كتب : محمد حبوشة
كانت رائحة الموت تفوح في كل جنبات شوارع وميادين مدينة سرت الساحلية؛ فتنظيم (داعش) الإرهابي قد احتل المدينة الليبية قرابة عامين، وأعمل في رجالها الخطف والقتل، وفي نسائها السبي، إلى أن تمكنت قوات (البنيان المرصوص) بغرب ليبيا من طرده مع نهاية عام 2016 من خلال مسلسل (غسق) الذي يحمل في طياته جانب من فصول هذه الفترة العصيبة التي عاشتها ليبيا وتناول بشكل مكثف، كيف وضع التنظيم الإرهابي رقاب الجميع تحت مقصلته؟ وإلى أي مدى نجحت القوات الليبية في دحر عناصره وتصفية بعضهم؟.
ربما واجه المسلسل الذي أخرجه المبدع أسامة رزق، وأنتجه وليد اللافي، وكتبه سراج هويدي، بعض الانتقادات والاعتراضات من جانب محسوبين على عملية (البنيان المرصوص)، رغم أنه يجسد معاناة الليبين مع الإرهاب، فقد قال بعض الذين قضوا في هذه المواجهات الدموية التي تتعلق في جانب منها بأن العمل (لم يبرز بشكل كاف تضحيات المقاتلين في مواجهة عناصر التنظيم الذين أتوا من أقطار شتى)، لكنها في الأغلب اعتراضات تعكس قدراً من التجاذبات السياسية، وخاصة أن المسلسل يعرض في عشر حلقات على قناة (سلام)، مجسداً تحركات التنظيم اليومية وفرض سيطرته على المدينة وجعلها معقلاً له، وخرجت جميعاً بشكل يوثق جرائم التنظيم في ذبح المواطنين في ساحات سرت.
استبق المعترضون عرض باقي حلقات المسلسل وزادوا في نقدهم ورفضهم لما يتناوله من أحداث، معللين ذلك بأنه اعتمد (فصل الأحداث عن سياقها التاريخي)، كما طالبت كتيبة (بركان مصراتة) بوقف عرض العمل في حينه، وعبرت (كتيبة البركان) بمصراتة عما اسمته (خيبة أملها) بشأن إعداد مسلسل يتناول (بطولات) قواتها على هذا النحو، رغم أن العمل الدرامي (محكوم بزمن محدد بحيث لا يمكن للكاتب والمخرج أن يستعرضا كل الأحداث وجميع الأشخاص المشاركين بها) ومن وجهة نظري الشخصية أرى أن هذا سببا معقولا جدا إلى حد كبير بالنظر إلى أحوال الدراما الليبية، وافتقادها إلى أدوات المنافسة.
تقديري الشخصي أن الأحداث جاءت منطقية إلى حد كبير وغلفها أداء جيد للغاية من أبطال العمل الذين تنوعت مشاربهم ما بين تونس والمغرب وليبيا ومصر أيضا، وقد جاءت الأحداث على وقع موسيقى معبرة للغاية ألفها الموسيقار الأردني طارق الناصر، صاحب مسلسلات (الجوارح، إخوة التراب، ملوك الطوائف»، وقد مضي المسلسل في تجسيد جانب من قطف رؤوس الرجال، وإذلال النساء وسبيهم، وإجبار الجميع على دفع الجزية، لكن لوحظ أن هناك استباقاً واضحاً لعرض المسلسل، فقبل أن يستهل أولى حلقاته مع بداية رمضان، ومع استعراض (البرومو) الترويجي له فقط، انهالت الاعتراضات عليه، عبر رسائل وصفت بأنها لأسر (الشهداء) الذين قضوا في مواجهة (داعش) يطالبون آمر عملية (البنيان المرصوص) بوقف المسلسل.
علينا أولا أن نسجل ونؤكد جملة من الحقائق قبل متابعة حلقات المسلسل، فالدراما محاكاة للواقع وليست نقلا له، يرى أرسطو في كتاب الشعر (أن التاريخ يكتب الأحداث كما وقعت ولكن الدراما تكتب الأحداث كما كان ينبغي أن تقع)، فالنقل التصويري المحايد والدقيق هو مهمة الصحفي ومخرج الأفلام الوثائقية وليس صانع الدراما، ومن شروط الدراما استخدام عنصري التشويق والإثارة لشد المتلقي ودفعه إلى المتابعة حتى النهاية، فبدون التشويق والإثارة قد يشعر المشاهد بالملل فينصرف عن متابعة العمل، لذلك يعمد كتاب السيناريو والمخرجين إلى إضافة شخصيات وأحداث متخيلة على هامش المتن الأصلي للدراما لإحداث الإثارة والتشويق، من دون أن تؤثر هذه الإضافات على الهيكل الرئيسي للحدث.
معلوم أن توثيق الأحداث الكبرى في تاريخنا دراميا أمر بالغ الأهمية، لأن الدراما من أهم أدوات المعرفة الثقافية، وهى أكثر متعة من الكتب لأنها تجمع بين كل الفنون، اللوحة والنص والمسرح والموسيقى، في قالب واحد، وبالتالي فهي أقدر على مخاطبة العقل والحواس، وتتجاوز في تأثيرها كافة الفنون الأخرى، فالتأثير الذي يحدثه مسلسل واحد أو فلم ربما لا تحدثه قراءة عشرة كتب، كما أن مطالعة الكتب بحاجة إلى صبر ومجهود فكري لا تشترطهما مشاهدة الأعمال الدرامية، لذلك نحن بحاجة إلى أكثر من مسلسل وفيلم لتوثيق الوقائع الكبرى في تاريخنا، قبل أن تتسرب من ثقوب الذاكرة ويطويها النسيان.
ومسلسل (غسق) ككل الأعمال الدرامية التاريخية يتكئ على حدث تاريخي، ويقدم رؤيته الخاصة له عبر صياغته في قالب فني درامي يحفظ الحدث الأصلي، ولا يحوره أو يعدله، وإنما يتحرك دراميا على حدوده ليمزج بين الحقيقي والمتخيل، ليقدم عملا فنيا متكامل الأركان، يخدم الرسالة التي يسعى صناعه إلى بثها عبر حلقات المسلسل، إذن ليس هنالك من مبرر كي يدعوا بأن العمل (مخالف للحقيقة مع وجود شخصيات جدلية به وعدم التواصل مع القادة الحقيقيين للعملية).
ويبدو غريبا بالنسبة لي على الأقل أنه قد ذهب آخرون في شططهم إلى أن مؤلف العمل (اقتطع سياقات تاريخية مهمة، ولحظات مفصلية في تاريخ مدينة سرت التي واجهت التنظيم، ليسير بها على هواه ووفق عواطفه)، وأعتقد أن نجح في المعالجة الدرامية لأحداث وقعت بالفعل على أرض الواقع المر، وأجمل مافي تلك المعالجة هو مزج الاجتماعي بالسياسي بالعمليات الإرهابية في سرد متقن أظنها عبر عن الحالة الليبية على جناح تجسيد صادق من جانب فريق العمل التمثيلي الذي نافس من خلاله مسلسلات مصرية ذات تكلفة أعلى بكثير على مستوى التوثيق ورصد البطولات.
المهم أنه على مدار عشر حلقات – متفاوتة الطول – يغذي الكاتب سراج هويدي، المشاهد لتأكيد مثالية العالمين خيرا وشرا، فمثلًا الشاب الذي يرسل شعرا رومانسيًا لحبيبته، ويعبر عن معنى الحب، يجد نفسه بسبب هذا الشعر متهما من (داعش) بالفسق والفجور ويتم جلده، تعبيرا عن معنى الكراهية من جانب هذا التنظيم ظلامي الفكر وإحادي النظرة، فالصراع ليس بين شخصيات متناقضة، بل بين نمطين جاهزين وتصورين نقيضين للحياة، من هنا باتت كل اللقطات متوقعة في إطار هذه النمطية، فالسيدات الليبيات يظهرن بشعرهن وزينتهن الجميلة في البيوت، مقابل الداعشيات المختبئات خلف السواد التام في المعسكرات.
ولأن النمطية عادة ما تضعف الدراما، لأنها تجعل كل شيء متوقعا، لذلك حاول السيناريو انتشال العمل من جو الدعاية الزاعقة، والعناية ببعض الخطوط المثيرة أهمها قصة (أم سالم) وغرام القيادي الداعشي (الجزراوي) بها، ثم اتهامها بالسحر وحبها للروايات، نحن هنا أمام شخصية كان بالإمكان أن تكون رواية وبطلة المسلسل، ولكن للأسف لم تستثمر استثمارا كافيا، كذلك الصراع بين (الوالي التكريتي) ورجل الأمن الحديدي (أبو عبد الله) مدخن السجائر والمحب القديم لروايات إحسان عبد القدوس، كان من الممكن أن يعمق الصراع ويكشف صورة غير تقليدية عن مجتمع داعش من الداخل، وكيف تدار المنافسات وتوزع المناصب بين رجاله، وهو خط أضفى حيوية نسبية وإن لم يستثمر بالشكل الكافي الذي يزيد من جو الإثارة والتشويق.
توظيف الأغاني كان رائعا للغاية في ثنايا الأحداث التي تتسم بالقسوة والعنف ولكن الخطوط الجيدة أهملها السيناريو في ظل انشغاله بالطابع التوثيقي، عبر استعادة مشاهد حقيقية، وتكرار الإشارة إلى تحرير عدة بلدات، بالطريقة ذاتها، والهتافات والأغاني نفسها، وربما بسبب هذا الولع التوثيقي، جاءت معظم مشاهد البيوت الليبية مثل زينة لتخفيف عنف وقتامة الصورة على جبهة القتال، لكنها تكاد تخلو من الدراما الإنسانية الحقيقية، فقد جاءت غالبيتها مشاهد يومية رتيبة، لو حذف معظمها لن يحدث أي خلل في بنية السرد.
استعان المسلسل بمجموعة ممثلين من ليبيا وتونس والمغرب وسوريا والأردن منهم أنور التير (القائد سليمان) الذي قاد المقاتلين ميدانيا ضد (داعش)، مهذب الرميلي (أبو عبد الله)، وربيع القاطي (الجزراوي)، وعلي الشول (أبو معاذ التكريتي)، وهند العرفية (أم سالم)، وخدوجة صبري (أم طارق) وغيرهم من ممثلين أجادوا كثيرا في أدوراهم، ولولا فقر الإنتاج الذي ظهر في شكل الأسلحة القديمة وعدم استخدام تقنيات التفجير الحديثة والمواجهات الفاترة بين عناصر الجيش النظامي الليبي (والذي يضم بعض عناصر الميلشيات غير المدربة تدريبا كافيا) وداعش بعتادها وسلاحها الذي الذي يبدو متواضعا.
ومن أهم عناصر ضعف المسلسل أنه جرى تصويره في تركيا فقد عانى من ضعف إنتاجي يظهر مثلا في الإشارة الغامضة والهزلية إلى الدور الأميركي في عملية (البنيان المرصوص) من خلال طائرة محلقة في الجو كأنها صورة فوتوغرافية، فهل كان ذلك لرغبة ما في عدم إبراز هذا الدور؟.
أيضا معظم المعارك ونتائجها عانت من (السيمترية) أو التناظرية، بمعنى أنها جرت على ذات الوتيرة وفي فضاءات متشابهة جدا، لا تتيح للمتفرج أن يعرف الفرق بين (مصراتة، وسرت) ولا معركة تحرير هذه البلدة من تلك، وهنالك جانب آخر يشير إلى الإنتاج يتمثل في الاكتفاء بعشر حلقات، رغم أننا نتحدث عن معركة مفصلية طويلة شهدت عديد المآسي، والمواقف الإنسانية التي تحمل في طياتها جوانب من التراجيديا الإنسانية التي عاشها المواطن الليبي تحت سيطرة هذا التنظيم اللعين، وقد يكون صناعه قد لجئوا إلى عدد قليل من الحلقات لأن المعالجة الممتدة كانت تتطلب رؤية درامية أخرى.
مثلًا في أول حلقة إشارة إلى قتل مجموعة من المصريين المسيحيين، وهي واقعة شهيرة ردت مصر عليها بقصف بعض المواقع في الداخل الليبي، فقد تم تصوير الواقعة بشكل مقتضب جدًا، لا يختلف عما رآه الناس في وسائل الإعلام، ولم يحدث على سبيل المثال أي تعمق للإجابة عن أسئلة من عينة: من هؤلاء؟ ولماذا قتلهم التنظيم بوحشية؟ وكيف قبض عليهم؟ وهل كان للدور المصري أهمية بعد ذلك في دحر التنظيم؟، وخاصة أن هنالك فيلم مصري بعنوان (السرب) يتم تجهيزه حاليا ليحكي بطولة المخابرات العامة والحربية والقوات الخاصة حول هذه الواقعة.
ومع كل مامضى من سلبيات يبقى على المستوى الإنساني مشهد يعتبر (ماستر سين) مسلسل غسق قامت بأدائه نجمة ليبيا الأولى الفنانة القديرة (خدوجة صبري) فيما يشبة المونودراما الحزينة، وهى تنعي ابنها ضابط البوليس (مراد) الذي استشهد عشية تخرجه في عملية غادرة لنسف مقر الكلية، وقد جاء المشهد في تكثيف رائع يعكس جوهر موهبة (صبري) في الأداء الاحترافي رغم أن مساحة دورها صغيرة في ثنايا أحداث المسلسل، وقد جاء المشهد الرائع على النحو التالي:
تتهلل أم طارق فرحا باستقبال ابنها العائد بعد تخرجه من كلية الشرطة ولاتدري سبب تأخر وصوله حتى الآن، وتندفع نحوالباب على أثر طرقه للتو لتجد ابنها طارق واقفا أمامها منكس الرأس، وقبل أن يخبرها باستشهاد أخيه (مراد) تدير وجهها في تجهم قبل أن تجهش بالبكاء على رحيل ولدها الأصغر.
أم طارق : انكتم الصوت .. بيقول شرطي .. ويطبق القانون .. يحمي بلاده وشعبه .. نعم ست سنين وهو يقولي أنا نفسي أكون شرطي زي بابا .. زي الناس اللي نشوف فيهم في الشارع .. وآني نقوله عليش يامراد مش دكتور غير .. يقولي لا .. آني نبي نطلع شرطي .. الشرطي أحسن من الدكتور .. ذاق المستحيل لخاطره.
وتواصل أم طارق نحيبها ممزوجا بالألم قائلة : هيكي .. هيكي في لحظة يسرقوا منا كل شيئ .. حياته .. وأحلامه .. وطموحه .. ياخدوا منا كل شيئ .. وياخدوه مني .. عليش .. عليش .. مراد شدة للأم .. مراد ديمة عليه حاله .. بالقراية للحوش .. ومن الحوش للقراية.
تتذكر أم طارق لحظات صمت مراد وهدوئه وأخلاقة الرفيعة في البيت قائلة : عمره ما كلم حد .. ولا غلط في حد .. إيه عمري ما شميت عليه ريحة دخان .. ولا بات حتى بره .. عليش .. هادا جزاه .. هادا جزاه هادي .. يحمي ناسه وبلاده .. عليش مراد .. عليش .. عليش مراد، ثم تنخرط في بكاء مر مردد : .. آه .. آه .. آه.
ينتهي المشهد الذي أدته (خدوجة صبري) ببراعة مذهلة ممتطية أسلوب المونودراما المسرحية .. تاركة غصة في القلب .. فمازال جرح الوطن الليبي نازفا حتى اليوم جراء أفعال هذا التنظيم الداعشي اللعين.