كتب : محمد حبوشة
يجمع خبراء التمثيل في العالم على أن الكوميديا تعد من أصعب الفنون تجسيدا على الشاشة الصغيرة والكبيرة على السواء، وأيضا يعد الكوميديان عملة نادرة في هذا الزمان، وربما يرجع ذلك إلى استخفاف صناع السينما والدراما التليفزيونية بالكوميديا، وأن المنتجين يعتبرون الفيلم أو المسلسل الكوميدي دراما درجة ثانية، ويختارون نصوص ضعيفة، تناقش موضوعات سطحية، والأمر المؤكد أن صناع الفيلم أو المسلسل الكوميدي هم المسئولون عن الاستخفاف به لابتعادهم عن تقديم كوميديا الموقف، ومناقشة القضايا الاجتماعية المهمة بشكل كوميدي راق، واتجاههم لكوميديا الألفاظ المسيئة و(الأفيهات)، والمعتمدة على مدى خفة دم الممثل في حد ذاته.
وتبقى حقيقة خفة الدم التي تنعش القلوب المتعبة هى الباقية في عمر أي فنان احترف الكوميديا وجعلها منهجا في حياته وعلى المسرح وشاشتي السينما والتليفزيون، كما لمسناها طويلا مع الراحلة الكبيرة (دلال عبد العزيز) التي كانت تتمتع بخفة دم وتلقائية تفيض بهجة وحضورا آسرا على جموع المصريين، حتى صارت أم وأخت لكل من يسكن بيتا مصريا بسيطا عنوانه المحبة، فقد كانت ـ رحمها الله ـ في أدائها البسيط والعفوي تفضي إلى قدرهائل من الطاقة الإيجابية القادمة من قلب المواقف الكوميديا القادرة على انتزاع الضحك من القلب، وأيضا ستجد تجانسا كبيرا بينهما وبين باقي فريق العمل، وذلك باعتبار أن (دلال) واحدة من أهم الفنانات العربيات بشكل عام، والمصريات بشكل خاص اللاتي قدمن الكثير لصناعة الفن على مدار سنين طويلة من حياتها، واستطاعت أن تدخل البهجة إلى قلوب الملايين، حتى عندما كبرت، كانت أعمالها الأيقونية في السباقات الرمضانية ملحوظة للغاية، وبالتحديد أمام الفنان عادل إمام.
ومن الناحية الاجتماعية، فإن (عائلة سمير غانم) ممثلة (فيه ودلال ودنيا وإيمي) كانت لفترة طويلة من مصادر البهجة والحب للكثير من العائلات المصرية والعربية، وهذا عبر الإطلالات البسيطة لكن المفعمة بالابتسامات والرضا، بجانب الذوق الفني الخاص لملابس الفنان الراحل سمير غانم، والتي تمتاز بالألوان المبهجة والتمشيط العبقري، وكان لعائلة سمير غانم ظهور ملحوظ في إعلانات الموسم الرمضاني الماضي، وظهرت دلال أيضا في أكثر من إطلالة على الميديا، وهذا وضع في الحسبان أن دنيا ودينا سمير غانم محل حديث الميديا على الدوام بالطبع، لكن للأسف بمجرد دخول الزائر المرعب (كورونا) إلى هذا البيت المسكون بالحب والبهجة تحولت طلّة العائلة من الفرحة إلى الحزن، ومن الألوان المبهجة إلى الأسود القاتم، وهذا بات جليا في آخر ظهور رسمي للعائلة في عزاء الراحل سمير غانم، ونفس الظهور القاتم المتوقع حدوثه في عزاء الفنانة دلال عبد العزيز التي فارقت الحياة اليوم.
كان يكفى أن ترى وجه دلال عبدالعزيز فتستدعى كل مرادفات الإبداع والجدعنة والإنسانية والصدق والأخلاق الراقية والصداقة الوفية، ولم تكن دلال عبدالعزيز بالنسبة للملايين مجرد فنانة موهوبة ومبدعة فقط، ففضلاً عن موهبتها الفنية الجبارة والمتفردة، كنا حين ننظر إلى وجهها نرى خفة ظل وصدق وحنان ووفاء وجدعنة كل الأمهات المصريات، وذلك لأنها من الأشخاص الذين يمثلون صمام الأمان لكل من يعرفهم، تراهم إلى جوارك فى أوقات الشدة مهما كانت الظروف، لا يبحثون كغيرهم عن ذرائع وأعذار للغياب، يتذكرونك إذا نسيك الجميع، يحفظون الود مهما تغيرت أحوالك وأصابتك تقلبات الزمن والحياة، وجوههم الطيبة وحضورهم الصادق المحب بلا نفاق أو رياء هو آخر ما تبقى من خير الدنيا وأمانها، وهكذا كان وجهها المحب الصادق الذى لا يغيب عن أصدقائه ولا يتحجج بأعذار مهما كانت الظروف.
الراحلة العظيمة كانت فنانة بدرجة إنسان، لم تغب يوما عن أى عزاء حتى فى أشد أوقات الذعر والخوف بعد انتشار فيروس كورونا، لم تكن تتأخر عن متابعة زميل أو صديق يمر بأزمة حتى وإن غاب لسنوات وهكذا فعلت مع الفنان الكبير جورج سيدهم، الذى ظلت تزوره وتسأل عنه وتحتفل بعيد ميلاده حتى رحل عن عالمنا بعد رحلة مرض طويلة، ورأينا جانبا آخر عكس كل معانى الصداقة والوفاء في قلقها ولهفتها على صديقتها رجاء الجداوى حين أصيبت بفيروس كورونا وتم احتجازها بالرعاية المركزة، وكيف كانت تتوسل إلى الله وتدعو لها بصدق وحب ودأب، وكيف رافقتها حتى أوصلتها إلى دار البقاء وحافظت على برها بعد وفاتها بختم القرآن أكثر من ثلاثين مرة ودعوة كل أصدقائهما لذلك.
رحلت دلال عبدالعزيز الحافظة للود والعهد والصداقة، نموذج الزوجة الوفية والأم التى استطاعت بحكمة أن تعبر بأسرتها الفنية إلى بر الأمان وأن تربأ بها عما يجتاح الزيجات الفنية من تقلبات وأزمات، وأن تحافظ على حب عمرها الفنان الراحل الكبير سمير غانم، أحبته فى صباها بعدما جمعتهما مسرحية (أهلا يا دكتور)، رغم تحذير عدد من زملائها، كما صرحت فى أكثر من لقاء، مؤكدة أن عددا من كبار الممثلين أكدوا لها أنه لا يفكر فى الزواج، ومنهم محمود مرسى، ومحمود المليجى، وجورج سيدهم، وعبدالمنعم مدبولى، لكنها لم تكذب قلبها الصادق، حتى تزوجا وأنجبا ابنتيهما دنيا وإيمى.
استطاعت دلال عبدالعزيز أن تبنى أسرة طيبة ناجحة مستقرة تلقائية وطبيعية وهو ما ظهر فى كل اللقاءات التى جمعتهم على الشاشة، فأحب الجمهور كل أفرادها واحترمهم وشعر أنهم منه، ولم ير من أى منهم ما قد يقلل من نظرة الجمهور للفنان، لذلك يشعر الجميع اليوم بحزن كبير وبأنه فقد أحد أفراد أسرته وليس مجرد فنانة أبدعت في عشرات الأدوار، وتحولت حياتها وحياة أسرتها من السعادة إلى الأحزان، بعد تعرضها هى وزوجها الفنان الكبير سمير غانم لأزمة صحية ودخلا فى وقت واحد للمستشفى، ورحل الحبيب (سمورة) دون أن تكون حبيبته دلال إلى جواره وشيع إلى مثواه الأخير، دون أن تودعه الوداع الأخير، وحتى دون أن تعرف حتى رحيلها أنه رحل، وتعرضت الأسرة لهزة عنيفة وحزن لا يضاهيه حزن تعانى منه ابنتيهما (دنيا وإيمى) اللتين تعرضتا لأكبر هزة وصدمة بفقد الأب والسند واليوم تمتد آثار الصدمة إلى فقدان الأم عمود البيت الذي صنع ملايين المواقف والمفارقات والضحكات للجمهور حيث ينثرون بذور المحبة في القلوب المتعبة من وعثاء الحياة.
هكذا أصبح حال أسرة كان يراها الجميع نموذجاً من أسعد الأسر وعائلة ارتبط بها وبكل أفرادها الملايين فى كل أنحاء العالم العربى وهكذا هو الابتلاء الذى تعرضت له دلال عبدالعزيز قبل أن ترحل إلى مثواها الأخير، وهى التي كانت دائماً تمثل صمام الأمان لكل من يعرفها، ولا تبحث كغيرها عن ذرائع وأعذار للغياب، تتذكر المأزوم إذا نسيه الجميع، وتحفظ الود مهما تغيرت الأحوال، هى صاحبة الوجه الطيب الصبوح والحضورالصادق المحب بلا نفاق أو رياء، التى لم تكن تغيب عن أى واجب مهما كانت الظروف، لقد كانت نموذجا لكل الودعاء الطيبين الذين يؤكدون لمن حولهم دائما أن الدنيا لازالت بخير، وأنهم سيقفون إلى جوارهم دائما فى أوقات الفرح والمحن، وأنه رغم ما أصاب الدنيا والبشر لايزال هناك من يحملون الحب الصادق والوفاء الدائم والأصل الطيب، ومن تجدهم إلى جوارك دائما ًسنداً فى كل وقت.
برعت دلال عبدالعزيز فى تجسيد أدوار الشر بنفس براعتها فى تقديم أدوار الخير، وفى الكوميديا بنفس القدرة على تجسيد التراجيديا، وتألقت على المسرح تمثيلاً واستعراضا فى العديد من المسرحيات وأبدعت فى السينما ووقفت أمام العمالقة ومنهم (فريد شوقى وكريمة مختار وفؤاد المهندس)، وقدمت عددا من الروائع، وهى أحد كبار نجوم الدراما التلفزيونية الذين ساهموا فى صناعة أهم المسلسلات والأعمال التلفزيونية، وتنوعت أدوارها فيها بشكل كبير، يؤكد على عبقرية موهبتها التى استطاعت تطويعها تدرجا من أدوار الفتاة الصغيرة وحتى أدوار الأم ولا تملك في النهاية إلا أن تحبها وتصدقها فى كل مرحلة وكل دور.
قصة حب بينها وبين (سمورة) استمرت 37 عاما، كتب الموت سطورها الأخيرة، فالحبيب غادر دون وداع، والحبيبة طريحة الفراش تحاول التغلب على مرضها لتتمكن من حضور وداعه الأخير، وكيف لها وهى لم تفوت أي جنازة منذ سنوات إلا وتواجدت فيها أن تتغيب عن وداعه! .. كيف لا تراه للمرة الأخيرة وتودعه بطريقة تريحها!، وعلى الرغم من فرق السن الكبير بينهما، 24 عاما، لكن قصة الحب الكبيرة بينهما وروح الدعابة بينهما جعلت قصتهما مميزة ومحببة لاستماعها، ظللت 4 سنوات أطارده للزواج منه، وكل الفنانين الكبار وقتها نصحوني بالابتعاد عنه، لكنها صدقت قلبها وتزوجته بعد أن سكنت قلبه إلى الأبد.
ولدت دلال عبد العزيز في قرية (فرغان) في محافظة الشرقية في 17 يناير 1960، وتحمل شهادة البكالوريوس في الزراعة من جامعة الزقازيق، وبكالوريوس الصحافة من كلية الإعلام جامعة القاهرة، وحاصلة على ليسانس أداب قسم اللغة الانكليزية من كلية الآداب جامعة القاهرة، وشهادة دبلوم في العلوم السياسية من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة، وبدأت مسيرتها الفنية في العام 1977، بأدوار صغيرة كمشاركتها في مسلسل (بنت اليوم)، أما بدايتها الفعلية كانت عندما رشحها الفنان نور الدمرداش للعمل في المسرح، حيث شاركت الفنان سمير غانم في مسرحية (أهلاً يا دكتور) في عام 1981 وكانت من إخراج حسن عبد السلام.
وشاركت دلال عبد العزيز في العديد من المسلسلات والأفلام والمسرحيات خلال مسيرتها الفنية، ففي فترة الثمانينات شاركت في مسلسلات تلفزيونية ومنها مسلسل (أبواب المدينة) بجزأيه الأول والثاني، وعالم العم أمين ودعوني أعيش وليالي الحلمية بكل أجزائه التي كان آخرها عام 1995، والضابط والمجرم، وفي عام 1986، ظهرت دلال في فيلم (الانتقام) مع يونس الشلبي ولبلبة، كما ظهرت في عام 1987 في فيلم (بئر الخيانة) للمخرج علي عبد الخالق، وفي عام 1988، ظهرت عبد العزيز في فيلم (بوليس نسائي) حيث شاركت البطولة مع إلهام شاهين وهالة صدقي.
في عام 1990، شاركت عبد العزيز البطولة مع شويكار وسمير غانم في فيلم (النصاب والكلاب) للمخرج عادل صادق، وفي عام 1993، ظهرت في مسلسل (دموع صاحبة الجلالة) بدور سوسن هانم مع المخرج يحيى العلمي، كما أدت دور البطولة مع يحيى الفخراني في مسلسل (لا) في عام 1994، وظهرت أيضاً مع يحيى الفخراني في المسلسل الشهير (للعدالة وجوه كثيرة) بدور زوجة جابر، وفي عام 1996، أيضاً لعبت البطولة في فيلم (الزمن والكلاب) وهو فيلم أكشن وجريمة، وفي نفس العام أيضا ظهرت مع الفنان عادل إمام في (النوم في العسل)، كما أدت دور البطولة مع يحيى الفخراني وماجدة زكي في فيلم (مبروك وبلبل) من إخراج ساندرا نشأت في عام 1998.
في بدايات الألفية الثالثة وتحديدا في عام 2001، أدت دور البطولة في فيلم (أسرار البنات) مع سوسن بدر وشريف رمزي للمخرج مجدي أحمد علي، وفي نفس العام شاركت البطولة مع ليلى علوي وعبلة كامل في مسلسل (حديث الصباح والمساء)، وفي عام 2008، ظهرت بدور البطولة إلى جانب أحمد حلمي ومحمود حميدة في فيلم (آسف على الإزعاج)، وفي عام 2009، ظهرت في الفيلم المغربي التلفزيوني (الضحايا)، كما شاركت البطولة إلى جانب يحيى الفخراني في مسلسل (ابن الأرندلي) للمخرجة السورية رشا شربتجي، وفي عام 2010، كان لدلال عبد العزيز مشاركة بالمسلسل الإذاعي (يانا يا أنت وسي عمر وليلى أفندي)، ومن الأفلام التي شاركت فيها فيلم (لا تراجع ولا استسلام، وفيلم عصافير النيل، وسمير وشهير وبهير).
وفي عام 2011 شاركت أيضأ بالمسلسلين (دوران شبرا و مكتوب على الجبين)، وفي عام 2012 شاركت دلال بالمسلسلات التالية: (الخفافيش، وسيت كوم ولسه بدري، والهروب، وعرفة البحر للمخرج أحمد مدحت)، وفي عام 2013 كان لدلال عبد العزيز مشاركة بدور والدة (سيد) في فيلم (القشاش)، وفي عام 2014، شاركت دلال البطولة مع أحمد حلمي وياسمين رئيس في فيلم (صنع في مصر)، من إخراج عمرو سلامة وكتابة مصطفى حلمي، أما عام 2017، فقد ظهرت بدور البطولة حيث لعبت شخصية (لمياء) في مسلسل (سابع جار)، وهو المسلسل الذي ينتمي إلى فئة (الجرأة الاجتماعية)، وهو ما أثار حوله الكثير من الجدل، وفي عام 2018، شاركت البطولة إلى جانب تامر حسني وأكرم حسني في فيلم الكوميدي (البدلة)، وفي رمضان 2018، ظهرت بدور البطولة على قناة mbc في مسلسل (أرض النفاق).
تابعت مسيرتها الفنية الكبيرة، فكان لها مسلسلات أخرى مثل : (بدل الحدوتة تلاتة – 2019، فلانتينو – 2020، جمع سالم – 2020، ملوك الجدعنة، وفي بيتنا روبوت – عام 2021)، أما في المسرح فقد كان لها حضور دائم ومن أهمها، (هاله حبيبتي ، أخويا هايص وأنا لايص، حب في التخشيبة، فارس بني خيبان، وقد نالت دلال عبد العزير عدد من الجوائز حيث حصلت على جائزة أحسن ممثلة في مهرجان التلفزيون 1988.
رحم الله الفنانة الإنسانة .. طيبة القلب .. نقية السريرة (دلال عبد العزيز) التي عاشت عمرا ناهز الـ 61 عاما كنسمة صيف باردة على وجوه المتعبين من أبناء هذا البلد، لتبقى ذكرى عطرة في قلوب المصريين من أهل الفن والجمهور على حد سواء، حيث تمتعت بالصدق والجدعنة وصفاء القلب والنية الحسنة، التي لمسها المصريين سواء بالقرب منها أو من خلال شخصياتها التي لعبتها على خشبة المسرح والسينما والتليفزيون .. فاضت روحها إلى بارئها بعد معاناة شدية مع الفيروس اللعين .. غفر الله لها وأسكنها الفردوس الأعلى في الجنة مع زوجها الراحل (سمير غانم) بقدر ما أمتعانا بالبهجة التي ماتزال زاحفة على وجوه المصريين من خلال ابنتيهما (دنيا وإيمي) اللتين تحملا جينات الموهبة على جناح الصدق والروح الشفافة بالعطاء والحب لمهنة الفن .. لا نقول وداعا يا دلال ، بل إلى لقاء ملئه المحبة والصدق والرحمة التي كانت من أهم صفاتك.