بقلم : محمد حبوشة
الاخراج السنيمائي هو عملية إدارة تحويل محتوى مكتوب إلى صور متحركة ملموسة، والمحتوى المكتوب هو السيناريو، والصور المتحركة تمثل الشخصيات التي تؤدي دورا لشخصية في العمل، ويختارها المخرج ويقوم المخرج بإدارة هذه العملية ويضع تصورا لها ويخرجها للشكل النهائي، ومن ثم لا يمكن تعريف وظيفة المخرج السينمائي بشكل دقيق، فتختلف شركات الأفلام والمخرجين في تحديد صلاحيات ومهام هذا المنصب بالضبط، فيجب أن يكون للمخرج فهم شامل لجميع جوانب إنتاج الفيلم، من التمثيل إلى تقنية العدسات، ويمكننا القول أن هذا هو منصب ذو مسؤولية كبيرة، فإذا كنت تريد أن تصبح مخرجا ناجحا فستحتاج أولا لكسب الكثير من المعلومات والخبرات في الأدوار الأخرى في العمل الفني للأفلام، وينبغي على المخرج إعداد نفسه جيدا والعمل بجد ليحقق طموحه والهدف الذي يرنو إليه، فالمكاسب المالية الضخمة ستأتي لاحقا إن أثبت وجوده ونقش اسمه في جدار المخرجين العظماء.
وضيفنا في باب (بروفايل) هذا الأسبوع المخرج الكبير (محمد عبد العزيز) هو واحد من أولئك الذين حققوا معادلة الإخراج السينمائي بجدارة فنقش اسمه في جدار المخرجين العظماء، وليس ذلك لأنه آخر عظماء سينما الأبيض والأسود، ولكن لأنه من المخرجين الحرفيين الذين يملكون أسلوبا مفعما بالحيوية في استخدام الكاميرا، والمخرح الحرفي المتمكن من أدواته مثل (محمد عبد العزيز) له تفسيره المباشر والخاص للنص، وتتبع الشخصيات والسرد وإدارته للممثلين، واختياراته في التصوير، وهذا هو الذي يدعم هذا التفسير المباشر، وسواء كان الجمهور يذهب إلى دور العرض السينمائية بحثا عن الراحة النفسية أو عن الإثارة، وسواء كان يبحث عن المألوف أو يرغب في غير المألوف، فإننا نعلم أننا حين نشاهد الأفلام فإننا نريد ما هو أكثر من معرفة حقائق الحياة.
تقنيات في صناعة الفيلم
وأيا ما كان النمط الفيلمي، وعنصر المفاجأة، وانقلاب الأنماط، والمعاني المتضمنة، والأسلوب، فإنها جميعا تساهم في التجربة السينمائية التي يعيشها المتفرج لذا يعد دور المخرج في الفيلم مهما للغاية، فيرجع إليه نجاح الفيلم أو فشله، فهو مسؤول عن تحويل النص المطبوع إلى صورة واقعية ملموسة، ويمكننا القول بأن المخرج هو مترجم السيناريو، ويضع رؤية كاملة عن المشهد ويوفر ما يلزم من الأدوات والتقنيات المطلوب كي يتحول النص إلى عرض ناجحٍ، كما لمسنا ذلك من خلال تجربة المخرج الكبير محمد عبد العزيز منذ بدايات الأولى وحتى آخر أفلامه.
ولأن لكل نجاحٍ ضريبة، فقد اضطر المخرج (محمد عبد العزيز) لأن يدع حياته الشخصية جانبا وتفرغ تماما للعمل حسب جدول الإنتاج، ففي النهار يعمل بالتصوير وبالليل يعيد كتابة السيناريو، وحتى أثناء فترات الراحة يتدرب تدريبا قاسيا، وذلك باعتبار أنه يجب على المخرج أن يشرف على كل كبيرة وصغيرة بالعمل، فيشرف على الأضواء والأزياء والديكور والكاميرا والممثلين، وغيرها من المهام الكثيرة، لذا فعمل المخرج يحتاج إلى معرفة وخبرة واسعة، وقدرة على القيادة الحكيمة، وللمخرج (عبد العزيز) صفات عدة قد تبدو متناقضة بعض الشيء، لكن يمكن حل معادلة تحقيقها، ومن هذه الصفات، أنه كان مستبد الرأي، في نفس الوقت كان ديكتاتورا، لكنه في ذات الوقت يبدو واقعيا ومخلصا، ومن ثم كان دائما قائدا حكيما، وله القدرة على اتخاذ القرارات الحكيمة ومتابعتها، وعليه فهو في العادة يكون أقرب صديقٍ لفريق العمل.
القاضي والرئيس والصديق
وفضلا عن كون (محمد عبد العزيز) في حياته العملية هو مدير الإخراج السنيمائي الأول، فهو أيضا القاضي والرئيس والصديق، ودائما ما يكون إنسانا مبدعا، فهو المسؤول الأول والأخير عن تحويل الكلمات المطبوعة في السيناريو إلى حدث مادي ملموس، فيكون إنسانا واعيا للقضايا حوله، سواء الثقافية أو السياسية أو الاجتماعية، مع القدرة على إتقان عملية الإنتاج وأساليب سرد القصص، ومن أهم سمات المخرج (محمد عبد العزيز) أيضا أنه متعدد المهارات، ولديه حس فني عال، حيث يستطيع في كل الأحوال أن يوظف كل شيء في مكانه الصحيح، وأن تكون له نظرة ثاقبة ورؤية واضحة وتوقعات على درجة كبيرة من الصحة بشأن مستقبل الفيلم.
فهو كما ذكرنا المهندس الأول لعملية الاخراج السنيمائي ككل، ومسؤولا بالضرورة عن الجانب الإبداعي للإنتاج، فهو من يختار الممثلين، ويدربهم، ويتابع المشاهد كلها بدقة، ويعطي تصورا نهائيا عن المشروع، وفوق كل ذلك عليه أن يتابع الموسيقى والتدريبات وكافة الأمور المتعلقة بالجزء الإبداعي للمشروع في صورته النهائية.
وترتيبا على ماسبق فإنه على جسر الوصول إلى قمة هرم السينما المصرية، يبقى المخرج الكبير محمد عبدالعزيز واحدا من الأعمدة الشامخة فى تاريخ الإخراج، وإحدى القلاع الكوميدية المهمة فى رحلة الفن السابع، فالمخرج الكبير استطاع بإبداعه المدهش أن يرسم الضحكة ويصنع الابتسامة على وجوه الجميع، فى رحلة عمر ومشوار حياة قضاها وراء الكاميرا، عاصر خلالها الكبار وصادق العظماء وزامل الموهوبين.
ولد بحي العباسية
سيرته الذاتية كما يرويها بنفسه تبدأ من مولده بحى العباسية فى القاهرة، لأب يعمل فى إدارة القصور الملكية، حيث يقضى أوقات عمله شتاء فى قصر عابدين، ثم ينتقل إلى قصر رأس التين فى الإسكندرية صيفا، حيث كانت الأسرة تقيم إقامة شبه كاملة خلال أشهر الصيف، وهنا يتذكر (عبدالعزيز): فى هذه الأوقات أجد ذاكرتى تحتفظ بتفاصيل الأحداث التى شهدتها مصر مطلع هذا الزمان بصورة كاملة، وفى أرشيف أفكارى توجد أطياف لأحداث ووقائع علقت تفاصيلها بذهنى، مثل مشاهد العساكر الإنجليز وهم يتنقلون بين حوارى القاهرة وداخل شوارعها، بالإضافة إلى الحديث الدائم والدائر بين البشر حول أجواء الحرب العالمية الثانية.
ويبين أن لحظات الإدراك الأولى التى بدأ من خلالها فهم ما يدور حوله جاءت عبر عتبة جريدة (المصرى)، وهى واحدة من أشهر صحف الأربعينيات، اعتاد والده قراءتها آنذاك، ورغم الانتشار اللافت للمجلات المخصصة لأدب الأطفال، لكن عقله كان منحاز – على حد قوله – لمطالعة تلك الجريدة، ومهتما أكثر بقراءة أخبار لا تتناسب مع سنه الصغيرة، وفي هذا يقول: جذبتنى كتابات الأساتذة محمد التابعى وأحمد الصاوى ومحمد زكى عبدالقادر، وصرت مفتونا بالصحافة بصورة أكبر من شغفى نحو قراءة الأدب، فكلمات هؤلاء الكبار عبر صفحاتها كانت تروى ظمئى وتشبع نهمى، لذلك ظل قلبى معلقا بعشق صاحبة الجلالة زمنا، حتى واتتنى فرصة مشاهدة تصوير أحد الأفلام السينمائية لصاحب الفضل على المخرج صلاح أبوسيف؟.
أسباب عشقى للسينما
ويضيف: (هذا الرجل العظيم قصة كبرى فى كتاب حياتى، ويتصدر مشهد البطولة فى أسباب عشقى للسينما، حين جمعتنى معه الأقدار صدفة دون ترتيب، لكن الصدفة هنا كان قدرها أن تكون خير وأجمل من ألف ميعاد، ويحكى عن هذه الصدفة قائلا: (بعد سنوات قليلة من ميلادى انتقلت أسرتى من مسكنها فى حى العباسية إلى مستقرها فى بولاق، وكان رائد الواقعية فى السينما المصرية صلاح أبوسيف من سكان ذلك الحى، وللمصادفة كانت شقيقته تسكن فى الشقة المقابلة لنا، وأثمرت تلك الجيرة عن علاقة قوية بين العائلتين، كنت وقتها فى الخامسة من عمرى، وطلبت منها أن تتوسط لى عنده من أجل السماح لى بمشاهدة تصوير أحد الأفلام التى يخرجها.
وبالفعل حضرت تصوير أجزاء من فيلم (المنتقم) بطولة أحمد سالم، وكانت تلك هى المرة الأولى التى أدخل فيها بلاتوه وبهرتنى الأجواء بأضوائها وضوضائها، وشعرت وكأن الحياة يعاد صنعها من جديد أمامي، فحينها لم أر صلاح أبوسيف مجرد مخرج يقف وراء الكاميرا، لكنى اعتبرته بمثابة قائد يقود جنوده فى معركة، وفى تلك اللحظة بالتحديد حسمت مستقبلى وعقدت العزم على أن أصبح مخرجا، ولذلك بدأت فى قراءة كل ما يتعلق بذلك العلم الهائل والممتع الذى أسرنى بسحره وشجونه وأبطاله وحكاياته وحكاويه، ونتاجا لذلك الشغف بدأت الإلمام بكل الفنون المتعلقة بعلم الإخراج حيث قراءة الروايات والأدب، وأصبح قلبى يبحث قبل عينى عن كتابات العمالقة نجيب محفوظ وإحسان عبدالقدوس باعتبارهما أكثر الأدباء احتكاكا بالسينما، ثم أتبعت ذلك بتصفح روائع المسرح العالمى.
وبمرور الوقت وانقضاء الأيام، وبينما (عبدالعزيز) على أعتاب الانتهاء من دراسته الثانوية، بدأت تلوح فى الأُفق فكرة إنشاء معهد للسينما، حيث اقترحت النائبة البرلمانية (راوية عطية) فكرة تأسيس هذا الكيان المهم، ويقول المخرج الكبير: بمجرد أن سمعتها انتفضت وشعرت بأن حلمى اقترب تحقيقه، وعلى الفور أرسلت خطابات للرئيس جمال عبدالناصر أطالبه بتأسيس ذلك المعهد، ولم أكتف بذلك فقط، فقد راسلت وزارة الإرشاد كذلك، وسرعان ما تم الاستقرار على إنشاء المعهد، على أن يكون تابعا لأكاديمية الفنون، وتم تخصيص قطعة أرض فى شارع الهرم، ومن شدة تعلقه بالموضوع كان يتردد على الأرض وهى فضاء.
حلم معهد السينما
ولم يمضِ وقت طويل حتى رأيت مواكب العمال – يصف عبد العزيز المشهد الأسطوري الذي ظل عالقا بذاكرته – تستعد لتشييد هذا الصرح، ثلاثة أشهر فقط كانت هى المدة الزمنية التى احتاجها البناءون للانتهاء من تنفيذ المشروع، وكنت أشعر مع كل طوبة توضع فى جدار المعهد، بأننى فى حلم لست قادرا على استيعاب تفاصيل سرعة حدوثه، فلم أصدق أن يتم الانتهاء منه بتلك الصورة المبهرة، وعلى الفور بدأت الدراسة، ومن حسن طالعى أنه كان يدرس فيه قامات عظيمة أمثال المخرجين الكبيرين (محمد كريم وأحمد بدرخان)، وخلال دراستى فى المعهد نجحت فى المزج بين العمل والدراسة، ورغم أنها كانت مرحلة شديدة الصعوبة باعتبار أننى آنذاك كنت أعمل مساعدا مع بعض المخرجين الكبار، وهو ما يتطلب تركيزا كبيرا منى، لم يثننى عن تحقيق التفوق الدراسى والذى توجته بالتعيين معيدًا».
ويسرد المخرج الكبير (محمد عبد العزيز) شريط الذكريات قائلا: أعتقد أن حالة العشق الداخلى التى عشتها تجاه معهد السينما منذ أن كان حلما ثم صار صرحا، جعلتنى أهزم كل الصعاب التى واجهتها، فأنا حتى تلك اللحظة أحمل طاقة حب لهذا المكان أعجز عن التعبير عنها، فهو بمثابة بيتى الأول وليس الثانى، ويكفى أنه من خلاله حققت كل أحلامى التى تمنيتها، البعيدة قبل القريبة، ولذلك فضل هذا المبنى علىّ لا يمكن أن أنساه.
فى حياة المخرج الكبير محمد عبدالعزيز نقطة تمثل لقطة مثيرة للتساؤل، وهى رغم كونه ابنا شرعيا فى الإخراج لرائد تيار الواقعية فى السينما المصرية صلاح أبوسيف، فإنه حين بدأ الاستقلال بذاته انحاز إلى الأعمال الكوميدية، فى انقلاب فنى دفع البعض لاعتباره بمثابة الوريث الشرعى لأسطى الكوميديا الراحل فطين عبدالوهاب.
أستاذى صلاح أبوسيف
ويعود (محمد عبد العزيز بذكرياته للوارء قائلا: بحكم القرابة والجيرة نشأت علاقة خاصة مع أستاذى صلاح أبوسيف مثلما قلت سابقا، وحين قرأ فى عينى ارتباطى بفن الإخراج اختارنى للعمل معه مساعدًا، وكانت البداية من محطة عمل ضخم هو (القاهرة 30)، ذلك الفيلم الذى حضرنا له لمدة تتجاوز ستة أشهر، وخلال تلك المدة كنت مكلفا من (أبوسيف) بإعداد دراسة عن حال وأوضاع القاهرة عام 1930 من كل الأوجه السياسية والاقتصادية، وما يتعلق بالأحزاب السياسية والتيارات الاجتماعية الموجودة آنذاك، حتى أننى قضيت خمسة أشهر بحثًا وتحريا لأجل التأكد من وجود سور (جامعة القاهرة).
لكن لاحقا بعد سنوات من العمل مع (أبوسيف)، وجدت المخرج الكبير حلمى حليم، الذى كان أستاذا وأبا روحيا لى داخل معهد السينما، وأيضا فى الحياة، ينصحنى بالاتجاه نحو تقديم الأعمال الكوميدية، ولم يكن وحده من قال ذلك، فقد توافقت رؤاه مع رأى الأمريكى (هانش)، وكان يدرس لى داخل المعهد هو الآخر، وربما أصابنى نوع من الدهشة من هذا الكلام، لكنى لم أشعر بانجذاب تجاه تلك الفكرة مفضلا الاستمرار فى إخراج الأعمال التراجيدية، خاصة أن هذا التوقيت كان شاهدًا على نقلة كبرى فى حياتى أنا وأبناء جيلى، حيث ظهر القطاع العام الذى بدأ يدير صناعة السينما، وكان الاتجاه السائد وقتها قائما على إعطاء الفُرص للمخرجين الشباب حديثى التخرج من المعهد.
آنذاك تبنوا شكلًا جديدًا يتمثل فى إخراج عمل يتكون من ثلاثة قصص – يضيف عبد العزيز – وينفذ كل مخرج قصة من تلك الثلاثية، وكان من نصيبى فصل فى عمل بعنوان (صور ممنوعة) بعدها نفذت عملا روائيا طويلا اسمه (امرأة من القاهرة)، كتبه الصحفى الراحل الكبير أحمد بهجت فى أولى تجاربه لكتابة السيناريو، وقام ببطولته عدد ضخم من نجوم ذلك العصر، وبالمناسبة كان ذلك آخر فيلم أبيض وأسود فى تاريخ السينما المصرية، لكن هذا الفيلم لم يحقق النجاح المطلوب، وبقيت لمدة عامين لا أقدم أى أعمال، حتى جاء عام 1973 فأخرجت وقتها فيلم (فى الصيف لازم نحب) فى أولى تجاربى داخل عالم الكوميديا، وبعد عرض الفيلم وجدت احتفالا واحتفاء ساحقا بنجاحه سواء من الناحية الجماهيرية أو النقدية.
وريث عملاق الكوميديا
في تلك اللحظة الفاصلة من عمري يقول عبد العزيز: وجدت النقاد يصنفوننى بأقلامهم بأننى أمثل الوريث الفنى لعرش عملاق الكوميديا فطين عبدالوهاب، وأننى فى الإخراج لست إلا الامتداد الطبيعى لذلك الرجل العظيم رغم أننى لم أكن أعرفه بصفة شخصية ولم يسبق أن جمعنى به لقاء، وكان جيلنا يحمل داخله سلوكا التزاميا تجاه المهنة ورثه من اقترابه من الأساتذة الرواد الكبار، فقد علمونا الاهتمام بالتفاصيل واحترام العمل الكامل وكيفية بناء النص وطريقة اختيار الأبطال، لكن للأسف الجيل التالى لنا افتقد لتلك الأدبيات، وأصبح مصطلح (السبوبة) هو الغالب على تفكيره، لذلك أحاول أن أنقل كل القيم والصفات التى تربيت عليها للأجيال الجديدة التى أدرس لها حالي بمعهد السينما.
جاءت نقطة لمعان وتوهج المخرج محمد عبدالعزيز مواكبة لميلاد جيل جديد من المخرجين الذين ترك كل واحد منهم بصمته على جدار السينما المصرية الشامخ فنيًا والمزدهر تاريخيا، لكن وسط هذا التوهج والتألق توقف نهر عطاء هذا الجيل فجأة دون مقدمات، وفي هذا يقول (عبد العزيز): فترة السبعينيات كانت شاهدة على ميلاد جديد لجيل من المخرجين معجونين بحب المهنة، مثل أشرف فهمى ونادر جلال وكثيرين غيرهما، جميعنا دخلنا ملعب الإخراج من باب الكبار، والأمر ذاته ينطبق على الجيل التالى لنا مباشرة، الذى ضم أسماء مثل على عبدالخالق وعمر عبدالعزيز، لكن اللافت للانتباه آنذاك هو تميز كل واحد منا بلون معين، وفكرة مختلفة لا تتطابق مع ما يقدمه الآخر، فهناك من يقدم التراجيدى، وآخر مشغول بالكوميدى، وثالث مهتم بالبعد الاجتماعى فى أعماله، لكن الثابت والمشترك بيننا جميعا هو أننا كنا مهمومين بالمضمون الجيد الذى نبحث من خلاله عن إيصال رسالة مفيدة للجمهور والمجتمع على حد سواء.
جريمة سينما المقاولات
ويضيف عبد العزيز: فى منتصف الثمانينيات تبدلت الحال تماما، بعدما تسللت إلى السينما مجموعة من المنتجين أضروها أكثر مما نفعوها، كانوا عبارة عن تجار اخترعوا ما يسمى (سينما المقاولات)، فالمنتجون خلال فترات الخمسينيات والستينيات والسبعينيات كانوا نجوما بمعنى الكلمة، لديهم إدراك ووعى وحس بقيمة ما يقدمونه مثل رمسيس نجيب وحلمى رفلة وغيرهما، ولعل تلك كانت هى الأزمة الحقيقية التى ضربت الشاشة الفضية فى مقتل من وجهة نظرى، بالإضافة إلى ضعف النصوص التى يتم تقديمها كسيناريوهات خاصة، بعد ابتعاد السينما المصرية عن تقديم النصوص الأدبية التى أنتجت روائع الخمسينيات والستينيات من أفلام، تلك الأعمال التى كان يكتبها عمالقة وعباقرة الأدب والراوية.
ويقف المخرج محمد عبد العزيز على أعتاب تلك الحقبة قائلا بحسرة: بعد اكتساح تيار (المقاولات) فى السينما أصبح الاستسهال والاستخفاف هو السائد، وأصبحت عادة (سلق) الأفلام فى ستة أيام، تتم خلالها كتابة وتصوير العمل، شيئا متعارفا عليه، وهو ما يتنافى تماما مع زماننا الذى عشناه، فمثلا حين تعاقدت مع الكاتب الكبير على الزرقانى لكتابة فيلم (رجل فقد عقله) اشترط إعطاءه مهلة سنتين لكتابة السيناريو والحوار، وهو أمر شبه مستحيل حدوثه حاليا أو حتى سابقا.
أرشيف المخرج القدير (محمد عبد العزيز) ملىء بعدد ضخم من النجوم الذين عمل معهم سواء كانوا مخرجين أو فنانين، وهو يتحدث عنهم قائلا: جدار السينما المصرية منقوش بإبداعات تتزاحم على صدارة المشهد، لكن هذا الزخم الكبير يصعب معه أن يتم تصنيف هذا المخرج أو ذلك الفنان باعتباره الأفضل فى تاريخها، فمثلا: صلاح أبوسيف صاحب بصمة عظمى، وحسين كمال موهبة استثنائية، أيضا يوسف شاهين كانت له إسهامات كبيرة جدًا من الناحية التكنيكية، لكن اتجاهه الفكرى ابتعد فى فترة ما بعدا كبيرا عن عقل وعاطفة الجمهور، وتذكر أنه سأله وقتها: (امتى هتقدملنا حاجة زى فيلم الأرض؟)، فرد قائلًا: (دا أوحش فيلم عملته فى حياتى).
صانع عادل إمام
وبالنسبة لتعامله على صعيد نجوم السينما وخلال سنوات عمله قال: تعاملت مع كل أو تقريبا معظم الفنانين والفنانات الذين تزينت بهم السينما المصرية، على رأسهم بالطبع عادل إمام، الذى جمعنى به عدد ضخم من الأفلام حققت جميعها نجاحات كبيرة فى بدايات صعوده، ويبقى هو البطل الأهم فى سينما محمد عبدالعزيز، ونفس الحال ينطبق على محمود ياسين، ولا أُنكر أن أحمد زكى يبقى الأكثر موهبة ودون شك هو شىء فارق فى تاريخ السينما المصرية، وبالرغم من صداقتنا القوية فإننى لم يكتب لى تقديم أى أعمال معه، ونفس الحال تكررت مع العظيمة فاتن حمامة، التى كانت ترغب فى الظهور فى قالب كوميدى من إخراجى، لكن المشروع لم يكتب له التوفيق، ورغم أننى أحببتها كثيرا، لكن تظل سعاد حسنى حالة خاصة جدا، ليست لها حدود، وأعتقد أنها خلقت للوقوف أمام الكاميرا، وستبقى دائما فى مكانة متفردة لا ينازعها فيها أحد.
والمخرج محمد عبد العزيز يشكل علامة هامة في مجال الكوميديا، فقد اعتبره النقاد خليفة للراحل فطين عبد الوهاب، فمنذ بداية مشواره الفني في السبعينات حقق إنجازات في الكوميديا الاجتماعية رسخت اسمه في عالم السينما الكوميديا، حيث بدأ عمله في مجال الفن كمساعد مخرج في أفلام مثل القاهرة 30 عام 1966، وأبي فوق الشجرة عام 1969، ونحن لا نزرع الشوك عام 1970، وثرثرة فوق النيل عام 1971، ثم تولى الإخراج، وكانت بداية عمله في السبعينيات، وكان أول أفلامه فيلم (صور ممنوعة) عام 1972، ثم أخرج أفلام مثل (في الصيف لازم نحب) عام 1974، و(عالم عيال عيال) عام 1976، و(ألف بوسة وبوسة) عام 1977، كما تعاون مع عادل إمام في أفلام مثل (المحفظة معايا والبعض يذهب للمأذون مرتين عام 1978، وقاتل ما قتلش حد وخلي بالك من جيرانك عام 1979) تلاها العديد من الأفلام المشتركة بينهم.
أفلام في الذاكرة
ويبقى في الذاكرة من أهم أعمال (محمد عبد العزيز) الأفلام التالية: (دقة قلب، العيال الطيبين، جنس ناعم، شفاه لا تعرف الكذب، انتبهوا أيها السادة، المحفظة معايا، البعض يذهب للمأذون مرتين، قاتل ما قتلش حد، خلي بالك من جيرانك، غاوي مشاكل، رجل فقد عقله، أذكياء لكن أغبياء، مرسي فوق مرسي تحت، رحلة الرعب، انتخبوا الدكتور سليمان عبد الباسط، على باب الوزير، عصابة حمادة وتوتو، رحلة الشقاء والحب، بريق عينيك، مملكة الهلوسة، ولكن شيئا ما يبقى، مين فينا الحرامي، لك يوم يا بيه، بناتنا في الخارج، الثعلب والعنب، عشرة على عشرة، خلي بالك من عقلك، الحكم آخر الجلسة، منزل العائلة المسمومة، لا تدمرني معك، سري للغاية، الجلسة سرية، أجراس الخطر، نشاطركم الأفراح، ليلة القبض على بكيزة وزغلول، صرخة ندم، المعلمة سماح، الفتى الشرير، ليلة عسل، حنفي الأبهة، الشيطان يقدم حلا، لعبة الانتقام، آه .. وآه من شربات، أسوار الحب، حلق حوش.
ومن أهم مسلسلاته: (لو حصل العكس، يوم عسل يوم بصل، وتاهت بعد العمر الطويل، شجر الأحلام، حارة الطبلاوي، ثمار الوهم، يحيا العدل، غدر وكبرياء، أهل الرحمة، حياتي أنت، حمد الله على السلامة، آخر الخط، أبو ضحكة جنان، بابا نور، وعلى مستوى المسرح تبرز أعمال مثل: شارع محمد علي، بهلول في إسطنبول، عفروتو، زكي في الوزارة.
أشهر أقواله:
** كريم صنع نجوميته فى السينما بمفرده، فأنا كنت معترضًا تمامًا على دخوله المجال الفنى، لكنه بفضل موهبته احتل مكانة بارزة وسط أبناء جيله.
** أنصح كريم أن يقدم فيلما كل عام ومسلسل كل 4 أو 5 أعوام، وهو يميل للسينما، وضيف عزيز على التليفزيون.
** حتى تستقيم أمور السينما فهذا مرهون بعودة المنتج الفنان المؤمن بقيمة ما يقدمه ويطرحه، بجانب ضرورة الاهتمام بالمضمون أكثر من الصورة، وإعادة تقديم النصوص الأدبية.
** نحن في حالة تردي في صناعة السينما، لأن كمية الأفلام الجيدة تعد على أصابع اليد الواحدة في الموسم، والصناعة كما درسناها عن أساتذتنا سواء على المستوي التراجيدي أو الكوميديا تراجعت بشكل كبير جدا وبلغت حالة من الانحطاط و الإسفاف الشديد.
** الكوميديا رسالة هامة جدا ولا تقل أهمية عن التراجيدي، بل هي أصعب لأنها مرتبطة بجانب ذهني وفلسفي وتتعرض لكل قضايا المجتمع ، وهى من أحب الألوان لقلوب الجماهير، وتؤثر عليهم كثيرا.
** السينمائيين ليسوا في حاجة لتدخل الدولة في الإنتاج، الحل في يد الجمهور هو من سيلفظ هذه النماذج ويهجرها، وأتصور أن الجمهور تشبع من هذه النماذج ، والدليل على ذلك عند تحديد موعد عرض فيلم (الفيل الأزرق) الذي قدمه كريم عبد العزيز ومأخوذ عن نص أدبي لأحمد مراد وإخراج مروان حامد.
وفي النهاية لابد لي من تحية تقدير واحترام للمخرج الكبير والقدير (محمد عبد العزيز، ذلك المبدع من طراز فريد، والذي آثر خلال عمله الممتد من الستينات من القرن الماضي، ألا يسير عبر درب واحد في مشواره الفني، فطرق ألوان متعددة للفنون، فتارة يقدم دراما اجتماعية وأخرى كوميدية وثالثة واقعية، وكون ثنائي مع النجم عادل إمام كتبت نجاحاته بحروف من نور عبر مشوارهما في عالم الكوميديا، وترك بصمة ولون مميز في كل أعماله، حتى إنك حين تذكر اسم المخرج الكبير محمد عبد العزيز يتبادر إلى ذهنك العديد من أسماء الأفلام المهمة التى شكلت علامات سينمائية مضيئة ومحطات فنية قوية، بدأت منذ أن عمل كمساعد وأصبح واحدا من أهم صناع الكوميديا فى السينما المصرية.