كتب : محمد حبوشة
على غرار كتاب المطالعة الرشيدة التي الذي يلوح بغسل اليدين قبل الأكل وبعده، وغيرها من تعليمات ساذجة لاتنم إلا عن عقل فارغ وأفق ضيق لايرقى لعصر التفاعلات الكبرى الذي نعيشة حاليا، فقد خرج علينا نقيب الفنانين السوريين (زهيررمضان) بتعليمات تسير على نفس درب السذاجة حين وجه بيانا غريب الأطوار للفنانين السوريين قائلا: تعزيزا لدور الفن في ترسيخ الممارسات اليومية بقواعد الصحة والذوق العام (لاحظ أنه جمع بين الصحة والذوق العام في تواز غريب عجيب)، وأضاف لا فض فوه: واستنادا إلى ما للفن والفنانين من تأثير قوى على سلوك المشاهدين اليافعين والشباب بوجه خاص، يرجى الحرص على مايأتي في الدراما التلفزيونية والأفلام السينمائية والعروض المسرحية وغيرها (وظني والله أعلم أنه يعني بغيرها المطربين على خشبة المسرح أو في الفيديو كليب؟).
المهم أن تعليمات سيادة النقيب جاءت على النحو التالي:
- عدم التدخين من قبل الممثلين وهم يصورون أدوارهم (إلا عند المتطلبات الدرامية الضاغطة جدا)، فتدخيتن الممثلين في المشاهد يسهم في ترويج عادة التدخين الضارة في المجتمع.
- ربط حزام الأمان في السيارة عند تصوير مشاهد ركوب السيارات، وذلك لتعليم الجمهور الالتزام بقوانين المرور والسلامة المرورية أثناء قيادة السيارات.
- عندما يضطر الممثل في المشهد للحديث عبر الهاتف النقال لابد من إيقاف السيارة جانب الطريق وفق الأصول حتى إتمام مكالمته ثم الانطلاق مجددا، بحيث يرى المشاهد هذا الاحترام لقوانين المرور ويعتاد عليه.
من جانبه عقب النجم الممثل والمنتج السوري (فراس إبراهيم) على هذا الكلام قائلا: تعقيباً على التعميم الذي نشرته نقابة الفنانين وماجاء فيه، أقول : أولاً: من المعيب وبعد آلاف الساعات الدرامية وعشرات الأعمال المسرحية والسينمائية التي أغنت المكتبة الفنية العربية بأهم الأعمال أن تخرج النقابة بهذه المحاذير الساذجة للعاملين بالدراما، وإذا كان ثمة مسؤول عن إصدار مثل هكذا تعميم (أكل عليه الزمن وشرب) فسيكون المسئول هو إدارة رقابة النصوص أو رقابة المشاهدة على المصنفات الفنية وليس نقابة الفنانين.
ثانياً لنقابة الفنانين أدوار أخرى أكثر أهمية مما جاء في هذا البيان مثل العناية بأعضائها المنتسبين لها وتعزيز مكانتهم وقوتهم ورفع كفاءتهم وحمايتهم ومنحهم الإحساس بأنهم ينتمون إلى كيان يشبههم ويمثّلهم ويحتويهم، لا إلى كيان نقابي يعاملهم بإستعلاء واستكبار وكأنهم أجراء في إقطاعية من القرن التاسع عشر، ومن أدوار النقابة أيضاً العناية بالمواهب الشابة ودعمها وفتح أبواب النقابة لها بعد سنوات من عدم إجراء أي اختبارات قبول جديدة الأمر الذي حرم هؤلاء الشباب من فرص العمل الطبيعية وحرمان النقابة المهتمة أساساً بتحصيل الإشتراكات من الحصول على مئات الملايين من المنتسبين الجدد.
ثالثاً: هناك أخطاء واضحة في طريقة إدارة هذه النقابة وإذا لم يعمل المسؤولون الكبار على تدارك وإصلاح هذه الأخطاء في أسرع وقت ممكن فإن هذا الكيان النقابي مقبل على أيام صعبة ستنهي أي أمل باستمراره.
كلام النجم السوري (فراس إبراهيم) يفتح الجروح الغائرة من جديد في أجساد نجوم الفن السوري ممن أثروا الشاشتين الصغيرة والكبيرة ودهاليز المسرح بأعمال عظيمة ورائعة مابين الكوميدي والتراجيدي والفنتازيا التاريخية والجرأة الاجتماعية، وغيرها من ألوان الفن التي حفرت بحروف من نور في ذاكرة الأمة العربية، فقد تعرض بعضهم منهم للفصل أو التنكيل بماضيه وحاضره، ومنهم من ظل صامتا داخل الوطن خوفا من غضب الأجهزة الأمنية الباطشة بيد نقيب الفنانين، فقد اعتاد هذا النقيب الأرعن الخروج ببيانات بين الحين والآخر، يشير فيها تارة بفصل هذا أو ذاك، و تارة أخرى يصدر تعليمات ساذجة على غرار بيانه الأخير، وعادة ما يصاحب بياناته نوعا من الوعيد والتهديد تنفيذها لتعليمات مسئول أمني أو صاحب نفوذ سياسي حتى تحول إلى شوكة كبيرة في ظهر الفن السوري برمته.
معروف أن زهير رمضان ممثل درجة ثالثة، ويبدو أن هذا قد ترك في نفسه نوعا من الحقد مصحوبا بتشوهات نفسية ينجم عنها تصرفات تتسم بالرعونة والاستكبار على من هم أكبر وأفضل وأهم منه قيمة ووطنية، ولا شك أن التغيرات الجيوسياسية التي وجدت في العالم، بعد عام 2011 وضعت خارطة فكرية وسياسية جديدة في المنطقة العربية وجعلتها على صفيح ساخن، فحالة الحرب المستعرة والتقلبات السياسية والأمنية التي تحيق بالجميع غيرت قواعد اللعبة، مما سبّب حالة من الانزياحات الفكرية والسياسية التي ظهرت آثارها على خارطة الدراما العربية والسورية، وهو ما حفر (زهير) على أن يهيل التراب على الفن السوري العريق.
ففي ظل وجود حالة الحرب في الداخل السوري والاستقطاب السياسي الذي فرضته من خلال النقابة، إضافة إلى خروج العديد من قامات الفن السوري نحو بلاد المهجر، وما رافق ذلك من آلية عرض الدراما السورية لدى العديد من القنوات العربية التي كان بعضها لا يرحب بهذا المنتج أصلا، لأسباب غير فنية، كل ذلك أدى خلال أعوام 2011 وحتى الآن إلى انحسار كبير في حجم إنتاج الدراما السورية، فكان عام 2017 الأقل إنتاجية بـ 21 عملا، لكن عام 2018 وما بعده حمل انتعاشا جديدا في الإنتاجات الدرامية السورية، فوصلت الحصيلة عام 2019 إلى 31 عملا قدمت خلالها العديد من المسلسلات التي عكست أجواء المجتمع السوري، ثم عاد التراجع مرة أخرى للأسباب ذاتها في عام 2021 بحيث لاتتجاوز المسلسلات عدد أصابع اليدين.
وبعد سنوات الانحسار، حصار النقيب الذي سلط على زملائه أيقن المنتجون أن طبيعة المادة المقدمة يجب أن تكون بعيدة عن المناوشات الاجتماعية والسياسية وما يمكن أن تولده من صدامات، فالعمل الاجتماعي حين يدخل المناطق الحارة اجتماعيا أو سياسيا يصبح في مواجهة مباشرة مع أجهزة الرقابة الفنية التي يمكن أن تعطل العمل أو تلغيه تماما، والمنتج يفضل ألا يدخل في مواجهة مع أجهزة الرقابة لخطورة ذلك على مجمل أعماله اللاحقة، ومخاطر الرقابة المحتملة ليست مع الداخل السوري فحسب، بل حتى مع رقابة الحكومات والقنوات العربية العارضة، فالمواضيع الاجتماعية قد تحمل في طياتها إسقاطات سياسية أو اجتماعية مختلفة أو متضادة مع غيرها، وهذا ما قد يولد انفجارات عاصفة في الرأي العام لدى جماهير القنوات العارضة أو حكوماتها، وبالتالي تكبّد الشركات المنتجة خسائر مالية هي في عنى عنها.
وهذا ما جعل المُنتج عازفا عن الولوج في متاهات تقديم دراما نزقة أو شرسة تحاول تحريك الساكن أو المتردّي، ويبقى محافظا على تقديم مواضيع اجتماعية حيادية مكرّرة، في المقابل، تأتي دراما البيئة الشامية طوق النجاة للمُنتجين كما حدث في موسم رمضان 2021، ففيها عوالم فنية جاذبة للجمهور، وهى التي تتناول في مجملها قصص حب وبطولات مفقودة في زمننا الراهن، والكثير من الحكايات الصغيرة المتعلقة بعنتريات (زهير رمضان) وغيره من الرجال وكيد النساء، ما يولّد لدى المشاهد حنينا إلى الماضي بزمانه ومكانه، وهى التي تطرح حالة من التسلية المبنية على أحداث افتراضية غير موثقة، وبالتالي لا تصطدم مع أي فكر أو تيار أو سياسة، فالمنتج هو حكاية شامية لطيفة يمكن أن تحكيها أي جدة لأحفادها قبل النوم، فيستريح العمل من متاعب الرقابة والترويج متجاوزا حدود الدول والرقابة المفروضة على بعض الأعمال الدرامية المثيرة للجدل، وهذا ما يجعل هذا الشكل الفني مطلوبا من الجميع، المُنتج والعارض.
لطالما عرفت الدراما السورية – التي سبقت أو عاصرت ظهور ضئيل جدا لـ (زهير رمضان) – بأنها مرآة للواقع، وتعالج قضايا المجتمع والاقتصاد والسياسة، وفي السنوات الأخيرة تناولت موضوعة الحرب بشكل مباشر أو كخلفية للأحداث، إلى جانب طرحها لموضوعة انعكاس الخراب النفسي والاجتماعي، لا سيما المتعلق بالأسرة السورية، اللبنة الاجتماعية الأساسية، لكنها مؤخرا باتت شبه منفصلة عنه، وهو ما يؤدي بالضرورة إلى (موت) الدراما السورية بعد مجدها، ولا يمكن لشيء أن يستوي أو أن يكون فعالا من دون علاقته بالواقع، خاصة ما يتعلق بأكثر المواضيع حميمية وإنسانية كالفن عموما والدراما خصوصاً.
الدراما السورية ياسيد (زهير) التي تهيل عليها التاراب شهدت لها سنوات مضت قدرتها على احتواء الواقع، وطرح الأسئلة الاجتماعية الأكثر حقيقية وضرورة، على عكس يومنا هذا، ما سبب ابتعاد جمهورِها عنها، خاصة بعد ارتفاع مستوى ذائقته إثر إفساح الإنترنت إمكانية الوصول إلى إي إنتاجٍ درامي عالمي، وتاليا إدراك المتلقين معايير الجودة لأي عمل درامي تلفزيوني، ولعل (سرّ الابتعاد الحقيقي) لا علاقة له بذاك الجنوح نحو الدراما الغربية، ففي ذات الوقت الذي لجأ فيه المتلقي السوري لمشاهدة game of thrones، breaking bad، see، black mirror، peaky blinders” ، أعاد أيضاً مشاهدة مسلسلات تجنح في غالبها إلى كلاسيكيات الدراما السورية من أعمال الفانتازيا التاريخية ودراما الجرأة الاجتماعية والكوميديا والرمانسية.
ومنها على سبيل المثال وليس الحصر (البركان، الفوارس، الكواسر، الجواؤج، العبابيد، الثعبان، الفرمان،) فضلا عن (أحلام كبيرة، الفصول الأربعة، التغريبة الفلسطينية، الزير سالم، ثلاثية الأندلس: ربيع قرطبة، صقر قريش، ملوك الطوائف) لحاتم علي الذي فصلته النقابة رفضت تأبينه، ومشاهدة أيضا (المرايا، ردم الأساطير، خان الحرير، الانتظار، غزلان في غابة الذئاب، أرواح عارية، أهل الغرام، نهاية رجل شجاع، دائرة النار،ما ملكت أيمانكم، غدا نلتقي، مسافة أمان، دقيقة صمت، أراك عصي الدمع، شبابيك، ما وراء الشمس، أسرار المدينة، الولادة من الخاصرة، جلسات نسائية، العراب، بانتظار الياسمين، وآخرها قيد مجهول وشيكاغو وعلى صفيح ساخن)، وغيرها من أعمال خاطبت ببساطة الإنسان فينا، لكن بات لدى أغلبية المشاهدين إحساس يتخلص بمقولة (هذا المسلسل لا يُشبهنا)، أي أن الابتعاد ليس وليد اختلاف آلية التلقّي عند الجمهور السوري، وإنما وليد خلل ضمن حرفة صناعة الدراما التلفزيونية السورية في يومنا هذا، انطلاقا من النص مرورا بالإخراج وجودة الأداء والإنتاج وفوق هذا خنق النقابة للمثل السوري.
ومما لاشك فيه أن (التيه الحاصل) في الدراما السورية ناتج عن هجرة الناس النجوم وضياع الهوية وضعف الصناعة، وفضلا عن كل ذلك انحسار دور النقابة التي يقف على رأسها (زهير رمضان) كشرطي درك في بلاط النظام، وهو مت هيأ الأجواء لهيمنة (مسلسلات البيئة الشامية) التي تصور فترة الصراع مع المحتل قبل إنشاء الدولة المستقلة، أي فترة الأحلام المستقبلية لبناء وطن مستقل، وربما جاء التركيز على الصراع ضد المستعمر في مخيلة المجتمعات التي تعرضت للاستعمار حيث يعود ذلك الحنين إلى (الوضوح الأخلاقي) لهذا الصراع، والذي يكون فيه أهل البلد مقاومين أخيار، والغرباء أو العملاء من الأشرار، دون أي تعقيدات أخرى.
ورغم أن هذه المسلسلات مُفعمة بالحنين للحارات والبيوت القديمة والعلاقات التقليدية بين الرجل والمرأة والطعام والأغاني التقليدية، إلا أنه من الممكن رؤية الحنين الأكثر حضورا لبساطة التركيبة السياسية، حيث تتخيل هذه المسلسلات معادلة تصور شعبا موحدا ضد محتل غاصب، وهى المعادلة الحاضرة في سوريا عبر الإعلام والفن ومناهج تعليم التاريخ، والتي تبني فكرة الوطن بشكل رومنسي مبسّط، فالوطن بحسب رؤية العديد من المسلسلات التاريخية، هو ما ضحى لأجله الشهداء وخانه العملاء، ويقتصر على فكرة مبهمة يطمع بها الأعداء، أما مسألة من هم السوريون، وما الذي يجمعهم تاريخيا أو يفرق آراءهم وأساليب حياتهم مثل (زهير رمضان وأمثاله) ، فهي أمور لا تبدو مهمة لأن الوطن يصور كحلم الغد وكفكرة مستقبلية، لا كسياق لحياة السوريين بكل مشاكلها وتعقيداتها الحالية.