كتب : محمد حبوشة
على الرغم من الانتعاشة التي حدثت للمسرح المصري مؤخرا إلا أن الواقع الثقافى المصرى يشهد منذ فترة كارثة فكرية مؤسفة، تأتى كجريمة اغتيال فعلية لفن المسرح، وتشويه رؤاه وتفريغ محتواه، بعد أن صدر الحكم بإعدام المعنى والهدف والدلالة، وتفتحت المسارات أمام الزيف والتغييب والتضليل، والاستهانة المطلقة بعقول الناس، من خلال تجربة غاية في السذاجة والسخف والبذاءة تسمى (مسرح مصر)، والذي أصبح ظاهرة خطيرة تفرض التوقف أمامها، حيث تخترق عقول شباب العالم العربى، لتسقط فى أعماقهم معنى الفن والذوق والجمال، وتهدم جوهر المسرح باعتباره الممارسة العلنية لفعل الحرية والديمقراطية، وفى هذا السياق يصبح (مسرح مصر) هو المتهم الأول بإفساد الذوق العام، وتغييب قيم المسرح، وفلسفة الكوميديا، وتشويه الروح والمعنى والانتماء والضرب بمعول في التراث الفني المصري.
ويبدو لي من الأساس أن اختيار اسم (مسرح مصر) هو استفزاز سافر لكل قيم الوعى والإبداع والجمال، فالمسرح المصرى هو تاريخ وثقافة وفن وذاكرة وجذور، وهذا الاختيار هو مسئولية وأمانة كبرى لم يقدرها من اختاروه، فكيف استطاع أصحاب هذه التجربة أن يختصروا ملامح المسرح المصرى فى تيارات الإسفاف والابتذال والغياب؟، و كما هو ثابت واقعيا من خلال تلك التجربة أن العروض التى تقدم لاتنتمى للمسرح، باعتبارها خروجاً سافرا عن أصول الكوميديا ، بكل مذاهبها ومدارسها واتجاهاتها الحديثة والمعاصرة.
لقد دخل الكوميديان أشرف عبد الباقى – الأب الشرعى لهذا التيار- ، دخل الزاوية الحرجة، وأصبح عليه أن يواجه نفسه بحقيقة الخسائر الثقافية الفادحة، والآثار السلبية الفاضحة، التى يبعثها مسرح مصر، تلك التجربة التى انطلقت برعاية قناة mbc، وتعاون عبد الباقى مع المخرج نادر صلاح الدين ، فكونا فرقة من شباب الهواة ، لتقديم عرض جديد كل أسبوع، وتحققت أمام الشباب فرصة ذهبية، من حيث الجمهور العريض، والمسرح الأنيق، والتصوير والعرض على أشهر الفضائيات ، ثم ردود الفعل العالية ، التى حققت لهم شهرة واسعة ، اخترقت عقول الشباب والكبار ، فى مصر والعالم العربى .
وبفضل هذه التجربة السيئة للغاية أصبحنا أمام معادلة صعبة عسيرة التوازن، تبعثها تيارات التغييب العارمة، التى أعلنت العصيان على الفن والكوميديا وعلى مفاهيم الضحك – فكيف يمكن الافتراء على المسرح بتجارب تفتقد كل المقومات الفنية – ولاتثير الضحك بقدر ما تثير الاشمئزاز من فرط سطحيتها وثقل ظلها، فليس هناك نص ولا كتابة ولا إخراج ولا تمثيل، كل المفردات بدائية مسطحة ومختزلة، كل ملامح الفن غائبة، والشباب يفتقدون أبجديات الخبرة وأسرار الجمال، ورشاقة الحركة وجماليات الأداء، لكنهم ينجحون فى إثارة الضحكات البلهاء الفارغة من خلال اسقاط على أبرز أعمالنا المسرحية والدرامية التي كانت تحمل قيما وتعكس جوهر الفن الجميل.
وفى هذا السياق، مازال أشرف عبد الباقى مستمرا فى غيه بتقديم هذا الهراء المخيف، ومازال الناس فى بلادنا يفتقدون الوعى والحس والقيم والجمال في تفاعلهم مع هذه الظاهرة، ومازالت الإشكالية المطروحة هى أن صورة المسرح كحرية وإرادة واختيار وفن وفكر وفرجة وإبهار، يجب أن تظل باقية فى أعماق الأجيال الطالعة، بعيدا عن الإصرار على اغتيال المسرح، وتشويه الكوميديا وتضليل الناس، واستلاب البقية الباقية من العقل النقدى المصرى الذي كان مفخرة الشرق كله.
وفى قلب هذا المشهد العبثي المتوتر لم يكفه اغتيال المسرح الكوميدي المصري بهذا الهراء، فقد قفز أشرف عبد الباقي على مشاعر الجمهور ونقابتي الممثلين والموسيقيين، بفرض مغني المهرجانات (حمو بيكا) في مسرحيته التي تعرض في الساحل الشمال حاليا بعنوان (شمسية وأربع كراسي)، وظني أن هذا الاستهتار بمشاعر الجمهور والجهات المسئولة هو بمثابة المسمار الأخير في نعش مسرح عبد الباقي، فبعد أن كانت قوة مصر الناعمة حاضرة بقوة لتعلن العصيان على وقائع الزيف والسقوط، لتؤكد عبر التجارب الحية الثائرة، أن المسرح هو الحرية والكشف والمعرفة، وفى هذا السياق يشهد واقعنا الثقافى تيارا عارما من تجارب مسرح الدولة، التى تبعث ردود فعل عالية تتأكد عبر جماليات التواصل الجماهيرى المدهش مع أعمال تستحق الإعجاب والتقدير، أصبح حال المسرح المصري يدعو للتندر على الماضي العريق بعد سقوطه في براثن التردي بفعل كوميديا باهتة ومزيفة، واستغلال نماذج سلبية في عروض حية بهدف ركوب الترند.
الفنان الكبير محمد صبحي سبق وأن علق على تجربة (مسرح مصر)، وقال إنه في البداية كان يشكر أشرف عبد الباقي لتنفيذ هذه الفكرة مع فرقته، ثم تحولت الفكرة إلى (قلة أدب)، ثم تحولت لقمة الانحطاط، مضيفا في إحدى حوارته التليفزيونية أن (الفن فاس محطوط علشان يدمر الأسرة والشباب)، مؤكد (إن الفن هو المعول الحقيقي لهدم الأسرة) – طبعا يقصد ما يقدم من فنون في الوقت الراهن، و(مسرح مصر) منذ بداية ظهوره أثار الكثير من الجدل ما بين معجب بفكرته وبالشباب الذي يشارك في العروض، والمواهب الكوميدية التي يفرزها، وما بين معارض لفكرة العروض لأسباب مختلفة.
فقد تحدث الفنان سمير غانم عن (مسرح مصر) أثناء ندوة تكريمه في دار الأوبرا المصرية على هامش فعاليات الدورة الـ 39 من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، وقال غانم: ( أحب شباب مسرح مصر مع أشرف عبد الباقي، وحضرت لهم عرضا من قبل وسيخرج منهم قنابل فنية كوميدية، ومنهم من بدأ تقديم أعمال من بطولته، ولكن نوعية مسرح مصر تُضحكني في وقتها حتى أخرج من المسرح ثم أنسى ما قُدم).
وقالت سميحة أيوب في حوار تليفزيوني لها: أن (مسرح مصر) ليس المسرح الذي تحب أن تتبناه، وأشارت إلى أن هذه الفرقة بها طاقات كبيرة وتتمنى أن تتوظف في أعمال تنفع الجمهور وليس مجرد لهدف الضحك لأن المسرح يجب أن يُقدم رسالة، ووصف الفنان سيد رجب (مسرح مصر) بالاسكتشات الكوميدية وليس بالمسرح، وقال: (ممثلين الفرقة موهوبين ودمهم خفيف، ولكن لا نستطيع أن نُطلق عليه اسم المسرح).
أما الفنان محمد نجم فقد هاجم فريق (مسرح مصر) وقال في أحد البرامج: (أشرف عبد الباقي وفرقته يقدمون عروض غريبة عن ما أعرفه بالمسرح، والذي أعرفه عن المسرحية أن لها موضوع وتصاعد ونهاية، ولكن مسرح مصر عبارة عن اسكتشات وليست لديها فكرة مرتبطة)، وطلب فاروق الفيشاوي من أشرف عبد الباقي في أحد لقاءاته الصحفية، أن يتوقف عن تقديم عروض (مسرح مصر)، وقال إنها عروض تسيئ للمسرح والفن المصري، في حين وجه المخرج جلال الشرقاوي انتقادا حادا لعروض (مسرح مصر) وشبهها بجلسات المخدرات، نافيا حتى إمكانية وصفها باسكتشات، مثل التي كانت تقدم في المرحلتين الثانوية والجامعية في السابق.
ما مضى يعني أننا أمام ظاهرة سلبية في المسرح المصري تتمثل في تجربة (مسرح مصر) فهى معادل موضوعي للتردي والانهيار ولن تبقى في الذاكرة طويلا، ومن المؤكد أن الأعمال الفنية الحقيقية تبقى حية ومتوهجة وقابلة للتفاعل مع الأطر الإنسانية والسياسية والتاريخية ، المختلفة، وعلينا أن نتذكر مثلا أوبريت الليلة الكبيرة، لصلاح جاهين وصلاح السقا، الذى ما يزال يمتلك قوة خارقة على البقاء والتفاعل والامتداد، وهو من أهم أعمال الريبورتوار الباقية منذ الستينيات وحتى الآن، ومازال مشحونا بكل طاقات الجمال، ويشاهده الجمهور العريض بشغف.
ومن المعروف أن تاريخ مسرحنا فى مصر يموج بالأعمال الكبرى الثرية، التى تؤكد أن الفن الحقيقى يبقى ويواجه، ويعيش، أما فقاعات الخلل والتزييف، فهى تسقط من ذاكرة الإبداع، ورغم كل الصخب والضجيج والإقبال الجماهيرى على تجارب أشرف عبد الباقى فى (مسرح مصر)، إلا أن هذه التيارات الهابطة ستسقط حتما من ذاكرة التاريخ، ولكنها ستظل شرخا فى جدار الفكر والفن، فالمسرح لم يكن أبدا قافية وتلفيقا وتزييفا ومراوغة كما يأتي في اسكتشات مشوهة يقدمها (مسرح مصر).
إن للمسرح أخلاقيات عظيمة لا يمكن لفن آخر مهما كان من قوة أو إبداع أن يكتنفها مثلما يكتنفها هذا الفن النبيل، ولكون المسرح يمتلك كل تلك القدرات فقد لقبه الفلاسفة والعلماء بابو الفنون جميعا .. ولهذا السبب فإنه (المسرح) يفرض على الإنسان والمجتمع واقعه وليس العكس، ويمكن أن نعتبره الأداة والوسيلة التي تحارب كل حالة شاذة في المجتمع من خلال طروحاته سواء كان ذلك من خلال النص أو التمثيل أو الديكور أو الإخراج… إلخ ، ومن هنا فلا تعني الكوميديا أبدا أن يكون الإسفاف أسلوبا لجلب الضحك واستدراره من الأفواه، أو طريقا يضطر إلى أن يسلكه (الكوميديان) لصناعة النكتة الحاضرة في الموقف وارتجال الطرفة، ولو تم هذا على حساب أخلاقيات المجتمع فلا يمكن أن يكون ذلك المعنى الصحيح لفن الكوميديا بجلب شخصيات كريهة كـ (حمو بيكا)، فمن جماليات المسرح عموما أن يرسم الابتسامة على وجوه الحاضرين، ويقدم التجربة، ويعكس المواقف الحياتية بكل آلامها وطرافتها، وعرضها في قوالب كوميدية من دون إسفاف أو خدش مشاعر، أو تحدى إرادة الناس.
وفي النهاية لسنا في حاجة إلى مسرح أو فن، لا يقدم لنا شيئا يفيد العقول ويرتقي بالسلوك، ويسهم في تكريس لغة سوقية، وأخلاقيات هابطة، وأفكار شاذة، يجب على كل من يتقدم إلى المسرح الكوميدي وهو يسوق خطاه إلى المسرح، أن ينظر إلى جمهور المتلقين من أطفال وأسر وشباب من الجنسين، ومن ثم يستحضر القيم الدينية والتقاليد والأعراف والقيم المجتمعية والأخلاقية، وأن يأتي ومعه أهداف سامية، تسمو بأفراد المجتمع، وأن يبتعد عن تقديم أي ثقافة سلبية منحطة، وأن يعلم أنه ليس مضطرا إلى أن يستخدم الإسفاف لجلب الضحك، فهو يريد أن يصنع وعيا إيجابيا، ولو كان الضحك جزءا من المهمة التي يقوم بها صناع المسرح في وقتنا الراهن.