تامر كروان .. المبهر في صناعة الموسيقى التصويرية
بقلم : محمد حبوشة
قديما، وقبل حتى أن نصل إلى الأفلام الناطقة، كان حديث السينما موسيقى عابرة سردت من خلالها الأحداث، ورويت القصص، ومع التطور المتسارع في صناعة السينما، تطورت الموسيقى السينمائية بالتبعية، حتى أصبح للموسيقى السينمائية عدسات مكبرة لخواطر الشخصيات، من خلالها نستطيع أن نسمع صوت قلب ينكسر، غصة في الحلق، أو دمعة لم تسقط .. هى إذن قادرة على أن تغزو مشهدا بشعور الرعب، أو الانتصار، أو البؤس، بإتقان شديد، وبإمكانها أن تحمل السرد وتلقي به سريعا إلى نهاية المشهد، أو أن تثقله بنغماتها فتبطئ حركته، ولها القدرة على أن تجعل من الحوار العادي شعرا بليغا.
و ظلت الموسيقى محض ديكور للفيلم لسنوات كثيرة، بسبب عدم توفّر تقنيات اليوم الحديثة، ولم يكن من الممكن إضافة الموسيقى لشريط الفيلم آنذاك، لذا، في كل مسرح، كان هناك مجموعة من الموسيقيين يعزفون في الخلفية بينما يُعرض الفيلم، كان يوجد جرامافون أو عازف بيانو في المسارح الصغيرة، أما في المدن الكبيرة فكان يرافق العرض أوركسترا كاملة، لم تتطور وظيفة الموسيقى في الفيلم حتى عام 1929، حيث صارت الموسيقى إضافة مهمة لعملية السرد عندما أصبح بالإمكان مزامنة الموسيقى مع الشريط السينمائي بتطوّر أهمية الموسيقى السينمائية، أصبح صناع الفيلم يكلفون ملحنين لكتابة ألحان خاصة لكل فيلم، لتنبثق مهنة جديدة هى مهنة واضع الموسيقى التصويرية التي تبعث على توضيح الرؤية للفليم والمسرحية والمسلسل كما نلاحظ حاليا.
وهنالك من برعوا في صناعة الموسيقى التصويرية بوجه خاص في قلب السينما والدراما والمصرية، ومنهم ضيفنا في باب (في دائرة الضوء) هذا الأسبوع المبدع الموسيقي (تامر كروان) الذي اشتهر مؤخرا بوضع الموسيقى التصويرية لعديد من الأعمال الدرمية الرمضانية وغيرها، حتي أنه لايمر موسم واحد حتى يكون اسمه على مسلسين أو ثلاثة، وكانت لديه طوال الوقت محاولات ورغبة عارمة في إضافة الموسيقى للفيلم السينمائي، حيث كانت في الأصل محاولة تقنية من صناع السينما لنسج خيوط تقرب بين المشاهد والصورة، إلا أنها بفضل عقله الواعي وأحاسيسه المرهفة استطاعت أن توقظ عند المشاهد لـ (الدراما التليفزيونية) حاسة أخرى جديدة بخلاف حاسة الرؤية، مضيفة للمشاهد صفة المستمع، حيث غدت الموسيقى هى الوسيط بين مشاعر الممثل الخرساء وعقل المشاهد الصاغي، تماما كما بدا في أعماله الدرامية الأخيرة (لعبة نيوتن، 2020، موسى، كل ما نفترق).
ولهذا فإن موسيقى (تامر كروان) لها القدرة على أن تلعب دورا حساسا في رسم معالم إضافية للقصة لا يمكن كتابتها، وإيصال مشاعر لا يمكن للممثل تقمصها أو النطق بها، فهي اللمسة الأخيرة التي تغلف المشهد السينمائي والتليفزيوني بسحر خاص ينقل المشاهد إلى عالم آخر، يسكنه أبطال العرض الذي يشاهده، كما أنها تقوى أيضا على كشف الأحداث المستقبلية للعمل الدرامي( فيلم، أو مسلسل)، إذا استطاع المشاهد فهمها وتحليلها، فهنالك مشاهد لا يمكن أن نراها بعظمتها الحالية لولا وجود موسيقاها التصويرية، إذا، العمل على موسيقى لعرض سينمائي أو تليفزيوني هو أمر حساس وليس بالسهل حيث تلعب دورا مهما في إيضاح الصورة العامة للعمل، فضلا عن ترسيخ مفاهيم أخرى حول الشجن وتقلب العواطف والمشاعر والأحاسيس.
لقد أدرك الموسيقي الساحر بعقل متوافق تماما مع أنامله (تامر كروان) أن الموسيقى تشكل جزءا مهما من حياة الإنسان، إذ دخلت في الكثير من تفاصيل حياته، وباتت تمثل انعكاسا لحالاته النفسية المتعددة، وانسحب ذاك الواقع لينطبق على الأفلام السينمائية والدراما التليفزيونية، إذ باتت الموسيقى تمثل جزءا مهما من تركيبتها الفنية، وكذا تعبر عن حالات الصعود والهبوط في المشاهد السينمائية والتليفزيونية، وأيضا تعكس الحالة النفسية للممثل، من أي جنسية كان، لذا عمل جيدا على الحقائق الفنية التي تؤكد أن العلاقة بينهما متجانسة تماما، وأنه لا يمكن لأي طرف الاستغناء عن الآخر، على الرغم من أن الموسيقى في البداية تسللت باستحياء إلى السينما، لتنخرط بعدها، وبقوة، في تركيبتها، كما جسد ذلك مبكرا في فيلمه (الماجيك) الذي يصل في بعض المشاهد إلى بلاغة سينمائية وشعرية أخاذة، فجسدت موسيقى (كروان) نهج التجربة السينمائية والطابع الخاص للدراما فكانت النتيجة رائعة.
ولد تامر كروان في القاهرة، ودرس الهندسة الميكانيكية، وتخرج منها في عام 1991، ولكنه لم يعمل أبدا في مجال الهندسة وسرعان ما اتجه لدراسة الموسيقى في الأكاديمية الملكية للموسيقى بلندن، وعمل محررا في هيئة الإذاعة البريطانية في عام 1994، ثم عمل مخرج أفلام وثائقية بشبكات أوربت، وكانت البداية الفعلية لكروان للعمل في مجال تأليف الموسيقى للسينما في عام 1999 من خلال فيلم (المدينة) للمخرج يسري نصر الله، ومنذ ذلك الوقت قام بتأليف الموسيقى للعديد من الأعمال السينمائية والتلفزيونية، منها: (باب الشمس، في شقة مصر الجديدة، كباريه، إحكي يا شهرزاد، بالألوان الطبيعية، سجن النسا).
وعن عشقه للموسيقي يقول: أسرتي كانت تحب من البداية أن أدرس مزيكا، ولكنها كانت بالنسبة لي موهبة وهواية ولم أخذ الأمر بجدية، ثم دخلت الجامعة الأمريكية ودرست هندسة وممكن بجانبها تدرس حاجة أخرى، وقررت دراسة المزيكا، وكان فيه مدرس فلسفة قال جملة جعلت لمبة تنور داخلي بأن كل إنسان مخلوق على الأرض لحاجة يحب يعملها ومع إكمال دراستي في الهندسة كنت أسأل نفسي هل أعمل ما أحبه فعلا؟، وبدأت أدرس مزيكا وأزهق من الهندسة ودخلت في المونتاج واشتغلت في (بي بي سي) وبدأت أدخل عالم الميديا،
ويضيف أنه في الصف الثانوي الثالث، شاهدت الإعلان الترويجي لفيلم (باب الشمس) من إخراج يسري نصر الله (2003)، ولم يلفت انتباهي إليه غير الأغنية التي تصدرته، والتي انشغلت بها إلى الحد الذي قررت معه الهروب من الصف والذهاب إلى السينما لمشاهدة الفيلم كاملًا، وكانت الأغنية (يبكي ويضحك) من ألحان الموسيقار تامر كروان، مؤلف موسيقى الفيلم، ومن غناء المنشد زين محمود، وكلمات الأخطل الصغير.
عالم (تامر كروان) ثرى للغاية في روعته وتعبيره الموحي عن روح الدراما، فمن خلال سماعي للموسيقى التصويرية لمسلسل (واحة غروب) شعرت براحة تامة وروح عطرة تنبع من مشاعر نبيلة، خواطرها ورقيقة، إحساسها تتدفق من نبع صافي يروي الأرواح ويسقي روحنا بلمسات أصابع (كروان) على أزرار البيانو الساحر من خلال هزات رأسه يمينا ويسارا ليتماشى مع خطى الأزرار ليسجل في أذنه كل نبضة بقلبه كي يشعر المشاهد بروح الشخصيات التي يراها مجسدة على الشاشة، وربما شيئا من هذا القبيل في فيلم (في شقة مصر الجديدة) فلابد وأنك تسمع صوت حوائط تتحدث ورائحة بيوت عطرة رائقة معبرة عن أحاسيس دفينة بها قرير رومانتيكية مستشعرة ومحسوسة من خلال أصوات كان لا بد من وضعها لتعبر عما يريده الممثل في أداء دوره بكل كمال وإبداع لتصل للمشاهد ولي كصوت معبر وعقل مدبر يضبط إيقاع الأحداث في منطقية.
مابين السينما والدراما التليفزيونية يتقلب تامر كروان على أكثر من وجه موسيقي، يأتيك بفتنة وبهاء وتجسيد لجوهر العمل الدرامي كما لمست ذلك في المسلسل الكوميدي (هبة رجل الغراب)، حيث شعرت بروح جمالية فنية تنبع من شاشة التليفزيون في أذني كمستمع وفي عيني كمشاهد فالموسيقى التصويرية للمسلسل كانت تتدفق كالدم في شريان الشخصيات، وكذلك الحال موسيقاه في فيلم (أحكي يا شهرزاد) والذي تسمع من خلال عزفه الشجي صوت حشرجة منى ذكي وعصبية محمود حميدة – أحيانا – بفضل هذة الموسيقى العابرة والتي بها – أيضا – شعور دفين ينتابك بأن تقتحم قلب منى ذكي لتسبقها وتعرف ما تود حكيه وقوله قبل حكيها كشهرزاد بفضل موسيقى (تامر) ذو الموسيقى الراقية الممتعة والمعبرة عن الحالة في ذات الوقت.
كثيرة هى تجارب (تامر كروان) الموسيقية المعبرة عن جوهر الدراما وأخص منها فيلم (الثمن) الذي أثرت فيه الموسيقى من خلال التأثر والتأثير السمعي في آذاننا وفي لحظة دويات طلقات المسدس الذي كان لا يفارق يد بطلنا بطل الفيلم فالموسيقى خلقت وصنعت روح من أرواح الطلقات مع موت كل شخص، ولا أنسى له موسيقى فيلم (كبارية) من خلال مشاهدتي للفيلم والذي شعرت بإحساس آخر من خلال رقصات الراقصات وتأثير موسيقاه من خلال خلق أصواتا تمثل هزتهن وإهتزازهن لدوامات الموسيقى المتقطعة لأسمع صوت إحساس رقيق يدوي في أذني ولكنني تأثرت مع موسيقاه من خلال سماعي لها في مشهد موت أم الراقصة، فالموسيقى هنا كانت درامية دموية أحيانا من خلال صوت بكاء الموسيقى، ما يوحي بأن للموسيقى قلب كما لموسيقارنا الممتع قلب، لذا كان صوت الموسيقى أشد تأثيرا في مشهد تفجير الكبارية، ولعل تفجيرات الموسيقى التصويرية قد خلقت تفجير حسي ممتع وشيق في خط متواز مع الأحداث.
ولابد لي من أن أعرج على موسيقى فيلم (ألوان السما السبعة) التي جعلتني أسمع أحلق الصوت لعالم آخر، عالم مليء بالحب والوقار، وذلك من خلال روحانيات الرقصات الصوفية وأصوات الدف المعبر عن روحانيات النفس روحانيات الروح روحانيات الحياة روحانيات الإيمان روحانيات السلام والأمن القرير والتعبير عن الإحساس الضرير في عالم الله، ونفس المتعة والجمال الموسيقي شعرت بنبضها في فيلم (المدينة) من خلال الموسيقى التصويرية لأنها كانت مهمة جدا للفيلم السينمائي، الموسيقى موسيقى الفيلم معبرة عن مشاعر الحياة المدينية الدافئة من أنفاس الناس والقرارة المدوية لمشاعر بطل الفيلم (باسم سمرة) فلعبت الموسيقى هنا دورا هاما في براعة أدائها إلى حد تقمص الشخصية على وجه أكمل.
في فيلم (يوم للستات) كان الشعور بالمتعة يختلجه شعور الممل أحيانا بفضل الإيقاع الموسيقى لـ (تامر كروان) لنصل إلى نهاية الفيلم حيث نجد مقطع موسيقي تصويري جميل جدا جدا في مزج روح النساء من خلال نهاية الفيلم، ونفس الإبداع الموسيقي تجده في فيلم (اللي اختاشو ماتوا)، فبالفعل تصدق أن اللي اختاشو ماتوا في هذا البلد الذي إنحدرت فيه أخلاقنا، فموسيقاه هنا كانت معبرة عن روح المجتمع المصري وحسه الأخلاقي المنعدم وروح الحياة الغريقة التي تدفعك أحيانا بعض لقطات للبكاء بفضل رقة إحساسه الفني، ولكنك حتما سوف تضحك في مشاهد قليلة لمجرد سماعك لفن موسيقي راق من فرط إمتاع وإبداع موسيقارنا الرقيق المشاعر (تامر كروان).
وهنالك متعة لاتقابلها متعة عند غوصك في أعمال مثل فيلم (حفلة منتصف الليل) حيث الموسيقى التصويرية قد لعبت دورا هاما في تحديد مسار البطل لتسمعنا – سويا – موسيقى لحظات الغدر أحيانا وأحيانا أخرى تسمعنا موسيقى رقص همجي إلى حد المتعة، وفيلم (السفاح) الذي تشعرت فيه بموسيقى غادرة نسجت من سحب أصابع فنان حساس على بيانو لنسمع موسيقى تعبر عن رعب سفاحنا بعد قتله للبطل الآخر، وكذلك الحال في فيلم (باباراتزي) حيث كان فيلم عاطفي حقيقي فكانت للموسيقى روح إبداعية في إيصال أن للحب حكايات وليس حكاية واحدة لتسمع روح موسيقية تسبح في أذنك طوال الفيلم، أما فيلم (ميكانو) فكان به إيثار وتفضيل لشخصية نور والتي خلقت موسيقى إحساسية من خلال تعاطفها مع شخصية تيم حسن ضد الأثرة التي كانت في خالد الصاوي.
وتبدو روعة وجمال موسيقى (تامر كروان) أكثر وأكثر في فيلم (بالألوان الطبيعية)، فقد كانت موسيقاه مؤثرة ومعبرة من خلال مزج ألوان الموسيقى المختلفة كلون واحد وموسيقى واحدة من عالم واحد وهو عالم الشباب وحكاياتهم، ولايمكن تجاهل فيلم (التوربيني) والذي تسمع في موسيقاه الفوبيا والمرض النفسي التي كانت عند أحمد رزق وكذلك عبرت الموسيقى عن روح الإبتزار والنصب الذي عبر عنه شريف منير متماشيا مع الروح الموسيقي المعبر عن كل مقطع وكل مشهد فكانت موسيقاه معبرة عن كل ما بداخل قلب وروح أناس كثر يعيشون معنا، بداخلهم موسيقاهم الحسية.
وأستطيع القول في النهاية أن (تامر كروان) عبر أصدق تعبير في مسلسل (لعبة نيوتين) على مستوى إيقاع الاضطراب والتوجس والخوف والمجهول، خاصة مع منى زكي في كل حالاتها الإبداعية وتجلياتها المرعبة التي لعبت الموسيقى فيها دورا مهما للغاية، وهو نفس الشيئ الذي سمعناها وشاهدناه في فيلم (الوعد)، لنرى مشاهد ونسمع موسيقى نابعة من قلب آسر ياسين وناتجة من خباثة روبي والتي سمعت بها قرارة النفس وروح الغدر في مشاهد موسيقية غادرة، فموسيقاه هنا كانت واعدة مستوعدة والوعد الأكيد هو أصوات صفير بيانو رقيق عليه مشاعر أصابع أكثر رقة تتماشى معه، علىلا عكس فيلم (حسن طيارة) الذي كانت موسيقاه هادئة طوال الفيلم تتماشى تماما مع روح كل بطل وإحساس كل شخص ظهر في الفيلم، وبالطبع لا أنسى موسيقاه بمسلسلات وأفلام عدة مثل موسيقى مسلسلات (الطبال، الكابوس، قسمتي ونصيبك) وأخرى عديدة، منها مسلسل (فرعون) والذي عبرت موسيقاه فيه عن روح الجبروت والدور الإجرامي لخالد صالح الذي أستخرج ما بداخله من عصبية تماشت معها موسيقى تامرنا الممتع لنسمع أصوات دمار موسيقي وروح موسيقية عالقة ناشبة بين الضلوع والفكر المريح.. هكذا عبرت الموسيقى التصويرة لتامر كروان في أروع صورها.. تحية تقدير واحترام لفنه الرفيع.