستر ستالون) وإظهار القوة المصرية التي تعتمد على الكفاءة والواقعية على عكس ما تظهره القوة الأميركية الخارقة وقدرة أجهزتها الأمنية على اختراق وتدمير الخصوم وتأكيد الهيبة اللامحدودة التي تبدو خيالا يصعب تحقيقه.
وأعتقد أن النظرة التي تشير إلى أنه أصبح ينظر إلى (أحمد عز) على أنه (فنان الدولة) هى صفة حميدة وإيجابية توحي بالثقة في قدراته كوجه مألوف، ولا أظنه سينجرف إلى منطقة النمطية التي يمكن أن تصيب المشاهدين مع كثافة وتوالي الأدوار التي يقال عنها أنها (معلبة) في شخصيات متعددة تلقي الضوء على ما يقوم به الأمن المصري في مكافحة الجريمة بأنواعها، والدليل على ذلك أنه اختلف في أدائه في فيلم (العارف) عن أدائه في مسلسل (هجمة مرتدة) رغم التشابه إلى حدما في الشخصيتين، إلا أن لغة الجسد هنا اختلفت تماما عن هناك، كما أن إيقاع الحركة في الفيلم كان سريعا ويتطلب مجهودا مضاعفا، ويبدو لي أن الفيلم قد أتعبه كثيرا عن المسلسل على مستوى الحركة وتركيبة الشخصية التي تحمل بين جوانجها كثيرا من التحديات من أجل الثأر للعائلة والحفاظ على تراب الوطن .. هما مهمتان لايقوى عليها سوى رجل المهمات الصعبة (أحمد عز).
وعلى مستوى الأداء الجيد فقد اجتهدت الممثلة اللبنانية كارمن بصيبص في دور عميلة لجهاز مخابرات غير مصري، ورغم الأداء الفني الجيد لبصيبص وقدرتها على القيام بحركات صعبة لم تستعن فيها كثيرا بدوبلير، وذلك رغم أن طبيعة الدور كانت غامضة في الظهور والاختفاء بالموت غرقا والمهمة التي تقوم بها والمنطق الذي تعتمد عليه في العمالة والطريقة التي دفعتها للتلاقي مع يونس عند نقطة واحدة وهويتها وتبريرها للعمل في مجال القرصنة.
أما الفنان أحمد فهمي فقد جسد دور(راضي) الذي يعمل لحساب تنظيم إرهابي ليبي يستهدف تخريب نظام المعلومات في أحد الأجهزة الأمنية بمصر التي تلاحق عناصره باحترافية شديد، بل إن (فهمي) يعد إضافة حقيقية للعمل، حيث شكل ندا قويا لعز في مشاهد كثيرة، وساعدته تلقائيته وجاهزيته شكلا ومضمونا في توصيل صورة (الهاكر) المحترف المتمكن من أدواته وحيله الذي لا يدين بولاء سوى لصنعته، فهو على استعداد للتحالف مع الشيطان، لذلك لم يتورع عن التعاون مع تنظيم إرهابي يريد تدمير بلده (مصر).
صحيح أن الفيلم لعب على مساحة معهودة من الغموض السياسي في بعض المشاهد، فلم يكشف عن هوية بعض الأجهزة العربية المعنية بالحصول على المعلومات الخاصة بالأسلحة التي تركها القذافي، وحصرها في تنظيم متطرف من دون توضيح كاف لقدرتها الفائقة في تتبّع بعض الضباط الليبيين، لكنه نجح في تسليط أضواء كاشفة على كفاءة (المخابرات العامة المصرية) في سرعة الوصول للمعلومات المطلوبة، وهو ما تجلى واضحا في تمكن القوات الجوية المصرية من تدمير طابور من السيارات كانت تحمل أسلحة من ليبيا في طريقها لمصر عبر الحدود الطويلة على الجانب الشمالي الغربي لمصر.
وعلى الرغم من أن هكذا مشهد حدث أكثر من مرة في الواقع عندما كانت القوافل تتدفّق على الحدود لتوصيلها إلى إرهابيين في مصر، ما يوحي بالتشابك على الجانبين إلا أن المشاهد يفطن بسهولة إلى الهدف وهو أن أيدي الأمن المصري قوية ونافذة وتعمل في أكثر من اتجاه وبلد وقادرة على مطاردة الإرهابيين في كل مكان مهما بلغ ذكاؤهم الملعوماتي، كإشارة جلية للتعبير عن مرحلة قاسية مرت بها البلاد عقب سقوط حكم الإخوان في 3 يوليو 2013، وتفويت الفرصة على متطرفين أرادوا تفتيت الدولة.
ويبقى في النهاية أن نقدم خالص التقدير والاحترام لصناع هذا الفيلم الذي يستكمل مسيرة الأعمال الفنية الجادة التي يؤدّي استمرارها إلى الحد من سينما المقاولات والمخدرات والراقصات التي راجت مع اختفاء الأفلام ذات التيمة الهادفة، فالأفلام الثلاثة الرئيسية المعروضة حاليا في دور العرض (العارف، مش أنا، البعض يذهب للمأذون مرتين) تبشر بعودة عصر القيمة الفنية وتشجّع المنتجين على إحداث قطيعة مع الأعمال السطحية التي نالت كثيرا من تاريخ السينما المصرية العريق، وأضعفت دور القوى الناعمة في تحقيق الأهداف المرجوة لها في عصر المعلومات الذي يتسم بالإيقاع السريع على طريق التكنولوجيا التي تتيح فرصا أكبر لجاذبية الصورة وصناعة الإثارة والتشويق.