نجح الإعلام وفشل زعماء الطوائف
بقلم: محمود حسونة
نجح الإعلام وفشلت الدولة اللبنانية في اختبار كارثة مرفأ بيروت، فبعد مرور عام على الزلزال الذي هز أركان العالم وغيّر ملامح العاصمة وقتل أبرياء وجرح وأصاب آلاف وهدّم منازل وخلّف ثكلى وأرامل وأيتام، لم تهتز أركان النظام الطائفي ولم يرمش جفن مسؤوليه الذين فقدوا المشاعر الإنسانية واعتادوا بيع الكلام في سوق المحاصصة والخداع والتضليل، حتى أصبح كلامهم بلا ثمن وبلا قيمة، يستمع إليه الضالون من أتباعهم ولكنهم لا يصدقوه، ورغم ذلك يصرون على مواصلة السير خلفهم كما القطيع الفاقد لميزان العقل والعاجز عن إعمال المنطق.
يوم 4 أغسطس أو 4 آب الماضي، كان يوماً مشهوداً في لبنان، تلاحم فيه الشعب بكل أطيافه مع المكلومين من أهالي الضحايا؛ كان يوم حزن في لبنان، شماله وجنوبه، مسلميه ومسيحييه، أغنياءه وفقراءه، إعلامييه وفنانيه، مبدعيه وموظفيه.. كان يوم الحزن على ما فات والخوف مما هو آت في المنازل، ويوم التظاهر والغضب في الساحات والشوارع، ويوم التضامن والتآزر في المدن و”الضِّيَع”، ويوم التحدي والوعيد بالويل والثبور على الشاشات المنحازة للشعب، لكل من تآمر على الشعب وساهم في قتل أبنائه، من خلال التقارير الخاصة والأفلام التي توثق للكارثة واللقاءات الحية مع أهالي الضحايا ومع المصابين الذين خرجوا من الكارثة بعاهات ستظل شاهدة على فساد العهد والمنتفعين من النظام السياسي المهترئ، الذي لم يورث الناس سوى الفقر والضياع والوجع واليأس والاحباط.
بيروت أيضاً التزمت الصمت نهاراً بإغلاق كل المحال والمتاجر والمؤسسات والهيئات الخاصة والحكومية تعاطفاً مع أهالي الضحايا، وحزناً على المدينة التي كسر عنفوانها وشوه بهاءها من اتخذوا السياسة وسيلة للاتجار بمصير وقوت وألم الناس، وتضامنت باقي المدن اللبنانية مع العاصمة الجريحة، وعند الساعة السادسة وسبع دقائق مساء، وهو توقيت لحظة الانفجار قبل عام، انفجرت بيروت غضباً وامتزج صوت أبنائها الثائرين على سلطة الفساد، مع أصوات الصلاة والقداس التي ارتفعت من ساحة المرفأ، ومن المساجد والكنائس في لبنان على أرواح الشهداء، وعلى نهج العاصمة صارت باقي مدن لبنان.
القنوات اللبنانية المنحازة للشعب والتي ترفض أن تكون بوقاً لهذا الحزب أو ذاك التيار، حرصت على أن تحيي ذكرى زلزال المرفأ بزلزال إعلامي علّه يزلزل الأرض تحت أقدام حكام الفساد ويخلخل مواقعهم ويهدم عليهم معبد الطائفية الذي يتحصنون به، ويغلقون آذانهم أمام أصوات الحقيقة التي أصبحت معروفة لقاضي التحقيق طارق بيطار، بل ومعروفة عند اللبنانيين الذين لا ينتظرون سوى الإعلان عنها بعد الاستماع لاعترافات مرتكبي المجزرة من المسؤولين، الذين يرفضون المثول أمام القاضي خوفاً على أنفسهم وعلى زعمائهم الذين خططوا ووجهوا لتخزين نترات الأمونيوم في العنبر 12 بالمرفأ، لصالح “الجار” ومعركته الممتدة منذ سنوات ليعبئ به البراميل المتفجرة ويلقيها على المناوئين له ممن يستهدفون عرشه وعرينه.
الزلزال الإعلامي، لم تستخدم خلاله القنوات التي اختارت الوقوف في وجه السلطة الفاسدة، فيديوهات وبوستات مواقع التواصل الاجتماعي وأخبار الفيسبوك ومواقع بئر السلم الإعلامية كما تفعل قنواتنا من خلال برامجها الممسوخة وطواقمها العاجزة، بل وضعت خطتها المحكمة وصنعت أفلامها وجهزت تقاريرها واختصت أهالي الضحايا والشعب الموجوع في آن واحد، ومن خلالهم قالت هذه القنوات كلمتها، ومن خلالها صرخ الموجوعون صرختهم، وأكمل كل منهم الآخر ليقدموا سيمفونية إعلامية تليق بالحدث والذكرى.
نجحت بعض القنوات في أن تحيي الكارثة وكأنها وقعت يوم 4 أغسطس 2021 وليس 2020، فقد نقلت بأساليب إعلامية مبتكرة وتقليدية، أحاسيس الناس وعبرت عن مشاعرهم، وتبنت غضبهم وحاولت تضميد جراحهم، كما جسدت حالة التيه التي عاشتها العاصمة وسكانها عقب الانفجار، وبعد أن فاق كثير منهم على رائحة الموت تنبعث من داخل بيوتهم المتهدمة، مهرولين إلى المستشفيات إما سعياً لإنقاذ جريح أو بحثاً عن مفقود لا يعرفون له مصير، ووصل الأمر إلى استغلال قناة “إم تي في” أحدث التقنيات لتنجح في “بعث” الشهداء من الموت، ليراهم الناس بصورهم ويستمعون إلى أصواتهم وهم يتكلمون في فيلم تعبيري حمل عنوان “رسالة إلى المسؤولين” وهي رسالة تفضح المفسدين من أهل السلطة وتحث الناس على الوقوف في وجههم وتدعوهم لإقتلاعهم من الأرض اللبنانية إذا كانوا يريدون لجبلها الأخضر وسهلها الخصب وشاطئها الأزرق بقاءً وحياةً.
الغريب أن من يستمع للإعلاميين المنحازين للشعب، أو يستمع لكلام أهالي الضحايا، أو يشاهد تقارير هذه القنوات، يجد أن الخطاب الإعلامي لا يمكن أن تسمعه وتراه وتعايشه سوى في لبنان، خطاب يصف حكام وزعماء ووزراء ونواب لبنان بأسوأ ما يحمله القاموس العربي من كلمات وصفات ومصطلحات الشتم والسب والتهديد والوعيد، وهذا لا يمنعك من التعاطف مع الشتامين لأن من يسبونهم يستحقون المزيد، ويبدو أن هؤلاء السياسيين الفاسدين قد فقدو الاحساس بالكلمة، وفقدوا الكرامة، التي لو كان لديهم بقايا منها لاستقالوا جميعهم وتركوا الشعب يقرر مصيره ويعيد صياغة مستقبله بعيداً عنهم.
الفنانون اللبنانيون استعادوا المأساة وأحيوا الذكرى أيضاً، وعبر كل منهم بطريقته، وكان الأكثر ابداعاً في التعبير الفنانون التشكيليون الذين عبروا نحتاً ورسماً وبكل ألوان الإبداع عن مأساة الشعب وخيبة أمله الكبيرة في حكامه، مستخدمين حطام المرفأ وخشب الأَرز ليبدعوا أعمالاً تخلد المأساة للأجيال المقبلة، كما عبر بعض المطربين بأغنيات تحث بيروت على النهوض ولبنان على الانتفاض، وتحث الناس على الإصرار على كشف المجرمين والقصاص منهم وتحقيق العدالة. أما من لم يستطع التعبير عن غضبه إبداعاً فقد عبر عنه بتغريدات تويترية أو المشاركة في المظاهرات وصلوات التأبين.
في دولة كمصر، فشل الإعلام في ملاحقة سباق الدولة مع الزمن والتعبير عن إنجازاتها ووقف عاجزاً عن نقل صورة الجمهورية الجديدة وقفزاتها المتسارعة نحو المستقبل، سواء للمصريين أو للعالم الخارجي، وفِي لبنان نجح الإعلام في التعبير عن توابع زلزال 4 آب وفضح عجز الدولة التي أصبحت عنواناً للفشل والفساد والفتنة، ليؤكد هذين النموذجين أن الإعلام قد لا يسير مع الدولة في خط متوازٍ، بل قد يتخلف عنها سنوات ضوئية مثل مصر وقد يسبقها سنوات ضوئية مثل لبنان (بعضه وليس كله) وتحديداً في يوم ذكرى نكبة المرفأ.
mahmoudhassouna2020@gmail.com