كتب : محمد حبوشة
بين طفولة معذبة ومتعبة مليئة بالفقر والتشرد، وشباب يضج بالطاقة والمال والجمال، درات أحداث مسلسل البطولة المشتركة بين سوريا ولبنان تحت عنوان (للموت)، والذي يروي قصة سيدتين في ريعان الشباب والجمال هما (ريم/ دانيلا رحمة) و(سحر/ ماجي أبو غصن)، واللتين نشأتا في ظروف صعبة جراء تشردهما وعدم وجود عائلة لأي منهما، في مجتمع تفوق فيه الرقابة النصوص الدرامية، الرقابة على واقع الطفل ونشأته، وتجمع بين السيدتين علاقة صداقة عميقة منذ الطفولة التي تشاركتا فيها الجوع والخوف والمرض، وحافظتا خلالها على علاقتهما الأخوية مع (عمر/ باسم مغنية)، وتمشي الرياح بالاتجاه الذي تختاره سحر، العقل المدبر والمحرك لعمليات النصب، إلى أن تقع ريم في حب زوجها فعلًا، وينسف هذا الحب كل خطط الصديقة الناقمة على طفولة الفقر والذكريات التي تغذت على الحرمان، ما يضع الصديقتين في ميدان حرب أعصاب باردة تتأرجحان فيها بين التآخي والعداوة.
تتصاعد الأحداث بإيقاع مداده العاطفة أو الإيهام بها، إلى أن يظهر زوج مخدوع سابق من أشباح الماضي، ويضع ماضي السيدتين بالصور والمستندات على طاولة (هادي/ محمد الأحمد)، الزوج المثالي الذي اكتشف بعدما فتح مظروفا مغلفًا على مكتبه أن ما يعيشه هو مسرحية لا زواج، ورغم حالة التصعيد الدرامي التي يشهدها العمل، فإن باب النهايات يبقى مفتوحا على جزء جديد منه، يجيب عن الأسئلة التي تركها العمل في جزئه الأول، ويبقي (للموت) أنه مسلسل لفت الأنظار إلى إخراج مميز يقدم صورة مشبعة بالإيحاء النفسي وشاعرية الصورة، بالإضافة إلى حوار مكتوب بعناية وواقعية لا تظهر كثيرا في الأعمال المشتركة التي اتجه جزء كبير منها خلال السنوات الماضية لرسم عالم موازٍ لا يتقاطع مع قضايا وهواجس السواد الأعظم من الجمهور.
تميز المسلسل الدرامي (للموت) الغارق في التراجيديا الإنسانية خلال عرضه في الموسم الرمضاني عن غيره من المسلسلات بالعديد من الأمور، التي جعلته يجذب المشاهد اللبناني والعربي على حد سواء، وينافس أقوى الانتاجات العربية هذه السنة، رغم أنه إنتاج لبناني جمع أكبر عدد من الممثلين اللبنانيين المخضرمين، إضافة إلى ممثلين شباب، واللهجة المحكية من قبل أبطاله انحصرت باللبنانية والسورية، فضلا عن ملامسته للواقع اللبناني بإسقاطات مباشرة على ظروف البلد وتحكم طبقة الحكام في أبناء الشعب المطحون، وذلك بالضغط على العصب العاري في المجتمع الذي يعاني ظروفا اقتصادية صعبة للغاية.
إضافة إلى ذلك تناول المسلسل قضايا (العنف الأسري، الاغتصاب، تسول الأطفال، والانحراف السلوكي عند الأطفال بسبب اليتم والتشرد)، خصوصا عندما تكبر الطفلتان (ريم وسحر) لتعتبرا أن ما فعلتاه هو نتيجة طبيعية وخيار وحيد للحياة التي عاشتاها، ناهيك عن تعرضه في ثنايا السيناريو إلى (جرئم الإتجار بالبشر، زواج القاصرات، المريض النفسي ومدمن المخدرات (عمر) والشخص الفاقد ثقته بنفسه (باسل/ خالد القيش) بعد قتله زوجته عن طريق الخطأ، كما رصدت كاميرا المخرج فليب أسمر في طياتها (الطمع والجشع) داخل النفس البشرية، وأجمل مافي في هذا المسلسل هو ذلك التباين حيث جمع المسلسل بيئتين مختلفتين، وسلط الضوء على مشاكل وأسلوب حياة كل منهما، بيئة (المجتمع المخملي) الأغنياء وبيئة الفقراء.
ربما طالت المسلسل بعض الانتقادات التي تتعلق بالجنس والعري والمشروبات الروحية في نهار رمضان، لكنه نجح في لفت الأنظار بقصته المشوقة كتابة (نادين جابر) وإخراج فيليب أسمر، وأداء رائع للغاية من جانب (دانيلا رحمة) في تجسيدها لشخصية (ريم أو وجدان) المتقلبة جدا والمركبة وهو أمر ربما أتعبها كثيرا، لكنها بمساعدة المخرج فيليب أسمر ابتكرت أدوات مزدوجة لكل شخصية وحركات معينة ولغة العيون حين عاشت في الدور محررة من الخجل، ما يؤكد أن ثمة تشابه بين شخصيتها الحقيقية وشخصية (ريم) التي تتلامس – على مايبدو – مع بعض الصفات لديها ، قد لا تشبهها في طباع كثيرة، وفي ظروفها وحالاتها النفسية المضطربة، لكن تشبهها بالطبع من حيث الإصرار على شق طريقها وإثبات موهبتها ومهنيتها، حيث حاربت وتعبت (دانيلا) لبدء حياة جديدة في بلدها لبنان وفي التمثيل تحديدا.
لقد أعجبني أداء (دانيلا) التي أكدت موهبتها في أداء التراجيديا ممزوجة بحس إنساني وبنعومة عالية للغاية هذه المرة على عكس شخصيتها في مسلسل (أولاد آدم) العام الماضي والتي اتسمت بالخشونة والجرأة أيضا، وقد أكدت أن كل دور يلعبه الممثل، يجب أن يضع جزء من روحه به، وإلا أصبح الدور كذبة، ويبدو أن خضوعها للتدريب أكسبها خبرة مميزة، فالتدريب ضروري للممثل وهو بمنزلة الأوكسجين الذي يمد الإنسان بالحياة ومهم من أجل تطوير القدرات والمهارات، فتمارين التركيز والفهم، الإحساس، الانصات، الوعي الذاتي، الانفعال، الارتجال، السكون، الحركة، التنفس، الاسترخاء، التوتر، التوازن وتمارين الكينونة كلها دروس عملية بدت في أدائها كما ظهر لي وللجمهور من خلال الاسترخاء والتنفس، وأداء كل عضلة من العضلات على شاكلة عازف البيانو الذي يستخدم كل إصبع من أصابعه في صبر ومثابرة، كما أنها أصبحت تعرف جسدها حق المعرفة وتستطاع تسخيره لإرادتها طبقا لقول (ما يرهولد): (لابد للممثل من أن يعمل على تطويع جسده لكي يستجيب بسرعة الأوامر الصادرة إليه من الممثل والمخرج).
وعلى درب الأداء يأتي محمد الأحمد بقدر هائل من العذوبة في إشارة واضحة إلى أنه على وعي كامل كممثل بجسده يجعله حتى وهو في حالة جهود أن يحتفظ بأهميته، شأنه شأن الممثل العظيم الذي يحتفظ بهيبته حتى في لحظات صمته، وتلك اللحظات تكررت كثيرا خلال الحلقات، وهو ما يعكس قدرته الفذة في كيفية أن يصبح على دراية التوترات الزائفة والتشويش المعتاد وتعلم كيف يحافظ على طاقته، فمرونة جسده كانت دوما تساعده على اختزال مزيد من طاقته، فحين ينطلق اتجاه الحركة من الداخل للخارج، ومن الخارج للداخل، كان جسده يتراجع ويعطي فرصة للخيال، لقد أتقن (الأحمد) فن التواصل الوجداني الحقيقي من خلال الحركة والصوت، فقد كان يتحرك بسهولة ويسر ومكنته لغة جسده الطيعة لإيصال الإيماءة بواسطة الكلمات التي كانت تأتي على لسانه مشبعة بالإحساس، وقد شاركه (خالد القيش) نفس روعة الأداء في شخصية (باسل) الذي يعاني اضطرابا نفسيا على أثر قتل زوجته الأولى بالخطأ، ما شكل معا ثنائيا رائعا في سلم الحركة والسكون طوال حلقات المسلسل.
حاولت (ماجي بو غصن، تقديم نفسها في مسلسل (للموت) بدور اختلف عن كل أدوارها، والحقيقة فإنها اجتهدت فيه على خطوط الشخصية وتعابير الوجه، وكل التفاصيل، فتفوقت على نفسها هذه المرة ، وكانت بالفعل مرتكزاً للمسلسل كله، والذي برأيي لم يكن فيه ممثلون ثانويون وآخرون رئيسيون، بل الجميع، كل وفق مساحة دوره، كان مؤثراً في مجريات العمل، كما فعل (باسم مغنية) الذي تقمص شخصية المدمن بطريقة محكمة، فضلا عن قدرته الفائقة في التحم في أعصابه ببرود في ارتكاب جرائمه، وكأنه تمرس في هذا اللون منذ فترة كممثل نضج على نار هادئة من خلال التدرج في الأدوار المختلفة التي أداها خلال السنوات الثلاث الماضية حيث برز كممثل يملك قدرات خاصة تجعله رقما صعبا في معادلة الدراما اللبنانية والعربية، وإن كان نجاح اختيار القالب الدرامي، بقصصه وأدواته وسرديته، مرهوناً بوجوه أبطاله الرئيسيين.
هنالك ممثلون برعوا حقا في أدوارهم خاصة هؤلاء الذين تواجدوا في هذا الحي الفقير، حيث نجح المخرج في تصوير عدة مشاهد قد تبدو هامشية في سياق الأحداث، ولكنها تختزل هموما بات التداول فيها من يوميات الشعب اللبناني التي تعصف به الأحداث الحالية، وقد برع الممثل (وسام صباغ) في تجسيد شخصية (محمود) الذي ترك انطباعا مناسبا يحاكي في تفاصيله هموم الأسر اللبنانية، فقد عبر بصدق عن واقع مؤلم وصادم في طرحه، حيث جعل من شخص (محمود) الخلوق واللطيف، شخصاً مجرما.
ونجحت (كارول عبود) في لعب دور (ساريا)، وكذلك زوجها (أمين) الذي جسده (فادي أبي سمرا)، عندما سلطا الضوء على العائلات المتهالكة والمتضعضعة وارتباط المكان بالذاكرة وتزويج الفتيات القاصرات للمنفعة المادية، وغيرها من أمور تصب في خانة البحث عن لقمة العيش التي تفوق التصور الأخلاقي للأسر المتوازنة إذا ما قورنت بحياة هذه الأسرة وهمومها أمام واقع تعيس وجاحد، يتطلب تضحيات لا حدود وضوابط لها في سبيل مجاراته.
أما عن شخصية (عبد الله) التي لعبها النجم الكبير والقدير (أحمد الزين)، فقد جعل منها نسخة ملطفة تصنع توازنا إنسانيا في الحي، وأجمل ما جاء في هذا السياق هى تعبيراته الأدائية كرجل مسن لطيف حانيا على أهل الحي، فنراه يراعي ضائقة أبناء حيه أمام أزماتهم المالية والعاطفية والنفسية، يقدم مساعدته من دون مقابل في كثير من الأحيان، وبدت روعته أكثر مع القديرة (راندة كعدي) في قصة حبه ورومانسيته الجارفة لها، وهى التي جسدت شخصية (حنان) التي لا تختلف كثيرا عن شخصية (عبد الله) بلطفها ورقتها.
شخصيات هذا الحي الفقير، وإن كانت تدور في حبكة جانبية ستمهد لنا الطريق للدخول إلى حياة الأغنياء وعالمهم، أثبتت وجودها ومقدرتها الأدائية بقدر يزيد عن الشخصيات الرئيسية في الحكاية، ولا نعزو هيمنة أدائها على أداء البطلتين الرئيسيتين للخبرة والمقدرة فحسب، بل لهيمنة الحكايات الواقعية التي يحتاج المواطن اللبناني لرؤيتها دونما عبور إلى الحكاية الأساسية الدائرة في عالم الأثرياء التي غدت ضرورة درامية لخلق الصراع، وتوسعة الأحداث، في سبيل نجاح العرض والصورة مقابل الألم والفقر.
ويبدو اختيار المخرج اختيار موفّقا جدا لـ (خالد السيد) بشخصية (جابر) الذي لو تشاء أن تصفعه كفا فتؤدّب وحشيته وشره، قدم (السيد) مع ثلاثية (فيفيان أنطونيوس ورنين مطر، يداً بيد مع روزي الخولي) بشخصية (إيفون) نبذةعن عالم مظلم، مخيف وقاس، بما بالغ المسلسل في تصوير عالم الليل على هذا الشكل وبهذا المكان، لكن الأمر المؤكد أن رسالته قوية، كالعبرة من رمي القاصرات بالنار والتلاعب بأقدارهن، ولقد كانت الطفلة (تالينا بورجيلي) في دور المشردة (خلود) فاكهة هذا العمل بشقاوتها وقدرتها على الأداء الفطري العذب الذي خفف من حدة الأحداث بكوميديا مفرطة في الضحك.
ولابد لي أن أشيد بتتر المسلسل بصوت (ناصيف زيتون) الذي جاء كتحفة فنية، في لحنه السلس في قوة ورومانسية، وقد ساهم صوت ناصيف في منحه هذا الزخم، أما الموسيقى التصويرية فهي جميلة إلى حد الرعب، أبكتنا في بعض المواقف، وأفرحتنا في مواقف أخرى، وانسجمت مع مجريات العمل.
شهدت الحلقة الأخيرة من مسلسل (للموت) مواجهة قاسية بين (هادي، وريم)، حيث تحدث لها عن حبه لها من أول نظرة وسعادته معها، وهى رغم كل شيء لم تقدر هذا الأمر، وسألها عن سبب قيامهما بذلك، وبدأ برمي المال عليها مناجيا أن ترجع أمه إليه (نجاح/ صباح الجزائري) التي توفيت أثناء خطفهم لها وقد قدمت الدور بحرفية كبيرة، وانتهت أحداث المسلسل بانتقام (هادي) من (ريم)، ليأتي هذا المشهد كـ (ماستر سين) الحلقات على النحو التالي:
يلقي هادي بريم في حمام السباحة مقيدة ثم يقف على رأسها شامتا ومتأملا بعد أن يرشها بالماء كي تفيق على وجهه العبوس، وهى في حالة بكاء بكاء مر على أيام الحب التي ضاعت بعد انكشاف أمرها.
هادي : تعلمت من صغري ما أثق في أحد .. ما أخسر بحياتي ولا بشغلي .. تعلمت ألاعب الدنيا كلها على أصابعي لحد ما جيتي انتي .. متذكر إني أول لحظة شفتك فيها حبيتك .. إيه حبيتك .. حطيتك جواتي وخبيتك بقلبي .. ما كان همي الماضي تبعك .. كان همي شغلة واحدة بس إني ألاقي حدا أثق فيه في الدنيا .. شغلة واحدة بس أنام حدك واغمض عيوني وما بخاف منك .. فشلت .. فشلت .. ارتكبت بحق حالي أكبر غلطة .. أكبر غلطة اني اتزوجت واحدة حرامية.
وبوجه يحمل قدرا من الأسى يضيف : ما كنت متخيل اني اتزوج واحدة حرامية أنا بدي منها ولد .. عم باحلم وهى كل همها تسرقني .. يا لطيف ما أبشعك .. أديش انك سخيفة .. أديش أنا طلعت واحد غبي .. كيف قدرتي تكذبي على كل هاي الفترة ؟ .. كيف كان يطلع من فمك كل هذا الحب وأنا صدقته ؟ .. كيف صار بينا هيك ؟ .. ممغوصة .. كيف كان طعم الدوا بالزهرات؟.
بصوت أكثر حدة : شو كان في بطنك هاون .. شو كان : صبي ولا بنت ؟ .. شو قولي .. أنا باقولك شو كان : كان كتلة لحم فاسدة تشبهك .. تشبه روحك من جوه .. تشبه (عمر) تشبه (سحر) .. تشبهكم .. اتفوه عليكم.
يمسك يدها ويضغط عليها قائلا : ليه عم تبكي .. بتبكي لأني حرمتك انك تصيري أم .. لكن انتي بحياتك ما حتصيري أم .. حتى لو حبلتي وخلفتني بحياتك ما حتصيري أم، لأن مافي أم بتقتل أم .. قتلتوا أمي .. قتلتوا أمي .. شو عملت أمي .. ليه قتلتوا أمي ليه .. ليه ؟ .. المصاري .. يلعن أبو المصاري.
يقوم بنثر الدولارات عليه قائلا : امسكي هاي مصاري .. هاي مصاري .. ماشبعتوا مصاري؟ .. قتلتوا أمي .. وفي حالة من الهيتسريا : رجعيلي أمي .. رجعولي أمي .. رجعولي أمي .. رجعولي اياها.
يهدأ هادي وينظر لريم قائلا : شو .. ماعندك شيئ تقوليه ؟
ريم تلتقط أنفاسها بصعوبة : يعني إذا قلت لك ما خصني بأمك ما راح تصدقني .. وإذا قلت لك باحبك كمان ماراح تصدقني ..إذا قلت لك إن الولد اللي كان في بطني منك كمان ما حتصدقني.
هادي : ما حاصدقك لأنك واحدة كذابة .. ثم يجرها وهو يتمتم : كذابة .. كذابة .. ويمسك برأسها ويغرقها في الماء ثم يخرجها قائلا : ها كنتي حتموتي .. ويغرقها مرة أخرى ويخرجها قائلا : اتنفسي يلا .. حاسة بالموت .. وينتهي المشهد على هذا الوضع المأساوي لريم التي لم يشفع لها حبها الكبير والمخلص لهادي.