بقلم : محمد حبوشة
بغض النظر عن كونه مأخوذا عن قصة حقيقية حدثت في سوريا أو مصر، ينتمي مسلسل (الحرامي) لنوعية الأعمال الكوميدية في قالب اجتماعي لافت للانتباه، وعلى الرغم من قصر مدة الحلقة التي لاتزيد عن 10 دقائق في جزئه الأول، لكنه استطاع أن يغير قواعد الصناعة المعتادة للدراما بمصر، ويقدم مضمونا سريعا معتمدا على عقدة واحدة، ويناسب جمهور المشاهدين عبر الهواتف المحمولة (الموبايل)، لكنه أثار جدلا بالنسبة إلى الجمهور التقليدي الباحث عن التأثر الوجداني والاندماج مع الأبطال في أفراحهم وأحزانهم، ومع ذلك نجح في كسر الأعراف الراسخة في صناعة الدراما المصرية التي تعتمد على المشاركة بين الجمهور والممثلين عبر الأحداث المتلاحقة والمركبة، والاستفاضة في شرح خلفيات الأبطال التي تدفع بهم إلى المواقف المصيرية التي يتخذونها في حياتهم، ليقدّم صراعا معقدا في مدى لا يتجاوز عشر حلقات، كل منها لا تتجاوز عشر دقائق.
ربما تسبب قصر المدة الزمنية للحلقات، في عدم تعلق الجمهور بالشخصيات أو التعاطف معها، خاصة مع طبيعة جمهور الدراما الذي يتوحد مع الأعمال الفنية، ويصعب عليه الفصل بين عالم المسلسلات والواقع، ويعاني من استحضار ظروف وخبرات سيئة مر بها في الواقع ويحاول التحرر منها عبر عالم الدراما إلى درجة تلقي الممثلين تهديدات بالقتل أو الإيذاء بسبب طبيعة أدوارهم، ومع ذلك تبدو القصة الحقيقية منطقية للغاية، فالشاب الصغير المحروم من لحمة العائلة وحنانها، كان يبحث عن الدفء عبر مشاهدة كيفية عيش الأبناء مع أهاليهم، وظل طوال الفترة التي يقطن فيها يتحرى الحذر الشديد، فلا يترك مخلفات له من الطعام أو الشراب، أو الحركة على عكس العمل الذي كان فيه (كمال/ أحمد داش) يتحرك بسلاسة في المنزل فيشرب ويأكل أمام الثلاجة لمدة طويلة رغم وجود مالكيه.
يصعب تصنيف (الحرامي) في جزئيه الأول في سياق واحد فهو ينتمي إلى الدراما من ناحية و(السيتكوم) من ناحية أخرى، وقد تسببت تلك الازدواجية في التعامل السطحي مع فكرته ومحاولة انتزاع الضحك بالسخرية من كورونا، وهوس العائلة بالتعقيم وجهل الفقراء بوجود الفيروس من الأساس، واستعاذتهم بالله ممن يحملون الكحول باعتباره مادة مسكرة محرمة، وتقديم شخصيات خالية من التفاصيل دون خلفيات عن المشكلات التي تعاني منها أو حتى توضيح نمط علاقاتها وتشابكاتها.
صحيح أن المسلسل قدم تخيلات بدت غير عقلانية للكثيرين، بوقوع فتاة في حب اللص الذي يسرق منزلها وتعاطفها معه إلى درجة أنها تسأل أصدقاءها على كيفية إرضائه بعدما أهانته وتشجيعه على الانتقال من مؤهل متوسط إلى الالتحاق بالتعليم الجامعي، وتسهيل مهمته في الهروب من منزل أسرتها متحدية والدها شرس الطباع، ورغم وتيرة السرعة على مستوى الوقت إلا أن (الحرامي) في جزئه الأول كان يحمل نوعا من البطء فاكتشاف اللص لم يتم إلا في الحلقة الثامنة، ما أفقد العمل الكثير من الأجواء الكوميدية والإنسانيات التي كان يمكن إقحامها، أو استعراض الخلفيات التي أتى منها، وتوصيل وجهة نظر مؤلفه المنغمس في قضايا المهمشين في عالم المدابغ ومجتمعات (العربجية) وأصحاب (عربات الكارلو) الخشبية المتمركزين على تخوم القاهرة.
كما يحفل الجزء الأول من المسلسل أيضا بمشاهد متناقضة، فاللصان يرتديان الملابس الشتوية وأصحاب الوحدة المسروقة يرتدون أزياء صيفية ويشغلون في الوقت ذاته وسائل تدفئة، وحتى (كمال) يتعرض إلى ضربة قوية على يده اليسرى صباحا، ويعتمد على اليد ذاتها في تسلق عمارة سكنية تحت الإنشاء والقفز من مسافات مرتفعة تحتاج إلى محترف بلياقة بدنية، وحتى المقدّمة الغنائية للعمل لم تكن موفقة، فكمية الدمج في الصور جعلته شبيها بعمل عن الغيبيات باعتمادها على اللونين الأسود والأحمر، وصور لورود تنمو بعنف وآلات تصوير، وسماعات أذن تتطاير في الهواء، وكلها تخلق تشويقا ليس له علاقة بعمل يحمل قدرا من الكوميديا والتراجيديا، أما الرومانسية فتظهره علاقة الحب بين اللص والابنة المراهقة التي تبحث عن كيفية رد الجميل له على إنقاذه حياتها حينما تعرضت لنوبة ربو.
ومع كل تلك النقائص التي أصابت (الحرامي1) إلا أنه يذكر للمخرج الشاب محمد سلامة أنه استطاع أن يخلق مساحة تشويق بنهاية كل حلقة ومداعبة خيالات الجمهور، وإن كانت بعض الأحداث مكررة من التراث الدرامي السابق كتيمة فقرة فقدان خاتم الألماس، واتهام اللص بسرقته قبل أن يتبين وجوده في مكان آخر وعدم سرقته، أو اتهامه مجددا بسرقة مبلغ مالي من خزينة المنزل ويتضح أن الابنة الكبرى حصلت عليه لرشوة شخص حاول استغلال صورها، وقد وفق (سلامة) إلى حد ما في ربط واقع كورونا وتأثيراتها على تداعيات الحياة بوجه عام فالعمالة اليومية تضررت في دخلها وعادت إلى مسقط رأسها في الأقاليم، وبعض الأثرياء تخلصوا من حيواناتهم الأليفة بسبب التخوف من المرض، والمجتمع بوجه عام تحول إلى قطاع لا يعرف شيئا عن المرض ولا يميز بين الإصابة الفيروسية وغيرها من التوعكات المرضية.
جاءت نهاية الجزء الأول صادمة للجمهور الباحث عن النهايات السعيدة، فرغم حل البطل لمشكلة فريدة وحصوله على الصور التي تتعرّض للابتزاز بسببها، إلا أنه تلقى أشد أصناف المعاملة القاسية من أسرتها، ليسير هائما في الشوارع باحثا عن حياة جديدة حاملا ملفا ورقيا لإحدى كليات الهندسة باحثا عن مجتمع لا يعايره بكونه حالما بمجتمع يتقبّله.
في الجزء الثاني حيث كانت المساحة الزمنية للحلقة تزيد عن العشرين دقيقة قليلا، ومن هنا نجح صناع المسلسل في تقديم دراما مكثفة للجمهور تتمتع بقدر من الإثارة والتشويق بدون مط أو حشو مما جعل المشاهدين لا يشعرون بالملل أثناء متابعة الأحداث، وأيضا جعل إيقاع المسلسل سريعا، ويرجع السبب في ذلك إلى أن قصة المسلسل غير متشعبة التفاصيل فلم ترهق الجمهور أثناء متابعتها؛ بعكس بعض المسلسلات المليئة بكم كبير من الأطراف والعلاقات والخطوط الدرامية؛ وهو ما يصيب المشاهدين ببعض التشتيت وكأنهم يلهثون للإمساك بتسلسل الأحداث.
وهنالك ملاحظة مهمة للغاية فنجد في مسلسل (الحرامي 2) أن جميع الفنانين المشاركين فيه قد نجحوا في أداء أدوارهم بحرفية، مما أشعر الجمهور بأن الشخصيات التي يتابعها خلال الأحداث تكاد تكون من لحم ودم، خاصة أداء بيومي فؤاد البعيد في إبداعه عن الكوميديا التي اشتهر بها، من خلال تقديمه لشخصية (طارق) الأب الحنون الذي دائما ما يخاف على بناته خوفا مرضيا يؤذيهن في أغلب الأحيان، كما جاءت شخصية (كمال) اللص غير المحترف والذي أدى دوره أحمد داش؛ في محاولة لتغيير الصورة النمطية للبسطاء، وتسليط الضوء على أن ظروفهم الاجتماعية كثيرا ما تكون السبب الأساسي في الفشل والإحباط الذي يصلون إليه، كما أعطى صورة مختلفة حول المهمشين في المجتمع وأننا يجب أن نهيىء لهم جوا صحيا؛ ليغيروا من أنفسهم ويصبحوا شخصيات سوية وفعالة.
ومن أهم رسائل المسلسل ضرورة ترابط أفراد الأسرة خاصة علاقة الآباء والأمهات بأبنائهم؛ والحفاظ دوما على مساحات من التواصل فيما بينهم حتى لا يعيش كل منهم في جزيرة منعزلة، واتضح ذلك في أسرة (طارق) أو بيومي فؤاد ورانيا يوسف وبناتهم الثلاث، فرأينا الأب والأم منفصلين عن حياة بناتهما ومنهمكين في خلافاتهما ولكنهم يحاولان إصلاح الخلل دوما، أيضا اهتم المسلسل بقضية اجتماعية مكررة في ظاهرها، وهى الفوارق بين الطبقات وخصوصية كل مستوى فيها، لكن (الحرامي) اختار زاوية واحدة للمعالجة والتركيز عليها تتعلق بأن السرقة يمكن حصرها في المستوى الاجتماعي الفقير، الأمر الذي تلاشاه طاقم التأليف في الجزء الثاني متعمدا الإيحاء بأن السارق ليست له هوية مجتمعية محددة، بما جعل العمل أقرب إلى الواقع وتشابكاته المعقدة.
في الجزء الثاني من مسلسل (الحرامي) إخراج أحمد الجندي، وشارك في الكتابة منار ماهر، علاء مصباح، عبدالعزيز النجار، وسيناريو وحوار محمد بركات، معالجة وإشراف على فريق الكتابة أحمد فوزي صالح، كان هذا الفريق متناغما في تقديم معالجة درامية متماسكة فنيا غير أن التيمة التي لعب عليها تثير تساؤلات عديدة، لأنها كانت تقفز فوق الأحداث في بعض الأحيان بلا مقدمات أو مبررات تخدم الفكرة، لكن المخرج أحمد الجندي استوعب أن استمرار الأبطال الرئيسيين دون تغيير قد يفضي إلى ملل المشاهد أو شعوره بالرتابة، فأضاف إليهم الفنان محمد جمعة في شخصية (نشأت) و محمد خميس في دور (شقيق زوجة نشأت) ومعهما مساحة لتوسيع دائرة المطاردة في الدراما التي تخدم الفكرة الرئيسية للمسلسل.
أستطيع القول بأن الجزء الثاني من (الحرامي) بدت الحبكة الفنية فيه مليئة بالإثارة والتشويق والتعقيد وتضافرت فيها الكثير من المؤثرات الدرامية واستعان المخرج بموسيقى لافتة ومتقنة لأنها خلقت أجواء حافلة بالخوف بمعناه الرمزي والمادي، الأمر الذي ظهر بوضوح في مشهد تسلق كمال للفيلا التي يريد أن يحضر منها النقود والأوراق التي طلبها طارق منه لتبرئته وإدانة صديقه، وهنا يشعر المشاهد في لقطات المطاردة بالخوف والاطمئنان في آن واحد، الخوف من القبض على كمال أثناء عملية السرقة، والاطمئنان أن مواهبه في خفة الحركة والتنكر تسعفه في الهروب، وهو ما أشار إليه طارق في مشهد إقناع كمال بالسرقة بأنه أقام في منزله (طارق) عدة أيام دون أن يشعر به، وظهر بيومي فؤاد بأسلوبه السلس في التمثيل الذي يشعر المشاهد كأنه يؤدي دورا حقيقيا في حياته العادية عبر تثاقل خطواته وإبداء نوع من الأرهاق علي جسده المتخم بالهموم.
تجمع القلق في المشاهد التي رصدت فيها حبيبة كمال ( سالي/ رنا رئيس) وهى المريضة بشكل مزمن لتعرف إلى أين سيذهب ووالدها معا وحدثت لها مواقف تجمع بين الإثارة والطرافة أيضا، وقد دخل على خطوط مشاهد السرقة التي يقوم بها الحرامي معظم أبطال العمل، حسب دور كل منهم، في محاولة لتوظيف الشغف في استكمال عناصر الإثارة، والاستفادة من عنوان المسلسل الذي تدور حوله جميع الحلقات.
وبغض النظر عن نتيجة المساحة الطويلة للإثارة والدراما الملحمية التي تؤكد أن (الحرامي 2) يحمل وجوها عدة تظهر في أوقات مختلفة، فالعمل يحوي مجموعة من الاستنتاجات الفنية، في مقدمتها أن فريق العمل الواحد الذي يبدأ من التكامل بين الممثلين والممثلات ويصل إلى من يقفون خلف الكاميرات، من مخرج ومؤلفين وموسيقى وديكور، يمكنه تقديم أعمال جيدة ذات مستوى هادف طالما أن الجميع يحرص على النجاح، فالأنانية كانت سببا في تخريب الكثير من الأعمال الفنية.
وحفل المسلسل بمبارزة تمثيلية شيقة بين (أحمد داش ورنا رئيس) وشقيقتها الكبرى في العمل (كاروين عزمي)، فالأول بدأ يشق طريقه، وعكست الثانية شكل الفتاة الحالمة والرومانسية والرقيقة، فيما برعت الثالثة في دور الفتاة الشقية والدلوعة التي لا تحسب خطواتها بدقة، ومغرمة مثل معظم بنات جيلها بالسوشيال ميديا ومتابعتها، وكان تصوير سذاجتها في إقامة علاقات عاطفية مع أحد الشباب نموذجا لما يمكن أن يقود إليه الاستهتار وتراجع المراقبة الأسرية من مشكلات.
وفي النهاية لم تكن حلقات (الحرامي 2) اجتماعية بالمعنى التقليدي، حيث نسجت خيوطا مغايرة وحرصت على تقديم نصائح للشباب والفتيات بطريقة غير مباشرة تدل على وعي كبير بما يمكن تمريره من أفكار وطريقة تقبلها، فلم تعد وصفة الدروس والنصائح والعبر والشكل الخطابي المباشر مفيدة في عصرنا الراهن مع شباب خبر التكنولوجيا وتفوق في استخدامها، ويظل التجويد الفني من أهم المقاييس للحكم على تميز أي عمل درامي بالتوازي مع الفكرة المطروحة، وتبدو الإثارة والتشويق من أهم مقومات نجاح (الحرامي) وغيره من مسلسلات المنصات ذات الحلقات محدودة العدد قصيرة المساحة الزمنية للحلقة الواحدة، لأنها في النهاية تعكس الانسجام وجودة الأداء وتقديم صورة مبهرة تؤكد على جودة وبراعة صناع العمل.