كتب : محمد حبوشة
لاشك أن الدراما البدوية الأردنية علامة مسجلة في تاريخ الدراما العربية، ولهذا تحاول الدراما الأردنية عموما استعادة ألقها ورونقها – وقت أن كانت هى واحدة من الدراما الرائدة فى الوطن العربى – فعندما يعود المشاهد العربى بذاكرته إلى الوراء قليلا، سيجد أنها تميزت بخصوصية تختلف عن باقى الأعمال العربية خلال العقود التى مضت فى فترة ثمانينات وتسعينيات القرن الماضى، حيث جسدت أعمالها كثير من الخطابات والقصص العربية التاريخية وذات الطابع البدوى والريفى وغيرها، التي تعود في ملامحها إلى شبه الجزيرة العربية وتقاليدها ولهجتها التي تبدو متقاربة مع الأردن، بل ربما يكون (الاصل واحد) ما جعل المشاهد الخليجي يشعر بأن هذا اللون اقترب منه وجدانيا وذكره بتاريخه وتراثه فاحبه واشتهر، وزاد الطلب عليه فأصبحت الدراما الاردنية بدوية بنسبة 80 في المئة تقريبا.
ولأن الدراما لم تعد عنصرا من عناصر التسلية وحسب، بل أصبحت فى العديد من الدول وجها من الوجوه الحضارية والثقافية للتطور والانفتاح على الاخر، وأحد عناصر الجذب السياحى بامتياز (تركيا مثالا)، فضلا عن كونها صناعة مهمة تحقق الدخل الجيد لآلاف الأسر، كما أصبح الفنانون بالفعل سفراء يمثلون دولهم فى المنظمات والمحافل الدولية، والوصول إلى هذه المستويات لم يكن يوما وليد اللحظة، بل يأتى بناء على تجارب تراكمية وأخطاء وعقبات، يتجاوزها العاملون فى هذا المجال بعد أن يعترفوا بها ويتعلموا منها، وهذا للأسف ليس الطريق الذى اختارته الدراما الأردنية، حيث بقيت عالقة تتفاخر بريادتها المنسية وقدراتها المهملة ولعنة الحظ العاثر، إلى أن استطاعت مؤخرا أن تفيق من كبوتها الحالية بالدخول فى تجارب إنتاجية مشتركة، يمكن أن تعتدل بموجبها الصورة الذهنية فى مخيلة الجمهور الأردنى والعربى والمحطات الفضائية على حد سواء.
وهو ما حدث هذا العام من خلال المسلسل البدوي الرائع (صقار) الذي اشتركت الأردن في إنتاجه مع سوريا، وجاء بأسلوب أدبى درامى عبر قصته التي كتبتها (دعد ألكسان) بطريقة (تحكى الواقع البدوي دون رتوش)، وأن تمزج بين شاعرية اللغة وقوة تقنيات الحوار، وأسرفت كثيرا فى جمالية بناء شخصيات العمل الدرامى، وذلك بمزج بين الواقعية النقدية والدراما الاستعراضية المتحركة، كى يستحوذ على انتباه الجمهور الذى يتماهى فى لحظة ما مع الأحداث والوقائع، ويخرج عفويا من الزمن العادى ليلامس زمنا دراميا مليئا بالدهشة والانبهار والخوف والحدس، وليعود بعدها لاستئناف حياته الطبيعية، وقد ساهم في ذلك الأداء الخرافي لبطله (رشيد عساف) الذي استطاع تقمص شخصية (صقار النهاش) على نحو احترافي يؤكد موهبته الطاغية خاصة في تقديم هذا اللون البدوي فائق الجودة، بحيث بدا جسد الممثل هو جسد الشخصية وكأن لسان حاله يقول : أن هذا هو (مشروعه الدرامي الذي يتبناه بجميع جوارحه).
على ما يبدو فإن براعة رشيد عساف في اللون البدوي تحديدا يعود لكونه ينتمي إلى منطقة (حوران) جنوب سورية وهى منطقة تتحدث بلهجة بدوية، وهذا ساعده كثيرا في تخطي صعوبات اللهجة ، فاللهجة البدوية ليست بعيدة عنه ـ كما يقول ـ حيث أن هذه المسلسلات البدوية التي شارك فيها (عساف) بجدارة تحتاج لابن بيئة لا يتقن اللهجة فحسب بل يعرف بيئتها ويعرف كيف يعيش ويتصرف كبدوي خالص، وهذا ما مميزه في (صقار) الذي يكتب عودته للون البدوي بعد 15 عاما من تقديمه مسلسل (رأس غليص)، الذي عاد هذا العام مع مخرج الجزء الثاني منه (شعلان الدباس) بمشاركة ممثلين من سوريا والأردن، وهذه العودة لم تخرج عن عباءة الشخصية البدوية الأشهر التي قدمها كأنه يحاول إدراك النجاح نفسه باسم جديد و(حبكة) ذات تفاصيل متباينة ضمن إطار عام مشترك.
يظهر النجم السوري الكبير رشيد عساف في (صقار) بهيئة مقاربة للبعد الخارجي لـ (غليص) بعينين تتقدان شراً ووجه يحاول التداري خلف ابتسامة غير بريئة وصوت (جهوري) بنبرة متعالية ونظرات كاسرة وإيماءة جانبية عند الحديث و(قهقهة) متصاعدة وعبارات مرادفة، والأمر ذاته ينسحب على تقاطع في الأحداث الدرامية عموما حيث تبدأ (الحكاية) هذه المرة برغبة (صقار) في الانتقام من (الشيخ صخر المجحم) بناء على خلافات منذ الطفولة، خصوصا بعد إهانته أمام آخرين لافتعاله مشكلة مع فتاة، إضافة إلى رغبته في تسيّد القبيلة، ولم يخرج الموضوع في المقابل عن رغبة (غليص) في الانتقام وتحوله من (كبير المطاريد) في الجبال إلى مساعي تصدر (العشيرة) لاحقا، وذلك ضمن مساره للثأر بسبب مقتل والده أمامه إلى جانب (دخيل) هرب من (ديرة) مجاورة بسبب افتعال سيدة مشكلة معه.
في (صقار) كما في (رأس غليظ) يبدو البطل (رشيد عساف) يسفك الدماء ويغزو القبائل ويحيك الحيل للبقاء على (رأس القوم) ولا يفرق بين القريب والبعيد وعلى استعداد للتخلص من شقيقه (سالم/ محمد المجالي) وأبناء عمه جميعا من أجل مصلحته، حتى على الصعيد الفني يفتتح المشهد الأول في (صقّار) على (القمر منتصف الليل) وفي (رأس غليص) على (الشمس منتصف النهار)، وذلك للدلالة الزمانية على انطلاق الحدث وارتباطه مباشرة مع المكان، وهناك استحضار واضح لزوايا التصوير وحركة الكاميرا واللقطات المقربة على ملامح التعطش للبطش وطريقة تنفيذ الالتحام عند القتال وجز الرقاب وبعض اللقطات المتسارعة.
ليس هذا فقط بل إن طريقة التعاطي مع مشهد محاولة قتل (صقار،وغليص) أثناء النوم متماثلة/ وذلك بـ (سرعة بديهة) استعراضية تطيح بالخنجر وتمسك باليدين سريعا، وهناك حضور لدور (العرافة) وتأثيرها على المرتادي لها في خيمتها، لكن (صقار) ذهب أكثر إلى بروز مؤثر للمرأة ابتداء من والدته (الشيخة شمخة المجحم/ جوليت عواد) وزوجته الثانية (غوايش/ قمر خلف) وليس انتهاء بالأرملة (شوق/ نور علي) التي تعمل على تربية طفلها لاسترداد حق والده، وذلك باستثمار (تيمة) خاصة من داخل البيئة البدوية ومضاربها، في قلب ملحمة غرام وانتقام حول قصة حب وعشق وثأر قاسية، وصراع على السلطة والبقاء.
يتطّرق المسلسل في أحداثه إلى الصراعات الدرامية التي تنشأ داخل البيئة البدوية، حيث يطمح (صقار) وهو شخصية تتميز بحكمتها وطموحها ودهائها، استطاع منذ الحلقة األولى أن يتسلم زعامة ومشيخة القبيلة بعد أن قام بجريمة غادرة بقتل خاله (الشيخ صخر المجحم)، ويسعى إلى إظهار قوته للحفاظ على القبيلة بعد هذا الحادث، ورغم ما يبدو عليه من القسوة والحزم، يظهر في (صقار) أيضا جانب من اللين والتسامح، ورغم أن المسلسل حافل بقصص الثأر والغدر، والذكاء والمكر والدسائس، إلا أنه أيضا يتناول جوانب من الحب والرومانسية، والخصال الإيجابية للبدو في حياتهم وأسلوبهم، والصراعات الدرامية المشوقة، في مقابل الفروسية، وقد برع في ذلك كل من المؤلفة دعد ألكسان، والإخراج لشعلان الدباس، وفي الأداء (جولييت عواد، قمر خلف، حلا رجب، ونور علي، وروعة ياسين، ومحمد المجالي، وخالد نجم ، ورشيد ملحس، وأمية ملص، وأمانة والي، وفيلدا سمور، وإسماعيل مداح، وريم عبدالعزيز، وديانا رحمة وغيرهم.
وهنالك أكثر من مشهد (ماستر سين) يرصد ذلك الصراع الدائر في مضارب البدو في أحداث يغلب عليها الطابع الرومانسي الذي خفف كثيرا من حدة التراجيديا، ولكني أتوقف أمام مشهد لقاء (شوق) و(صقار) في نهاية الحلقة 26، وبداية 27، والذي يحاول (صقار) من خلاله استمالة مشاعر (شوق) التي حاولت قتله انتقاما لزوجها شيخ القبيلة (صخر المجحم) مقابل العفو عنها، لكنها تأبى ذلك بشمم مصممة على أخذ ثأرها بيدها، وقد جاء المشهد على النجو التالي:
صقار : بعد كل هالسنين ياشوق ترجعين ديرتنا لاجل تذبحيني؟
شوق : انت ذبحت رجلي وشردتني أنا ووليدي وتسببت في موته.
صقار : ولدك مات ؟! .. رحم الله عليه .. رحمة الله عليه .. لا حول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم.
شوق : مات من القيض والعطش .. مات وهو يبحر بعيوني مثل الملاك .. قهرتني كل هالقهر وتسأل ليه أبي أذبحك؟!.
صقار : يا شوق ..
شوق : أم غضب !!.
صقار : أم غضب .. أنا ماذحبت الشيخ صخر المجحم رحمة الله عليه.
شوق : تكذب !!.
صقار : شوق .. صقار ما يكذب .. من هو حط براسك اني ذباح الشيخ صخر المجحم رحمة الله عليه؟… إحكي .. سالم ؟ .. الحين أدز وراء رجال القبيلة كلهم وأخليهم يحلفون على كتاب الله إني ماني دباحه ولا أعرف للحين من هو اللي ذبحه .. وقتها تذكر كان تعلل عند أم صقار وعاود لبيته والصبح إلقوه سايح في دمه.
شوق : وما سألت روحك ليه أنا هجيت بره الدايرة؟!.
صقار : سألت .. والناس كلها سألت .. لكن ما عرفنا ايش اللي صار .. خمنا يمكن البواقين خطفوكم لأجل يطالبون بفدية .. والله اني دورت عليك وكل يوم أرسل رجال يدورن عليك .. لاجل أقف جنبك واساعدك لين يكبر ولدك ويستلم محل أبوه.
شوق : يعني مادورتني لاجل تذبحني وتذبح ابني ؟!
صقار : أذبحك انتي شو هاد .. وليش أذبحك؟ .. الله يسامحك ياسالم .. ظلمتني وظلمت قلبي .. صدقيني بعمري ما فكرت ببنية انها تكون حليلة لي غيرك .. شوق خلينا ننسى اللي فات ونفكر بالجايات .. وايش رأيك؟ .. والله والله غير أخليك شيخة الشيخات في القبايل كلها .. والله رجولك ما خليها تطب الأرض غير كفوف الناس كف ورا كف وانت تدوسين عليه.
شوق في تحد صريح : لا ما أبي إلا أذبحك لأني متوكدة إنك ذباح صخر المجحم .. الرجل اللي ماله شبه بين الرجال يا صقار النهاش.
صقار بغضب : شووووووووق .
شوق : كشر عن انيابك .. كشر وطلع حقيقتك قدامي .. طلع حقيقتك بوجهي يا صقار.
صقار بصوت خفيض محاولا أن يتماسك نفسه : اسمعيني .. نشافة الراس هادي ما تنفعك .. صقار النهاش يوم يابي شيئ ياخده وإذا ردت تكونين حليلتي تصرين.
شوق : ما يخالف ما أحد يقدر يمنعك لأني حضر إيدك .. لكن إلا ما يجي يوم أنتظر .. اليوم اللي أذبحك فيه بيدي.
صقار : زين وأنا بعد ما يخالف لأن قلبي كبير كبير ياشوق وصبري طويل .. أصبر لشوف تالي هالسلفة.
وينتهي المشهد بنظرة تحدي لكليهما في عين الآخر.