في (بيت للكل) : فلسطين ماتزال تسكن عقل ووجدان الشارع العربي !
كتب : محمد حبوشة
على الرغم من العواصف والرياح المعاكسة .. ليس صحيحا أن الموقف العربي قد تحول حيال فلسطين، وتحول العرب نحو التطبيع مع الاحتلال وإقامة علاقات معه، فلا يزال المطبعون هم الذين يغردون خارج السرب، ولا زالت فلسطين في قلوب أحرار هذه الأمة، ولا زال الاحتلال والعدوان مرفوضاً من كل العرب من محيطهم إلى خليجهم، ومن يعتقد خلاف ذلك فهو واهم غير عابئ بأكبر قضية عادلة في تاريخ العرب.
هذه حقيقة أثبتها برنامج (بيت للكل)، فعلى مدار حلقتين تمكن فريق عمل البرنامج (شافكي المنيري، حازم رحاحلة، ياسمين شملاوي) الذين بدأوا البرنامج من ساحة (كنيسة المهد) الأقدم في العالم بمدينة رام الله، ومن خلال استعراض المعالم الحضارية والأثرية في فلسطين عبر تقرير توقف أمام صرح شهداء رام الله، ليلقى ظلال من الأسى والحزن والحلم بوطن حر مستقل، حيث يقول المعلق : ونحن نحب الحياة ما استطعنا إليها سبيلا، نرقص بين شهيدين نرفع مئذنة للبنفسج بينهما أو نخيلا، ونفتح باب الحديقة كي يخرج الياسمين إلى الطرقات نهار جميلا.
أم البدايات .. أم النهايات .. كلمات اختزل فيها شاعرنا الراحل محمود درويش حالة التحدي وحب الحياة التي يتنفسها الشعب الفلسطيني رغم مرور قرن كامل تعاقبت خلاله على احتلال التراب الفلسطيني، ومازال شعبنا يزرع الورد وينثر الأمل ويبني صروح مجده ويشيد أركان دولته بالفرح وألوان قزح وأهازيج الأغاني ورقة الشعر وضحكة الأطفال وشعور الفخر بزغاريد أعراس الشهداء، فالزائر للمدن الفلسطينية تشده تلك الابتسامة الدائمة الارتسام على وجوه المواطنين .. يوجهون التحديات بفرح ويعيشون يومهم للحرية، ففي كل زاوية هناك صروح تتحدث عن حياة فلسطين النابضة في كافة المجالات الثقافية والعمرانية والاقتصادية ومعالم سيادة الدولة ومؤسسات المجتمع المدني.
مدراس حديثة يعتني بها الفلسطيني كرأس مال يقيه نوائب الأزمان، ومدن باكية يشيدها شعبنا للتباكي على أرضه وتعظيم تواجده الديموغرافي تجمع أصالة الماضي وروح الحداثة.. متنزهات وأماكن ترفيه يرتاح فيها المواطن الفلسطيني ليزيل عن كاهله وعثاء يوم عمل طويل ومثمر ليراقص الأطفال براءتهم العفوية، ويلتقي الخلان في جلسات صيفية نسيمها العليل يعيد الطاقة لشعب لم يعتد السكون وعرف عنه الكرم ومطيب المجلس والمطعم.
يؤسس الشعب الفلسطيني أركان دولته ومؤسساته السيادية بما يليق بالدولة التي ناضلت مائة عام من أجل الحرية والاستقلال، فالسلطة الفلسطينية منذ عودتها إلى أرض الوطن عملت على إنشاء منظومة حكومية تضاهي الدول الحديثة في المنطقة والعالم .. إنه الشعب الفلسطيني يغزل من المستحيل كوفية تزين أحلامه التي ناضل من أجلها بالثورة والقلم والعلم والعمران.
ولأن الحلقة الأولى كانت من بيت لحم وفي مناسبة عيد الأضحي المبارك فقد عبرت عن تلك الحالة المزاجية التي تميل للفرح ريشة الكاتب وقلم الفنان ونبض الشاعر من خلال فرقة مكونة من ثلاثة من الشباب الفلسطيني الذين عاشوا التحدي والأمل والحياة هم (الناشط السياسي كايد ميعاري، والمطربة نادين الخطيب، والمطرب يعقوب شاهين) والذين تحدثوا عن التحديات الني تواجه أبناء الشعب الفلسطيني حاليا، وذلك من خلال عرض تجاربهم الشخصية في الحياة، وقد لفت نظري من بينهم حديث (ميعاري) الذي قال، إن فلسطين ليست وحيدة ولا معزولة عن العالم العربي أو الإسلامي، وأن الشباب الفلسطيني لديه سمات جينية مليئة بالتحدي والمثابرة، ولذا فهو يعيش يومه دون منغصات الاحتلال أو المنغصات الاقتصادية أو السياسية التي تعيشها البلاد.
وعلى أنغام موسيقية بهوية فلسطينية غنى (يعقوب ونادين) أغاني من الفولكلور والتراث الفلسطيني، وقاما كليهما بشرح معاني الكلمات المغناة ودلالاتها في كفاح الشعب الفلسطيني طوال تاريخه النضالي، واستكمل فريق البرنامج فقراته بالحلقة الثانية، والتي تضمنت عدة تقارير من قلب الأرض المحتلة عن الشهداء الفلسطينين والعرب وخاصة منهم العراق والأردن ومصر، والتي ما أن تولي وجهك صوب أي جهة تجد أضرحة لأبطال مصرين وقصصا وتضحيات، ففي جنين وغيرها أكثر من ثلاثين موقعا تحمل في باطن أرضها جثامين من بذلوا دمائهم في سبيل فلسطين، فضلا عن رصد التقرير لمعاناة الأم والأب الفلسطيني الذين يفقدون زهرات شبابهم يوميا فداء للوطن والتراب المقدس.
وفي ذات الحلقة يأتي حوار مع الدكتور محمد أشتية رئيس الوزراء الفلسطينى، والذي قال: إن فلسطين مزروعة فى الوجدان العربى وتعشعش فى قلب كل إنسان عربى سواء كان فى الشق الآسيوى أو الأفريقى ففلسطين هى الجامع بين أفريقيا العربية وآسيا العربية، فالعرب حاربوا من أجل فلسطين وصلوا من أجلها وكافحوا من أجلها، مضيفا أن الوجدان العربى حى وغاضب من أجل فلسطين وسيبقى كذلك لأنها قضية العرب المركزية وسيستقر الوجدان العربى إذا استقر الحال فى فلسطين.
وأضاف رئيس الوزراء الفلسطينى خلال لقائه فى برنامج (بيت للكل) المذاع على القناة الأولى المصرية: أن جسور العلاقة الفلسطينية العربية مرتبطة بالدين، فالعرب مسلميهم ومسيحيهم مرتبطون بفلسطين وبالبعد التاريخى والجغرافى ما يدلل على أن فلسطين حاضرة، مضيفا أن أجيال من العرب تربت على حب فلسطين وأن شعبها مظلوم والحقيقة انه بالفعل شعب مظلوم ولكنه يقاوم هذا الظلم.
وواصل رئيس الوزراء الفلسطينى، قائلا: إن الإعلام يركز بشكل عام على سواد الأمور معبرا عن سعادته بأن حلقة البرنامج تركز على بياض الأمور، مضيفا أن الحياة فى فلسطين مثلها مثل الحياة فى أى دولة، فهى مثل قوس قزح الذى يحمل كل الألوان والميزة الأكبر أنه يصنع من التحدى حياة، فالاحتلال يريد أن يبقى الشعب جاهلا ورغم ذلك فنحن من أعلى نسب المتعلمين عالميا والشعب الفلسطينى معنوياته عالية إلى
حد كبير.
وتابع رئيس الوزراء الفلسطينى قائلا: إن فلسطين تقدر دور الأردن فى حماية المقدسات وهناك تنسيق مستمر بين الرئيس الفلسطينى والملك عبد الله الثانى ملك الأردن فى كل الخطوات السياسية والميدانية وأهلنا فى القدس صامدون وقابضون على الجمر وعاصمة فلسطين الواضحة والأبدية القدس الشريف ونعمل من أجل تحرير مدينة القدس من هذا الظلم والضيم الذى تعانى منه والقدس تتعرض لهجمة غير مسبوقة ومخططات إسرائيل لتهويد القدس باءت بالفشل، مشيرا إلى أن القدس لا توأم لها من الناحية الروحية، مضيفا أن رهاننا على الشباب العربى رهان كبير.
وفي متحف محمود درويش كان اللقاء مع صديقه الكاتب والأديب المسرحي والمثقف والسياسي والمناضل محمد علي طه، حيث تحدث في حضرة محمود درويش عن علاقته به قائلا: منذا أن كنا تلميذين بمدرسة في (كفر ياسين) وجلسا سويا على دكة واحدة ، وبدأنا يقران معا ونكتب معا هو ينظم الشعرو أنا أكتب القصة، وربطتنا صداقة طويلة، وأعتقد أن محمود درويش هو (خير سفير لفلسطين في العالم)، فقصائده إنسانية تدخل قلب كل إنسان، وأعرب عن سعادته بوجود برنامج بيت الكل في فلسطين، ليضيف : خاصة أن ثقافتي من مصر، فنحن من جيل تربينا على الثقافة المصرية ، على الأدب المصري وعلى الشعر والرواية والغناء، حتى كنا ننقسم في شبابنا بين الزمالك والأهلى، وننقسم أيضا إلى فريقين أحدهما مع فريد الأطرش والآخر مع عبد الحليم حافظ.
وقد أكد الكاتب الفلسطيني محمد على طه على أن للفن دور مهم في القضية الفلسطينية قائلا: عندما أتكلم عن الفن والأدب أقصد القصة والرواية والقصيدة والأغنية والوعة وجميع هذا الأشياء كلها، ولاشك أن معظم الدول العربية ساهمت في ذلك، ولاننسى أن أول قصيدة لفلسطين غناها محمد عبد الوهاب، وكتبها الشاعر المعروف (على محمود طه)، وهناك العديد من المصريين الذين غنوا لفلسطين كأم كلثوم وعبد الوهاب وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ وغيرهم كثيرين، وأيضا جميع الشعراء المصريين كتبوا عن فلسطين، كذلك في العراق فكتب عبد الوهاب البياتي عن يافا، وكتب أيضا بدر شاكر السياب ونازك الملائكة، وبلند الحيدري، وأيضا في سوريا ولبنان بزجلها الذي أثر في الفلسطينيين، وهناك من كتب وقدم أعمال درامية رائعة عن فلسطين، وهل يمكن أن ننسى أغاني فيروز التي كانت تحلق بين الأقصى وكنيسة القيامة وبين السماء ووديع الصافي أيضا.
وتخلل اللقائين تقارير من الشارع العراقي والأردني والمصري في برنامج (بيت الكل) عدة لقاء مع مواطنين من الشارع العراقي والأردني والمصري، أعبروا من خلالها عن حبها لفلسطين وتعاطفهم مع القضية كما أكدوا على أنه حتى النظام الرسمي العربي لا زال في مجمله داعماً للفلسطينيين مؤيداً لهم ورافضا للاعتراف باسرائيل والتطبيع مع الاحتلال، وثمة العديد من المواقف العربية التي تستحق الإشادة والثناء من خلال مواطني العالم العربي عبر الشارع المشحون بالغضب تجاه العدو المغتصب للأرض بسبب استمرارها في التمسك برفض الاعتراف بإسرائيل ورفض التطبيع مع الاحتلال، وهى مواقف كما جاءت في سياق البرنامج تعبر عن ضمير الأمة الذي لا زال حيا، وتعبر عن فشل مشاريع التسويق للتطبيع ومشاريع تجميل صورة الاحتلال في عالمنا العربي.
ولقد عبر كثير من هؤلاء المواطنين العرب من خلال تلك التقارير الحية من قلب الشارع (العراقي الأردني المصري) عن أن رفض الشارع العربي لهذا التطبيع كشف فشل (الجيوش الالكترونية) المستأجرة التي توظفها دول التطبيع من أجل التسويق لقضايا خاسرة، إذ أن (الذباب الالكتروني) قد ينجح في حرف البوصلة ببعض القضايا لكنه يفشل في القضايا المصيرية التي تمس بالأمة مثل قضية فلسطين، وأن العرب لم يفقدوا بوصلتهم ولم يتغيروا كما يظن البعض، بل لا زال ضمير الأمة حياً ولا زالت البوصلة هي فلسطين، وربما لمسنا ذلك مرارا كلما شن الاحتلال حربا على غزة حيث كانت قضية فلسطين هى القاسم المشترك الأكبر دوماً للعرب.. لكن ما حدث هو أن ثمة أنظمة سياسية أرادت التطبيع استجابة لترامب وصهره وقررت الخروج عن الاجماع وتحاول أن توظف جيوشها الإلكترونية في تصوير أن الرأي العام قد تغير.. وستفشل حتماً في ذلك، لأن ضمير الأمة لا يمكن تزويره.
جدير بالذكر أن المصريين الذين تحدثوا عبر تقرير من قلب شوارع القاهرة أشاروا إلى أن الحزن والغضب الذي ولدته أحداث حي الشيخ جراح واشتباكات القدس في نفوس المصريين، كان طبيعياً على شعب كانت قضية فلسطين جزءاً أصيلاً من ثقافته وأدبياته، ولما لايقولون ذلك إذ إن عشرات الأعمال الدرامية والسينمائية المصرية شملت فلسطين، وتراث الأغاني المصرية محمل بالأهازيج عن فلسطين، وعلى صعيد الأدب حين تقرأ أبيات الشعر التي تقول (لا تصالحْ ! ولو منحوك الذهب.. أترى حين أفقأ عينيك.. ثم أثبت جوهرتين مكانهما..هل ترى؟ هي أشياء لا تشترى!)، قليل من يعرف أن مبدعها وقائلها هو الشاعر المصري (أمل دنقل) القومي العربي المولود في صعيد مصر، الذي نشأ كغيره من شباب القطر مولعاً ومتأثراً بالقضية الفلسطينية، وشاهداً على تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي.
وكان أدباء مصر المعاصرون من أبرز الذين تناولوا القضية الفلسطينية، وعلى سبيل المثال، الروائية والناقدة المصرية الراحلة (رضوى عاشور)، التي كتبت روايتها (الطنطورية) حيث سردت بأسلوب راق مفعم بالحس معاناة قرية الطنطورة الواقعة على الساحل الفلسطيني جنوب حيفا، حيث تعرضت هذه القرية عام 1948، لمذبحة على يد العصابات الصهيونية، فيما يعد العالم المصري الموسوعي الدكتور عبد الوهاب المسيري أحد أهم الذين تحدثوا عن قضية فلسطين، وجابهوا الصهيونية العالمية.وهو صاحب كتاب (تاريخ الفكر الصهيوني: جذوره ومساره وأزمته)، وفيه تناول الدكتور عبد الوهاب المسيري بالعرض والتحليل تاريخ الفكر الصهيوني والحركة الصهيونية وجذورهما في الحضارة الغربية.
وتتبع في كتابه تاريخ فكرة الصهيونية قبل هرتزل وبلفور، والمراحل التي مرت بها حتى تبلورها في مطلع القرن العشرين، مع استعراض أهم التيارات الصهيونية وأوجه الاتفاق والاختلاف فيما بينها، وكذلك هو مؤلف موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية أحد أكبر الأعمال الموسوعية العربية في القرن العشرين، والذي استطاع من خلاله إعطاء نظرة جديدة موسوعية علمية للظاهرة اليهودية.
وفي النهاية لابد من تحية تقدير واحترام لفريق عمل برنامج (بيت للكل) الذي قدم لنا حلقتين استثنائيتين من مدينتي (رام الله وبيت لحم) بفلسطين من أمام كنيسة المهد، ولأول مرة برنامج تليفزيوني عربي يبث من الأراضي الفلسطينية، حيث قدمت حلقتي البرنامج تقارير مصورة ثرية بالمعلومات عن تاريخ تلك المدينيتن العريقتين في الثقافة والتاريخ والتراث، وناقشتا موضوعات ومحاور دسمه تسرد تاريخ النضال الفلسطيني، وأكدتا على أن فلسطين ماتزال تسكن القلب والوجدان العربي، فضلا عن سهره غنائية ممتعة في إطار احتفالات عيد الأضحى المبارك ورصد لمظاهر احتفال الشعب الفلسطيني بالعيد عبر الأغاني والأهازيج التي تنبع من قلب التراث الفلسطيني المتوقد بالحرية والنضال والعيش بفرح، رغم المعاناة الواقعة على عاتق أبناء هذا الشعب الذي يعيش تحت نير الاحتلال لقرن من الزمان.