كتب : محمد حبوشة
نافس المسلسل الإماراتي (حين رأت) ضن الدراما الخليجية التي تضم عددا من الممثلين العرب على كعكة المشاهدة في الموسم الرمضاني الفائت 2021، وعرض حصريا على شبكة قنوات تلفزيون أبوظبي، وذلك من خلال موضوع غاية في الأهمية عبر فيه بقوة عن المشاعر الإنسانية المفقودة وسلط الضوء عليها من خلال حكايات مغتربين يدرسون في الخارج، حيث يتناول العمل فكرة التعايش بين الأديان ومخاطر الإرهاب والعنف، خاصة على المغتربين.
ويروي المسلسل قصة فتاتين تعيشان فاجعة غير متوقعة بعد أن تفقد كل منهما أعز ما تملك في عمل تفجيري إرهابي، وتتوالى بعدها العديد من الأسئلة، ومنها (لماذا كان خطيب مريم موجودا، وهو ما كان يجب أن يكون هناك؟، وكذلك هو حال ابن ماريا صانعة الكعك الطفل المسيحي الذي كان موجودا وقت الانفجار داخل المسجد؟، ومن هو فارس عبدالمحسن الرجل الذي يحب مريم قبل خطيبها؟، والعمل من بطولة خالد أمين، وأمل محمد، وليلى عبدالله، وريم علي، وهو من تأليف محمد حسن أحمد، وإخراج حسين دشتي، كما يشهد المسلسل مشاركة كوكبة من الفنانين العرب يمثلون كلاً من الإمارات والكويت والعراق وتونس ولبنان وسوريا.
مولف المسلسل الكاتب الإماراتي محمد حسن أحمد، قال إن أحداث العمل كانت تدور في غرب أوروبا بمشاركة شخصيات خليجية وعربية، لافتا إلى أن فرص الاقتراب من الشخصية الخليجية في العمل تبدو واقعية – وهو مالمسنا بالفعل عن قرب – حيث يعيش الخليجي بسلوك في حضور اجتماعي مختلف ويتعرض كما يتعرض أي إنسان في العالم إلى صعوبات الغربة وأحيانا إلى حالات مضطربة وفقدان، خاصة أن أبطال العمل يرون تفاصيل الحقيقة كاملة مع الوقت، رغم أن المشهد يكتشف ما لا تراه تلك الشخصيات مع جريان الأحداث، ولكن يتمكن الجميع في النهاية من فتح عينيه وقلبه وروحه ليرى الحقيقة، وقد ركز العمل على حضور المسلم والمسيحي واليهودي، لأنهم جزء من العالم الذي نعيش فيه، مؤكدا أن الإمارات وطن التسامح والتعايش.
تبدو الحبكة الدرامية متماسكة في مسلسل (حين رأت)، فضلا عن أحداث متجددة كما أنه يسلط الضوء على قضية غير مستهلكة، ما ترك مساحة للمخرج بالتحليق بخياله في ظل ذلك التنوع والاختلاف الموجود في الشخصيات إذ أتت شخصيات العمل بجنسيات مختلفة وثقافات متنوعة وهويات وهموم متعددة، ما دفع المخرج إلى تسخير ذلك التنوع لصالح العمل الفني ليخرج بروح مختلفة، وهو ما بدا واضحا في المشاهد الخارجية كونها تترك طوال الوقت مساحة أكبر للخروج بصورة مختلفة رغم صعوبتها، ولعل التجربة في أوروبا ساهمت في تعزيز جمال الصورة، كون الهبة الإلهية لتلك الدول من طبيعة وجمال وتعدد تركت مساحة كبيرة للمخرج لإبراز ذلك الجمال، ولازم ذلك حرص شديد من جانبه (المخرج) على إيجاد المتعة البصرية إلى جانب المتعة الذهنية في العمل الفني.
وبرز أداء الفنانة الإماراتية (أمل محمد) في العمل الفني رغم أنه أتى لها – على حد قولها – بالصدفة وكانت المجازفة الكبيرة، إذ انتهت من قراءة السيناريو خلال 4 أيام أثناء تواجدها في أمريكا، قبل أن تتخذ القرار مباشرة في الاشتراك مع طاقم التمثيل، ومع ذلك فقد لعبت شخصية فتاة قوية تدعى مريم، تدرس في مجال الذكاء الاصطناعي وتعيش في مدينة مليئة بالأجناس والأديان في أوروبا، ولم يكن الأمر غريبا عليها، إذ تعكس الشخصية واقع دولة الإمارات الذي يحترم الجميع رغم اختلافاته الدينية والثقافية، وعلى الرغم من إن الأحداث التي مرت على مريم خلال فترة دراستها في الخارج هى ظروف وأحداث جديدة على (أمل)، حيث كانت تسمع عنها وتراها في القنوات الإخبارية، ولم تشهدها شخصيا إلا أن ذلك كان بمثابة تحد كبير أمامها كي تجسد الشخصية على أكمل وجه.
وأدى النجم الكويتي المتميز (خالد أمين) دور عاشق وضابط استخبارات، فيما قال في معرض حديثه عن دوره في المسلسل: (أعتقد أن الدور يسمح للتعمق أكثر في شخصية ضابط المخابرات لما فيه من عمق كبير، أما دور العاشق فمررت في أعماقه كثيراً)، وتابع: (إن الفن الحر وغير المقيد بالقلم الرقابي قادر على توصيل الرسائل المجتمعية بصدق وشفافية، وخاصة أن فكرة العمل الفني فريدة من نوعها، حيث لم تتطرق أي من الأعمال الخليجية السابقة إلى قضايا الإرهاب والهجمات على المسلمين والمساجد والشوارع والمحجبات من قبل، مشيراً إلى أن (حين رأت) يبدأ بعقدة معينة مستوحاة من الأحداث الواقعية ومنها نتطرق إلى مشاكل وقضايا أخرى يعاني منها المغتربون، بالإضافة إلى عرض تجاربهم في الحياة مع أمثالهم في الخارج، وهو ما برع في تجسيده على نحو جيد للغاية من خلال لغة جسد تعكس التوترات الداخلية والخارجية لشخصية فارس الذي يعد محور الأحداث.
أما الممثلة اللبنانية (ليلى عبدالله) فقد أدت شخصية فتاة مسيحية تدعى (ماريا) وتعيش حالة حب متوترة مع شاب يهودي، بطريقة ناعمة ومعبرة للغاية باعتبار أن مسلسل (حين رأت) يعد الأحدث من نوعه بالنسبة لها، إذ يطرح قضايا وظروفاً نعايشها بالواقع – كما تقول على لسانها – وربما كان التحدث بلغتها الأم (اللبنانية) بمثابة تحدٍ لها (لأنها بالأساس تعيش في الكويت)، ولكنها أتقنت دورها، وليس ذلك فحسب بل ربما شعرت ببعض القلق حيال أداء دور شابة مسيحية، ولكن كونها تعيش في مجتمعات خليجية تضم أفراداً من مختلف المرجعيات الدينية تمكنت من أداء دورها بكل ثقة.
وشهد الملسلسل عدد من الممثلين الذين أتقنوا أدوراها على نجو جيد مثل الممثلة السعودية (ريم العلي) التي أدت شخصية فتاة سعودية تدرس في أوروبا، وقد ساعدها في ذلك أن العمل أنه يحاكي الواقع بجرأة وموضوعية، أيضا طلال مارديني، الذي أدى شخصية (مروان) وتبدو براعته في تقمص دور الشرير العاشق المجنون إذ تحول حبه لماريا بعد أن انفصلا إلى أفعال سيئة تسيء له ولها يقدم ببرود أعصاب يحسد عليها، كما أن طاقم العمل، الممثل الكويتي (علي الحسيني)، الذي يؤدي شخصية (بسام) بطريقة رائعة ما يدفع المشاهد إلى إعادة استقراء تجربة الحياة ومضمونها ومفاهيمها، بينما يقدم الممثل العراقي القدير (عزيز خيون) شخصية الجد (محفوظ) بلغة متزنة وحكيمة والذي يجد نفسه في مدينة تتألم لكن تنهض بفضل إصراره وعزيمته التي لم تقهرها سنوات الغربة والضياع.
وشارك الممثل التونسي (أيمن مبروك) الذي ظهر في دور محقق يدعى (ميلاد) في مدينة غربية، ليعبر بحرفية كبيرة عن شخصية مهاجر تونسي في إحدى الدول الأوروبية، وعلى درب الأداء الجيد يأتي الممثل الكويتي (عبد الله الزيد) في شخصية الدكتور (شهاب) حبيب وخطيب مريم، ليؤكد على صدق موهبته في ثاني أعماله الرمضانية هذا العام، بعد مسلسل (الناموس) الذي لعب فيه دور صحفي مشاكس أدت به مغامراته إلى القتل.
أجمل مافي مسلسل (حين رأت) من وجهة نظري الشخصية أنه تطرق بجرأة لموضوع العرب والإرهاب في أوروبا، والفكرة الرئيسة للعمل هى التعايش بين الأديان، ويطرح قضايا الإرهاب والعنف بشكل جديد، ويتطرق لأسباب الخلافات العربية، بالإضافة إلى موضوعات سياسية واجتماعية، ولعل تصويره في بلغاريا، وسط إجراءات احترازية مشددة، وعلى الرغم من صعوبة الموضوع والطقس حاد الثلوجة إلا أنه كان صادقا في تعبيره عن دفء المشاعر الإنسانية المفقودة، وذلك بتسليط الضوء عليها عبر حكايات مغتربين يدرسون في الخارج، وقد استمد ذلك من فكرة التعايش بين الأديان ومخاطر الإرهاب والعنف، خصوصاً مع موجة الإرهاب، التي تعرض لها العرب في الآونة الأخيرة وتحديداً المسلمين والفتيات المحجبات.
قد يبدو لي ولغيرى من النقاد والمراقبين أن موضوع مسلسل (حين رأت) ليس جديدا جدا على الدراما العربية، حيث ظهر من قبل في قليل من المسلسلات التي تعرضت لتلك الممارسات سابقا، لكنه هذه المرة يتطرقإلى مالم يتطرق أحد إلية في الماضي وتحديدا في دراما الخليج، إذ يطرح (حين رأت) قضايا غفيرة تتمحور بشأن حكايات التعايش خارج الدول والشباب في الغربة والمشاكل التي تتم بصحبتهم في المهجر، لاسيما مع موجة التطرف المسلح التي تعرض لها العرب خلال الفترة الأخيرة، وبالضبط المسلمين والإناث المحجبات، وتم التطرق لها بموضوعية وبشكل مهم للغاية دون الانقضاض على أي حاجز.
وهنالك عدة مشاهد تبقى في ذاكرة المشاهد مع خط نهاية مسلسل (حين رأت) كـ (ماستر سين)، لكني أتوقف عند مشاهد بكائية المواطن من أصل عراقي (الجد محفوظ) على ابنه وحفيده في الحلقة العاشرة، والذي أداه الفنان الكبير العراقي (عزيز خيون) بطريقة أقرب للأداء المسرحي الهادي ليلخص به مشاهد الغربة والهجير وسط صقيع أوروبا الذي لايرحم حتى الأطفال من القتل بتفجير أحد المساجد وسط تلك المدينة الموحشة، وقد جاء المشهد الغارق في التراجيديا على النحو التالي:
يقف (الجد محفوظ) على عربة لبيع العصير .. هى كل ما بقي له في تلك الغربة الموحشة بعد أن ضاع ابنه وحفيده سامي في أحداث تفجير المسجد الذي هز أرجاء المدينة الباردة في جوها ومشاهرها.
تأتيه مكالمة تليفونية من موطنه الأصلي بغداد، بعد أن استراح على كرسي قليلا قريب من عناء الوقوف أمام عربة العصير، ويقول : ألووو .. هلا بو بلال هلا .. الحمد لله .. ماشي .. لا لا شويه اتحركت يعني .. سويتي دي شغلة أبيع عصير.. كشك صغير عربانة أتحرك حتي لا أبقى قاعد في البيت .. همه صروف وهمه حركة لجسمي يعني .. تعرف القعدة مو زينة .. يعني بعد ماراح سامي وأبو سامي عميت عيني عليهم .. ضاقت الدنيا عليا .. ايه صار البيت اش كبره.
ثم يقفز (العم محفوظ) على الأحداث المؤلمة في حياته قائلا لأبو بلال: أقولك ترى أنا مشتاق لبغداد طقت روحى الشاهد الله .. شي اسوي .. شي أسوي يا بو بلال .. من غربة إلى غربة إن قول الحمد لله .. الله كريم.
ورغم معاناته الكبيرة وجراحه التي لم تلتئم بعد يقول: أنا عندي أمل كبير في بكره .. ايه ما أدري أشوف بكره غير شكل .. ايه .. ماشي .. سلمي الله يخليك .. ثم يهز رأسه قائلا : ان شاء الله .. نتواصل.
وفي رجاء خاص يقول لأبو بلال : لا تقطع الله يخليك .. يلا مع السلامة .. مع السلامة .. ثم يقاوم الدموع في عينيه بصعوبة بالغة، ومع نظرة حزن وأسى تبدو على وجهه الذي يعكس الحسرة والألم على سنوات الغربة والضياع وسط أجواء أوروبا التي فر إليها قادم من نار الإرهاب إلى جحيم أكبر من ذات الإرهاب الأعمى الذي ضاع فيه ابنه وحفيده منهيا حديثه قائلا: الحمدلله.
قد تبدو مكالمة قصيرة للغاية، لكن الفنان القدير (عزيز خيون) بأدائه العذب استطاع أن يجسد كل معاناة العرب المغتربين عن بلادهم بحثا عن مكان آمن خارج الحدود، لكنهم سرعان ما تتكسر نفوسهم الحائرة على صخرة الواقع الأكثر إيلاما عبر سنوات والغربة والبعد عن دفء الأوطان، وتلك لاتعدلها ولا تعوضها بلاد الدنيا على كبرها واتساعها.