كتب : محمد حبوشة
بقلب طائر يحلق في الفضاء الواسع متعلقا بالحياة في أجمل صورها، تعود النجمة المتألقة (شريهان) إلى المسرح من جديد على جناح الاستعراض فائق الجودة، صانعة دهشة مصحوبة بهالة نوارنية من البهجة والسرور، الذي أدخلته على جمهورها العربي في ليلة (عيد الأضحى) عبر عرضها المسرحي المبهر (كوكو شانيل)، تأليف الدكتور مدحت العدل وإخراج هادي الباجوري، ولأن شريهان كما نعرف تملك نظرة مميزة كأنها علامتها المسجلة التي تبعث رسائلها من خلالها إلى قلب الجمهور، تماما كما كانت تلك النظرة موجودة في استعراضات الفوازير وعلى خشبة المسرح وفي السينما، إنها نظرة تفيض بحب الحياة والتمسك بها.
قبل عرض (كوكو شانيل) الذي يعد لقاء أيقونيا بين عالمي الفن والموضة، كان بعض العاملين في المسرح العربي من مخرجين وممثلين وحتى التقنيين لم يصلوا بعد إلى المعرفة الكاملة بالممارسة الفعلية للمسرح الذي يعتمد كليا على الرؤية البصرية وتفسيراتها ومستلزماتها الضرورية للتوجه إلى المتلقين، الذين تعودوا دائما على الأعمال التقليدية التي تعتمد على الحبكة وعلى عملية البناء الدرامي المكتوب حواريا، حتى ظل البعض منهم يعتمد على الإقحام في الشكل على حساب المضمون الفكري للحركة والصورة ومدلولاتها الإنسيابية التي تعتمد على التعبير بالحركة بدلا من النطق المباشر بالحوار للتعريف بما يحدث على الخشبة، ظنا منهم أن الاهتمام بالشكل حتى إذا كان فوضويا على خشبة المسرح هو الطريق الصحيح لتحقيق عرض مسرحي يعتمد على مسرح الصورة.
لكن يقيني الذي لايقبل الشك أن عرض (كوكو شانيل) يعتبر هو الذي دشن عصرا جديدا في مسرح الصورة بمدلوتها الإنسيابية التي تعتمد على الحركة بدلا من النطق المباشر وبالحوار للتعريف بخشبة المسرح مع عناصر الإبداع فيه بالكلمة والنغمة والحركة والرقصة واللمحة التي تليق بـ (شريهان)، وظني أن عودة شريهان للتألق في مسرح الصورة لم تكن لتتحقق لولا أنها ضمنت تماما عدم المس بصورتها الأسطورية، تمنحها شركة (العدل جروب) برعاية (الهيئة العامة للترفيه) وقناة (إم بي سي) سقوفا إنتاجية شاهقة، فتحلق في الخيالات البعيدة، في الفخامة والإبهار، وفي العظمة؛ كأنها لم تغب كل تلك السنوات ولم تهجر الضوء، لتثبت أنها شريهان التى تخترق حاجز الزمن، فقدمت هدية العيد للمشتاقين إلى فن خلاب: مسرحية (كوكو شانيل) بكل مشهدياتها وهزاتها ولحظات التخلي والمواجهة، حتى بلوغ أقاصي المجد على وقع رائعة (إديث بياف Non je ne regrette rien / لا، لا أندم على شيء)، حيث يقفل المشهد الأخير بهذه اللقطة التعبيرية المذهلة كاختزال لدخولها التاريخ من بابه العريض.
حياة (مجنونة) جريئة، عاصفة، ومتقلبة؛ عاشتها أيقونة الموضة الفرنسية كوكو شانيل، وجسدتها أيقونة الاستعراض شريهان؛ كأنها هى بشحمها ولحمها، كأن الآلام مشتركة، والتجاوز مشترك، والقمم حيث استراحة الأساطير، واحدة، وذلك عبر ساعتين من تأكيد عظمة شريهان النجمة التي استعادت مجدها الاستعراضي من جديد بالتداخل والالتحام والذوبان الجمالي مع عظمة شانيل وشقائها، كما ظهرت وهى تخرج من أليم ما عانت وتحملت، قدرة رهيبة على أداء الشخصية كالتشرب إلى حد الثمالة، تماما كما يفعل القطن فور وقوع الماء في قبضته، فقد كانت (كوكو/ جابريل شانيل) المتروكة في ملجأ الدير، كانت روحا فنية حائمة في العلا، كتلك الحالمة العنيدة، روح فرنسا في الموضة وثورتها العاصفة على الفساتين المكبلة لحركة المرأة.
وتبدو شريهان من خلال (عشرة مشاهد) في فصلين، ومن خلال استعراضات (خياطة برانيط، ومانيكان، رقصة رمانسية ساحرة مع أيمن القيسوني، دمروها، استعراض رفض الشارع الفرنسي لها، والاستعراض الأخير المجد)، تبدو من خلال كل ذلك جبارة في السيطرة على المسرح، وفي تعابيرها ورشاقتها، لتسدل عودة متفوقة تعوض 30 عاماً من فراق الخشبة، ويبدو لي أن النجاح هنا أبعد من امتلاك موهبة، هو إحساس عميق بتفاصيل الشخصية، والتقاء الأوجاع، وهو شوق وعطش ورغبة في تقطيب الألم وتجميل الجراح، يلوح لي طوال الساعتين سؤال من النوع المحسومة إجابته: هل كانت النتيجة نفسها لو أن مفاتيح هذه الدهشة تسلّمتها بطلة غير شريهان، وإن كانت مرتبتها المسرحية عالية ومقعدها الفني لا غبار عليه؟ لا .. حتماً لا .. (كوكو شانيل) لها وحدها، ولا أحد غيرها يمكن أن يقوم بنفس المهمة.
حقا لقد تفوقت شريهان هنا في (كوكو شانيل) في إنجازها في هزيمة اليأس، نظرا لوقوفها مجددا بعد مباغتات القدر التي صادفتها خلال السنوات الماضية، وللشفاء وباقات الإلهام العطرة من جديد، ونبل تحمل أشواك الحياة وقسوتها حتى الارتقاء بورودها، وذلك من خلال اعتماد أسلوب الحكي في بداية المسرحية وبين المشاهد، حيث ظهرت الفنانة (حنان يوسف) مع طفلة صغيرة في العصر الحديث لتحكي لها عن قصة (كوكو شانيل)، ولعل الديكورات المتقنة إلى حد الإبهار والسينوغرافيا فائقة الجودة وتحريكها السريع على المسرح، كلها كانت لقطات مضيئة وتوضح المجهود الكبير الذي قام به كل صناع العمل وعلى رأسهم المنتج الواعي بقيمة الفن (جمال العدل)، كذلك الأزياء التي جاءت رقيقة ومناسبة للعصر وتساعد على الحركة، وذلك بفضل لمسات مصممة الأزياء الرائعة ريم العدل.
بدت (شريهان) في هذا العمل المسرحي الاستعراضي شيء مختلف عما سبق، شيء لم يشاهده أحد من قبل، كانت الاستعراضات متنوعة وتشرح الحالة التي تعيشها (كوكو شانيل) أو تمهد للمشهد التالي بنعومة مذهلة، فضلا عن إطلالات ساحرة مثل ظهورها بثوب من الدانتيل باللون الزهري الفاتح يذكر بتصاميم بداية القرن الماضي وقد تزين بعقدة مخملية سوداء ولآلئ (شانيل) الأيقونية، وظهرت أيضا بإطلالة ذات طابع ذكوري من قميص أبيض وربطة عنق منسدلة حول ياقته بالإضافة إلى سروال داكن اللون، أما الإطلالة الأكثر جمالا وأناقة فهى تلك التي ظهرت بها لتتألف من (تايور) باللون الأسود تزينت ياقة سترته وكماها بكشاكش من الشيفون الأبيض، إضافة إلى أزرار من اللآلئ البيضاء، وقد كملت شريهان إطلالتها بتسريحة شينيون مرتفع وأقراط أذنين تزينها حبات اللؤلؤ.
ويبدو جانبا مهما من براعة المصصة (ريم العدل) في حرصها على أن تقدم لشريهان إطلالات وفية لطراز (شانيل) مع الحفاظ على حرية الحركة على المسرح نظرا للطابع الاستعراضي للعمل، وربما استمدت (ريم) تصميماتها من كون هذه المسرحية تحمل اسم (كوكو شانيل) التي تكشف عن عالم هذه الشخصية التي أحدثت ثورة في الأزياء النسائية خلال القرن العشرين وما تزال حتى اليوم تؤثر في ذوق ومفهوم النساء للأناقة حول العالم الذي يقبل بكثافة على تصميماتها المعمة بالراحة والحرية.
لأنها كانت لديها الشجاعة دائما لمشاركة الجمهور كل المراحل الصعبة من حياتها من دون خوف، وبهدف دفعهم إلى الأمام بقلب صادق ومشاعر حقيقية، فقد جاءت فكرة هذا العمل لشريهان التي تهديها (لعموم المرأة في العالم)، حيث ترفض طفلة من هذا الزمن أن تخبرها جدتها حكاية (سندريلا) أو (الأمير الصغير)، لأنها تشعر بالملل وتبحث عن متعة أخرى فتصطحبها الجدة (حنان يوسف) في رحلة صعود واحدة من أهم شخصيات القرن الماضي، ومن ثم تفتتح المسرحية بمشهد (بياعة البرانيط)، وبلوحة استعراضية راقصة (مصمم الاستعراض هاني أباظة)، تتراءى النشأة القاسية لفتاة تخلى عنها الرجل الأول في حياتها: والدها، صرامة تربيتها في الدير لم تقص جناحيها كثيرا، فولدت الأحلام من صميم القسوة في صورة تصميمات اجتذبت الجمهور الفرنسي والإنجليزي وحتى الأمريكي مثل سيدة البيت الأبيض (جاكين كيندي) .. باختصار: أبهرت كوكو شانيل العالم بملابسها الجريئة التي استمدت من طابع الحرية على الطريقة الفرنسية.
ولترسيخ مفهوم الحرية التي تتمتع بها روح (شانيل)، فقد ظهرت بشخصية قوية، اندفاعية، أو كما نقول نحن بالعامية المصرية: (مدب)، ورغم ذلك فقد لفتت نظر (المسيو كابيل/ هاني عادل) الأرستقراطي في شوارع باريس، ولعل تعرضها للسرقة وهى تبيع القبعات، وماضيها الملطخ بالغناء في الملاهي الليلية، جعلاها تتمسك به كفرصة العمر، ومن ثم تعرض على (كابيل) مشاركتها، فتبدأ الرحلة الشاقة والطويلة في التألق، هو يملك المال، وهى تملك الأفكار والتصميم والروح الثورية، أنها امرأة مختلفة، استطاعت أن تقلب تقاليد المجتمع الفرنسي ونظام الدولة في الموضة، وتدخل اللباس المريح، بدل الفساتين الثقيلة التي تكبل المرأة بقيود وجمود في حركتها ورشاقتها، حتى غدت (كوكو) أمثولة ملهمة في شجاعة التعبير عن النفس وجرأة طرح الأفكار بنبرة عالية لا تسمح لأحد بأن يوقفها عن التحليق في سماء عالية من الإبداع.
أرادت شريهان المحلقة الحرة، تغريها كوكو شانيل وتخاطب وجدانها، بلمعة كوميدية، بمهارة مشهدية، بانسياب الينابيع بين شقوق الصخر، أن تقدم تحية وفاء لعطاءات مشهودة على مستوى البشرية، وإعجابا ببصمة خالدة لمصصمة باريسية، هى بحجم الجمال والرفعة، تعززهما وتكثفهما، ترتفع بهما وترفعهما، كي تجعل اللباس مرادفا لحرية الحركة، ومن عمق هذه القيمة فككت أغلال النساء بإدخالها البنطال الواسع إلى خزائنهن، وبينما تقود (صرعة) اجتماعية ذاع صيتها، إلى أن أطلقت (شانيل 5)، واحد من أهم العطور في العالم، ساحر الأنثى الباريسية التي أذهلت شعوب العالم، وماتزال حتى اليوم علامة مميزة في دنيا العطور.
وعودة للبداية في الفصل الأول، حيث تكمل الجدة الحكاية: يفترق الحبيبان، كوكو وكابيل، (راجل زي كل الرجال) .. هكذا تقول المتلوعة من خذلان الأبوة، حيث كان شانيل يمثل الجبروت والهشاشة معا، فهو عبارة عن كتلة مشاعر مسكونة بأشباح التخلّي؛ ورغم كل ذلك فمن الإحباط والغضب، يولد أعظم فساتينها:The little black dress تصميم يتجاوز الأقمشة نحو العقل والإنسانية، وتتخذ المسرحية مسارا آخر في الفصل الثاني، بديكورات ضخمة وتنفيذ بصري مبهر (منتج فني محمد حلمي، إشراف فني وديكور محمد عطية)، وهنا يرفض المجتمع الفرنسي (كوكو شانيل) بسبب علاقتها الغرامية بالضابط النازي (هانز، أيمن قيسوني) بينما تشهد أرض فرنسا نار وحصار.
في ظل أجواء كهذه يعلو نقاش (الوطني والمجرم)، فيما العاشقان، وبدهشة مسرحية، يتجاوزان الجنسية والحدود واللغات والألقاب، محلقين في الفضاء بين الكواكب والنجوم في داخل لوحة رومانسية راقصة ساحرة الألوان، بالغة الدلالة على الحب بلاغرض سوى الحب نفسه، وتتولد في تلك اللحظة الخاصة آلاف الكلمات السابحة في معانيها المعبر عنها من دون نطق، ولأجل هذا الحب تحاكم كوكو، كما يبدو من خلال استعراض (إوعوا أبدا ترحموها، دمروها)، ويتم إبعادها عن حبيب لمست إنسانه الداخلي، لا الانتماء العسكري النازي في جبروته، ثم تنفى مرة أخرى، إنها جولة مع الإحباط والانكفاء وذكريات الطفولة الملعونة، تلتقط المسرحية الانتباه كاملا، كمن يجلس على كرسيه في مسرح يجانبة السحر والإبهار (حيث صوّرت) تحت أضوائه وهيبة الاستعراضات الكبري في القيمة والجمال، فلا مكان على الجوانب، الجميع (مخطوف) بالمشاهدة يعيش لحظات الرومانسية والغضب والفراق واللوعة والحزن والأسي على فراق شانيل لباريس التي تعشقها.
خلاصة القول: إنه كما عادت شريهان من حادث السير المرعب الذي عطلها سنوات طويلة عن اعتلاء خشبة المسرح، عادت (كوكو) إلى محترفها وتصاميمها والطموحات الكبرى، تتصل جاكلين كيندي بينما باباراتزي أميركي (آسر ياسين) آتيا من الولايات المتحدة بعد انتشار أزياء شانيل فيها، يحاورها بسخافة عن سنّها وثمن عقد اللؤلؤ على المانيكان، لكنها كشخصية قوية وواثقة تتحصن من المضايقات فتطرده ببرود شديد، مقفلة الباب على سرعة عطبها، ولا يبقى في المشهد الأسطوري سوى الأوفياء، كالمساعدة (سيسيل/ سمر مرسي)؛ ومواصلة الأحلام والطومحات، وإن رفضها الشارع الفرنسي وجلد معنوياتها، لكنها تصر في كل مرة متسلحة بإراداتها القوية على مواصلة المشوار، ويبدو ذكائها الحاد في أنها الوحيدة التي أبصرت مبكرا جدا أن العالم يتغير وأميركا أيضا، فتبنى أحفاد الكاوبوي نداءاتها القوية نحو عالم من الموضة الأكثر جرأة وحرية.
لم تكن كوكو شانيل صانعة موضة، كانت هى الموضة ذاتها، ولم تكن شريهان مجرد ممثلة تتحرك بسهولة ويسر على خشبة المسرح، بل كانت حديثا عذبا ذو شجون خلال الأيام الماضية من فرط حرفيتها وصدق حدسه الفني التي جلب البهجة والسرور على جناح عرض (كوكو شانيل)، والذي جل ما فعله هذا العرض الخرافي هو انتصار البساطة على المبالغة والإحساس على القاعدة، لتبقى شريهان طائرا متعلقا بالحياة، مبهرة في تجسيد السيرة بدهشة عالمية على مستوى الحركة والأداء والغناء بأسلوب درامي باعث على الشجن، فماتزال (شيري) بعد كل ما تجاوزته من صعاب وفقد وألم ومرض، تملك القلب المتمسك بالحياة والمقبل عليها، والروح القوية والمرحة التي رفرفت معها قلوب محبيها في ليلة العيد .. تحية تقدير واحترام لأيقونة الاستعراض المصري والعربي (شريهان) ومرحبا بك متألقة على خشبة المسرج من جديد.